“الختيار- التسوية”.. مسار يتنازل عن البندقية ويخسر غصن الزيتون
“الختيار”، سلسلة وثائقية أخرجها للجزيرة الوثائقية محمد بلحاج، وجعلها في ثلاث حلقات، هي “البدايات” و”التقلبات” و”التسوية“. وكلمة ختيار مفردة تركية الأصل تعني الشيخ (الحكيم)، وتأخذ في بلاد الشام معنى عميد القرية أو عمدتها، أما في الفيلم فقد جمعت المعنيين معا.
إعلان قيام دولة فلسطين.. بداية الأخطاء الإستراتيجية
أثناء دورة المجلس الوطني الفلسطيني الـ19 المنعقدة في الجزائر العاصمة بتاريخ 15 نوفمبر/ تشرين الثاني 1988، أعلن المجلس الوطني لمنظمة التحرير قيامَ دولة فلسطين وجعل القدس عاصمة لها، فمثّل بداية الأخطاء الإستراتيجية المدمّرة لثوابت فتح وللنضال الفلسطيني، مع ما يحمل في ظاهره من أمل.
فقد كان اعترافا ضمنيا بالقرار 242 لمجلس الأمن الدولي الصادر في 22 نوفمبر/ تشرين الثاني 1967، والذي لا تعترف به المنظمة، لكونه ينص على إنهاء حالة الحرب والاعتراف بإسرائيل، من دون أن يربط ذلك بحل قضية فلسطين، بل يعدها مشكلة لاجئين لا أكثر. وستتوالى مثل هذه الأخطاء لاحقا، ولكنها ستتخذ بعدا أكبر وأخطر.
حرب العراق.. تقديرات خاطئة أفسدت ودّ الخليج
لم يصرّح عرفات المناور قط بموقف حاسم من دخول القوات العراقية للكويت يوم 2 أغسطس/ آب 1990، فقد كان موقفه مركّبا فهمته دول الخليج على أنه مناصرة لصدّام، لمعارضته لأي دور أمريكي في تحرير الكويت، بينما ذهب التفسير الفتحاوي إلى أنّ عرفات كان مع تحرير الكويت، ولكنه يرى أن الأمر شأن عربي، يجب أن يكون في إطار عربي ليس فيه تدخل أمريكي.
وبعيدا عن هذا التفسير أو ذاك، تكشف صور لقائه بصدام بعد احتلال الكويت طبيعة الزيارة الاحتفائية التي بدت تهنئة أكثر من كونها بحثا عن حل لما كان يبديه من البهجة وهو يناقش مع الرئيس العراق فعلا يناقض مبادئ المنظمة نفسها، فالفلسطينيون يعملون على التحرر من الاحتلال، ومن منطلق مبدئي وأخلاقي يجب ألا يقبلوا باحتلال دولة أخرى.
لقد كان لتلك المشاهد وقعها على كل منطقة الخليج كلّها، فعُدَّ عرفات خائنا لفضل الكويت، بعد أن كان قد جاءها في الخمسينيات للعمل قادما من مصر، وهناك التقى برفقاء دربه، وخطّطوا لتأسيس فتح و”بناء هيكل ثوري يضع الفلسطينيين أمام مسؤولياتهم”.
وبعيدا عن الاتهام بالتخوين أو التآمر على الكويت، فقد أخطأ عقل عرفات البراغماتي الحساب، فقدّر أنّ العراق -بتقدمه الصناعي وبتجربته التي اكتسبها في حربه مع إيران- سيمثّل عامل توازن إقليمي سيعوض للفلسطينيين دور مصر المتقهقرة.
غير أن هذا العقل الذي “وضع بيضه كلّه في سلّة صدّام”، لم يكن متحفّظا، ولم يفهم أنّ القرار الأمريكي بتدمير العراق كان قد اتُخذ، ولم يأخذ بعين الاعتبار ردّة الفعل الخليجية التي كانت ترى استهداف الكويت استهدافا لكافة دول منظمة التعاون الخليجي.
بعدها بات عرفات يعيش عزلته الشديدة، فقد خسر كلّ حلفائه الفاعلين، وما زال الفلسطينيون يدفعون ثمن ذلك إلى الآن، مع موجة التطبيع الخليجية الإسرائيلية.
