“مزيلو الألغام”.. شبح الموت يرافق تطهير الفوكلاند من ألغام الحروب

يحرص المخرج السويسري “مايكل يورس ريبر” على إنجاز أفلام نوعية لافتة للانتباه، فلا غرابة في أن يكون مُقلّا في إنتاجه، لأنه لا يعير اهتماما للكم الذي لا يُضيف شيئا لرصيد المخرج المبدع، ولا يُثري جُعبته السينمائية.
وقد أنجز حتى الآن ثلاثة أفلام بعد تخرجه في جامعة ميونخ للتلفزيون والسينما، وهي “هايبرلي” الوثائقي القصير الذي يدور حول ذئب وحيد عالق في غابة من ورق، والفيلم الوثائقي القصير الذي انضوى تحت عنوان “عن الموت” ومدته 11 دقيقة لا غير، أما فيلمه الثالث “مُزيلو الألغام”، فهو فيلمه الوثائقي الطويل الأول الذي تبلغ مدته 75 دقيقة، ويرصد فيه تطهير جزر الفوكلاند من 25 ألف لغما ضد الأشخاص والعجلات وتفجيرها كليا بعد عمل متأنٍ ودؤوب استغرق قرابة الأربعين سنة، لتصبح آمنة لأهلها وللقادمين إليها من مختلف أرجاء العالم.
ألغام الفوكلاند.. مهنة الأموال الوافرة والأثمان الباهظة
لا يكتفي المخرج برصد الشخصيات الرئيسية الثلاث، وهم “شيمي مابيولانغا” و”كوزيماس نادانغا” و”بريفيوس مافير”، وإنما يتعداها إلى عوائلهم الكبيرة نسبيا، ويغوص في التفاصيل الصغيرة لزوجاتهم وأبنائهم وبناتهم، وكيف ينظرون إلى المهنة الخطيرة التي تُدرّ عليهم أموالا جيدة، لكنهم قد يدفعون الثمن باهظا إذا ما ارتكبوا خطأ بسيطا يفضي بهم إلى الموت، أو الإعاقة الدائمة في أفضل الأحوال.
لا يقتصر الفيلم على العمال الزيمبابويين الخبراء في رفع الألغام وتفجيرها، وإنما يمتد إلى شخصيات بريطانية أخرى، مثل المدير التقني “جون هير”، وغيره من العاملين في قيادة الجرافات والحفارات والآلات الميكانيكية الأخرى.
ثمة حيوانات وطيور متنوعة تعيش في جزر الفوكلاند ذات المناخ القطبي والكثبان الرملية التي تتكسّر عليها أمواج الأطلسي، وتجرف عددا من الألغام وتطمرها تحت رمال السواحل، لتشكل خطرا أبديا لكل من يطأ تحت البقعة النائية من العالم.
“تبقى جزر الفوكلاند إقليما بريطانيا”.. حرب كلامية وعسكرية
يعتمد المخرج على التقنية الميتاسردية التي تتجلى من خلال توظيفه لأخبار تلفزيونية أذاعت بيانات وتصريحات بريطانية على لسان الملكة “إليزابيث الثانية”، وتصريحات مضادة لها وردت على لسان الرئيس الأرجنتيني “ليوبولدو غالتييري” الذي غزت قواته جزر الفوكلاند في 2 أبريل/نيسان عام 1982، وقد استمر النزاع لمدة 72 يوما راح ضحيته 649 عسكريا أرجنتينيا، و255 جنديا بريطانيا، كما قُتل ثلاثة مدنيين من جزر الفوكلاند التي تخضع للقيادة البريطانية منذ 150 عاما.
وقد علّقت الملكة بأن “جزر الفوكلاند تبقى إقليما بريطانيا، ولا يستطيع أي عُدوان أو غزو أن يغيّر هذه الحقيقة البسيطة”. أمّا الجنرال “غالتييري” فقد رد قائلا “بإمكانهم أن يأتوا لو أرادوا ونحن متأهبون للمعركة”.
لكن الملكة وضعت النقاط على الحروف حينما صرحت بيقين ثابت قائلة: قواتنا وصلت ضواحي ميناء ستانلي، وعدد من أفراد القوات الأرجنتينية ألقوا سلاحهم، وهناك أخبار بأنهم يلوّحون بالأعلام البيض فوق الميناء.
زراعة الألغام.. جريمة تشوه الإنسان وتقتل الحيوان
يصرّح أحد الضباط البريطانيين بأن غزو القوات الأرجنتينية واحتلالها لجزر الفوكلاند قد خلّف 25 ألف لغم ضد الأشخاص والعجلات، وأن هناك جنديين بريطانيين قد بُترت أقدامهم بسبب هذه الألغام التي زرعوها بشكل عشوائي حول الطرق المؤدية إلى العاصمة ستانلي.