مؤتمر مدريد.. لعبة عبثية أجهضت قبل الميلاد
لم يكن إعلان الدولة من قبل المجلس في 15 نوفمبر/ تشرين الثاني 1988 في الحقيقة سوى خطوة تمهد لأفق ما لحلّ القضية الفلسطينية عبر المفاوضات. ثم جاءت حرب الخليج بتعقيداتها المختلفة.
ومقابل تدمير العراق وتقسيمه إلى ثلاثة قطاعات لا يسيطر النّظام فعليا إلا على القطاع الأوسط منها، ولا يحق لطيرانه التحليق شمالا أو جنوبا، أراد الرئيس الأمريكي “جورج بوش الأب” أن يقدّم هدية ما لحلفائه العرب، فدعا لمؤتمر دولي للسلام يمهّد لمفاوضات الحل النهائي بين العرب وإسرائيل.
انعقد المؤتمر في مدريد بين 30 أكتوبر/ تشرين الأول و1 نوفمبر/ تشرين الثاني عام 1991، وكان برعاية الولايات المتحدة والاتحاد السوفياتي، وشاركت فيه وفود من سوريا ومصر ولبنان، وقبِل الفلسطينيون بمشاركة مقنعة، ضمن وفد مشترك مع الأردن، اقتصر على فلسطينيي الأراضي المحتلة.
لكن المؤتمر انعقد في ظلّ لاءات إسرائيلية أربعة كانت تعلن فشله قبل أن يبدأ، وهي أن لا تشارك منظمة التحرير في المفاوضات، ولا يَجري أي حديث عن دولة فلسطينية مستقلة، ولا تكون للمؤتمر أي صيغة إلزامية، ولا تترتب عليه أي مواقف أمريكية.
وفي خضم ذلك كله طرأت أحداث أجهضت هذا المسار الهشّ برمته، ففي 1992 خسر “جورج بوش الأب” انتخاباته ضد “بيل كلينتون”، وفي إسرائيل خسر “إسحاق شامير” انتخاباته لصالح “إسحاق رابين”، فبدأ مسار آخر سرّي أفضى إلى توقيع اتفاق أوسلو، الذي أصبح خطيئة عرفات ومنظمة التحرير الكبرى.
اتفاق أوسلو.. خطيئة تنسف التاريخ ولا تربح الحاضر
يبدو أن اليسار الإسرائيلي فهم أنّ عرفات فقد الكثير من صلابته، بسبب حالة العزلة التي أضحى يعيشها، ولبعده عن الأراضي الفلسطينية التي هي ميدان الفعل الثوري الحقيقي، ولخسارته أهم حلفائه في المنطقة، نتيجةً للسياق العالمي الجديد، أو لحسابات خاطئة وقع فيها.
وقد عمل “إسحاق رابين” على ترويض الثورة الفلسطينية وتجريدها من مخالبها، فعقد اتصالات غير معلنة مع المنظمة، واقترح مسارا للتسوية، يتضمن تنازلات موجعة.
وتبرر السياسية حنان عشراوي -ممثلة منظمة التحرير الفلسطينية في محادثات سلام الشرق الأوسط في مدريد 1991- هذه الخطوة أو تفسرها على الأقل، بأن عرفات قد قرأ الواقع، وانتهى إلى أنه خسر التحالف العربي الأمريكي المحرر للكويت، وأنه وضع نفسه في الزاوية وبات يقف وحيدا، وكان يبحث عن موطئ قدم ما في الأرض المحتلة، ليدفع بالقضية الفلسطينية نحو قدر جديد.
وكان من شروط الاتفاق إدانة الفلسطينيين للإرهاب، ووقف العمليات الخارجية، والمقصود هنا تلك العمليات الوطنية الموجهة ضد المحتل. لذلك يجد رفاق عرفات في الجبهة الشعبية أنه يعصف بماضي المنظّمة وماضي عرفات النضالي.
وحسب منير شفيق -وهو سياسي وكاتب فلسطيني- لم يكن هذا الاتفاق وحده خطأ، بل مسار المفاوضات بأسره، فعرفات الذي عرف بكونه سياسيا براغماتيا، فقد مميزاته فيها، فلم يستطع فرض التزام مجبر لإسرائيل بإيقاف الاستيطان، وفي المقابل، قيّد نفسه معها على المستوى القانوني ببنود صارمة.
إرجاء إعلان الدولة.. سلطة تؤدي وظيفة الشرطي لدى الاحتلال
ومن أهم عيوب اتفاق أوسلو، إرجاء الإعلان عن الدولة الفلسطينية لأجل غير مسمى، والانتقال لممارسة السلطة في رام الله.
وهنا تكمن المفارقة، فقد ظلت فلسطين محتلة، والاحتلال يستدعي العمل الثوري، ولكن عرفات كان يمارس السلطة ويقود حكومة على الأرض، وهو الوضع الذي يفرض عليه التقيد باتفاقيات لا يمكنه التّخلص منها، وبالمقابل يمكن لعدوه أن يفعل ما يشاء لأنه الأقوى، ولأنه يمثل دولة مارقة ذات مباركة عالمية. وبسبب ذلك، فرّط اتفاق أوسلو في الأهداف الإستراتيجية التي كان الفلسطينيون يريد الوصول إليها.
نقل اتفاق أوسلو حركة فتح -وهي العمود الفقري للحركة الوطنية الفلسطينية- من الثورة إلى ممارسة السلطة بما تقتضي من الالتزامات والإكراهات، ونقل عدة فصائل أخرى رافضة للاتفاق من موقع المقاومة إلى موقع المعارضة، فتحوّلت العلاقة بين مختلف الفصائل من التعاون ووحدة الهدف إلى الصراع.
ومن هذه الالتزامات اعتقال المناضلين والتنسيق الأمني مع إسرائيل لحفظ أمنها، وهي أعمال مناهضة تماما للمشروع الذي قاده ياسر عرفات وقادته فتح في صلب منظمة التحرير الفلسطينية.
وهكذا تكرست سيطرة الاحتلال وتوسّع الاستيطان، واختزل دور السلطة في دور الشرطي الذي يقوم بحملات الاعتقال التعسفية ضد المقاومين. وبدأت تتضح الصورة لياسر عرفات شيئا فشيئا، فهذا الاتفاق لم يكن جسرا يعبر بالفلسطينيين نحو تحقيق مشروعهم الوطني كما كان يريد له، بل تحوّل إلى مقبرة له.
سفينة رام الله.. أمواج متلاطمة ومغانم تسيل لعاب الطامعين
في أثناء كل ذلك، عاش ياسر عرفات متقمصا دور الثوري بما يحتاج من القوة والقدرة على اتخاذ القرارات الصعبة، ولكن جسد الصقر كان ينطوي على قلب حمامة، فقد كان ذلك الثوري الصلب محبا للأطفال والنساء الكبار ويقدر المرأة، وقد حافظ على هذه المميّزات وهو يمارس السلطة، فكان زعيم القبيلة أو الأب الحنون الذي يصرف الصكوك بنفسه لمن يحتاج المساعدة للسفر للعلاج من المسؤولين مثلا.
ولكن ممارسة السلطة هي إدارة للشأن العام بكل ما للإدارة من دور في الدولة الحديثة، فتكون مسؤولة عن جمع البيانات وتوفّر الموارد، وتستشرف الآفاق، وتخطط وتشرف على التنفيذ. وباختصار تمثل الإدارة عقل الدولة المفكر الذي يستهدف تحقيق أفضل النتائج بأقصر السبل والتكاليف، والمدبر بأسلوب فعّال بناء على الاختصاص والخبرات.
وفي الآن نفسه، يترك عقل الدولة آثارا للرقابة وللحد من الفساد والتجاوزات، بما يضمن بقاء هذه المؤسسات ويجعلها قادرة على الاستمرار والحياة وإن غاب مديروها أو استُبدلوا. ولكن في حالة السلطة الفلسطينية كان هذا العنصر مفقودا، فلم يستطع عرفات تشكيل إدارة تساعده على بناء الدولة، وظل الرجل الذي يشرف على كل شيء.
ولأن من شأن السلطة أن تثير الأطماع وتسيل اللعاب، وفي غياب الأدوار الدّقيقة، عمل بعض المحيطين بعرفات على الاستئثار بمغانم من السلطة، فأثيرت حولهم الشبهات. وعند تنبيهه إلى هذه الظاهرة بدا واعيا تماما بها، ولكن كانت له فلسفته الخاصة، فقد واجه منتقديه بأن التاريخ لن يحاسبه على هؤلاء، وإنما سيحاسبه فقط إن كان سيعبر بهم إلى بر الأمان وسيستعيد بهم القدس، ولكن سيتضح في النهاية أن هؤلاء قد عبروا بعرفات إلى أهدافهم لتكوين الثروة، ثم تواطؤوا مع إسرائيل لاغتياله.
“كامب ديفيد”.. فخ انكشف بعد فوات الأوان
كان عرفات في الأمم المتحدة 1974 يردّد أنه جاء إلى أرض أمريكا حاملا بندقية الثّائر وغصن الزّيتون، طالبا أن لا يسقطوا غصن الزيتون من يده.
ولكن قمة “كامب ديفيد” ستفعل ذلك، فقد جمعته برئيس الوزراء الإسرائيلي “إيهود باراك” برعاية الرئيس الأمريكي “بيل كلينتون”، وكانت في ظاهرها محاولة لإنهاء الصراع الإسرائيلي الفلسطيني، والتوصل إلى اتفاق حول قضايا الوضع النهائي كالأرض والقدس، وذلك في ظل فشل إقامة الدولة في غضون خمس سنوات من تنفيذ الحكم الذاتي الفلسطيني.
وتعرض حنان عشراوي ظروف هذه القمّة، مبرزة ما مورس على عرفات من الضغط لتقديم التنازلات. ولمّا رفض ذلك سوّق “باراك” أنه قد بذل كلّ ما في وسعه من أجل السلام، وأن تصلّب عرفات حرمه من تنازلات عدة قدموها له، مؤكدا أنه أراد أن يذهب إلى هناك ليكشف للعالم حقيقته.
وحينها توضّحت الصورة لعرفات نهائيا، فالقمة كانت فخا نُصب للفلسطينيين لتحصل إسرائيل على التنازلات التي تريد، أو لتتنصل من تبعات اتفاق أوسلو، على ضحالتها. وكان لا بدّ أن يتنصّل منها هو أيضا بعد أن أسقطوا غصن الزيتون من يده.
وهنا، بحث عرفات عن بندقية المقاوم، وبدأ يجهّز للانتفاضة الثانية التي عرفت بانتفاضة الأقصى 2000، وأعطى الضوء الأخضر لتكون مسلحة، ودعم حركة حماس، ورفع القيود على السلاح، وقد ضبطت إسرائيل باخرة محملة بما قيمته 15 مليون دولار من الأسلحة قرب شواطئ غزّة.
ولكن الثائر كان قد حاصر نفسه في مقر السلطة، ولم ينصت لنصائح معارضيه بأن يترك بناء السلطة لفلسطينيي الداخل ويظل هو ثائرا في المنفى، فاستهدفه “شارون” في عملية “السور الواقي”، وحاصر مقر السلطة، وقطع عنها وعن موظّفيها وعن المتعاطفين من لجان الحماية الدولية من الحقوقيين -الذين هبوا لتشكيل درع بشري يحمي عرفات من التصفية الجسدية- الكهرباءَ والماءَ والغذاءَ، وحاول إذلاله.
“ليذهب إلى الجحيم”.. آلة تصوير تنهي مسيرة من الكفاح
انتقل الاحتلال الإسرائيلي من محاولة القضاء على رمزية ياسر عرفات النضالية إلى تصفيته جسديا، وكان قد حاول استهدافه 14 مرة لما حاصر قواته في بيروت.
وقد عبّر في لقائه مع “بوش الابن” عن ذلك وفق ما يسرد في سيرته، وحين أجابه الرئيس الأمريكي أنّ هذا الأمر يعود إلى الله، أجابه “ولكن علينا أن نساعد الله قليلا”، فقد تمثلت مساعدته في تسميم عرفات بمادة البولونيوم المشع الذي يتسرب على شكل شحنات صامتة تستهدف الضحية من خلال كاميرات التصوير.
ولما نقل عرفات المصاب بالتسمم إلى فرنسا، طلب الرئيس الفرنسي “جاك شيراك” من “بوش” أن يتدخل عند القادة الإسرائيليين، ليرسلوا له الترياق المضاد لتسممه، فكانت إجابته: “ليذهب إلى الجحيم”.
لقد ادعت إسرائيل مساعدة الرب في التخلص من ياسر عرفات في 11 نوفمبر/ تشرين الثاني 2004، وحاولت أمريكا أن تحدد وجهته إلى الجحيم بعد موته. أما هو فكان يردد في أيامه الأخيرة: “يريدونني إما أسيرا وإما طريدا وإما قتيلا.. لا، أنا أقول لهم شهيدا شهيدا شهيدا”.