لا يريد المخرج أن يستغرق في الحديث عن الحرب، ومن هو المنتصر أو الخاسر فيها، لأن قضية الفيلم الأساسية هي تطهير الجزر من الألغام ثم تفجيرها، وجعل البلد متاحا للمواطنين وللسيّاح الأجانب.
هذا الفيلم مثل أفلام أخرى عدة، يقرع جرس الإنذار، ويدعو إلى تجريم زراعة الألغام نتيجة لأخطارها الجمّة على الإنسان والحيوان والطبيعة، خاصة إذا ما عرفنا أن هناك أكثر من 111 مليون لغم ناشط على كوكب الأرض، وأنها تقتل أو تشوّه أكثر من خمسة آلاف إنسان سنويا، وتقتل أضعاف هذا الرقم من الحيوانات في بلدان أفريقية وآسيوية على وجه التحديد.
زيمبابوي المنكوبة.. خبرة في تطهير الأرض من الألغام
تسعى بريطانيا منذ العام 1982 إلى تطهير جزر الفوكلاند من الألغام المزروعة فيها، لكن اللافت للنظر أن الخبراء الذين انهمكوا في نزع الألغام وتدميرها هم من العمال الزيمبابويين الذين يتركون عوائلهم ويتغربون عن ديارهم أشهرا طويلة، وذلك لبُعد المسافة بين زيمبابوي وجزر الفوكلاند، مع أن رواتبهم إنما تتراوح بين 500-2000 دولار شهريا، رغم خطر البتر أو التشوّه أو الموت.
ولو عُدنا قليلا إلى الوراء لوجدنا أن زيمبابوي قد زرعت في حدودها الشمالية والشرقية قرابة 3 ملايين لغم خلال الحرب الأهلية بين عامي 1974-1979، وقد اكتسب الزمبابويين خبرة كبيرة في رفع الألغام، وتطهير أراضيهم من هذا السرطان الذي يفتك بالجميع، ويُعطّل الحياة في المناطق الموبوءة، لهذا يُفضّل البريطانيون العمال الزيمبابويين على غيرهم، ويستقدمون العشرات منهم لكونهم خبراء في هذا المضمار، ويفضّلون أن يكونوا من بيئة واحدة وثقافة مشتركة.
ينتقل المخرج من الأجواء الموضوعية العامة إلى الفضاءات الذاتية الخاصة لنتعرف على رافعي الألغام والأخطار الجمة التي يواجهونها يوميا، ومعاناتهم الشخصية المتمثلة بنأيهم عن زوجاتهم وأطفالهم الذين يكبرون بعيدا عن أعينهم.
“جندي يحمي الوطن من الأعداء”
تُعدّ عائلة “شيمي مابيولانغا” وزوجته “فلورا سابورا” الأكبر بين العائلات الثلاث، إذ تتكون من 12 فردا، من بينهم “ميلودي” و”فكتور” و”نايجل” وديفاين” و”ماكاناكا” وآخرون ظهروا أمام الكاميرا، لكنهم لم يتحدثوا عن أنفسهم، لكننا سنعرف بأن “ميلودي” قد أنهت دراسة التخطيط المدني، ويتمنى “فكتور” أن يكون موسيقيا، فيما اختار أخوه الأصغر سنّا أن يكون مهندسا. وعلى الرغم من خطورة مهنة والدهم فهم لا يجدون ضيرا في أن يكونوا رافعي ألغام، فهي بالنتيجة مهنة مثل بقية المهن، لكنها تحتاج إلى جدية وشجاعة ورباطة جأش.

يملك “شيمي” بيتا للسكن ومزرعة لتربية الماشية، ولا تشتري عائلته الفواكه والخضراوات من السوق، لأنها متوفرة في المزرعة التي يعمل فيها بعض الفلاحين ومربو الماشية.
أما الشخص الثاني الذي أخذ حيزا كبيرا من الفيلم فهو “كوزيماس نادانغا” وزوجته “تينا نادانغا”، ولديهما ولد وبنت يمتلكان بكل ما يحلم به طفل في زيمبابوي، بدءا من الدراجة الهوائية وانتهاء بجهاز الحاسوب، كما أن والدهما يمتلك سيارة حديثة ونزلا فارها إذا ما قسناه ببقية البيوت المجاورة له.
لم يعرف “كوينسي” الابن مهنة والده، ويرى بأنه “جندي يحمي الوطن من الأعداء”، وهذا الأمر ينسحب على العائلة السابقة أيضا، فقد كانت “ميلودي” تظن والدها يعمل في المطار، لأنهم كانوا يأخذونه من البيت إلى المطار، وحينما يعود يستقبلونه في المطار ويأخذونه إلى المنزل، وكالعادة فإن زوجته “تانيا” تشعر بالوحدة كلما غاب لعدة أشهر، حتى أن بعض الناس كانوا يتصورونها عزباء.
ينفرد الشخص الثالث وهو المُسعف “بريفيوس مافيرا” بالتكتم وعدم الرغبة في البوح بأسراره الزوجية والعائلية، فلم يُشر إلى اسم زوجته، واكتفى بالحديث عن واحد من أولاده، وهو “مولاكاي”، ثم تفادى الإشارة إلى بقية أولاده الثمانية الذين يعيشون مع أمهم في مدينة موتاري، بينما يقيم هو في شلالات فكتوريا المنطقة الأكثر جمالا في زيمبابوي.
يشكو “بريفيوس” من شغفه بالسفر والعمل في بلدان بعيدة تعاني من تلوث الألغام، ورغم خطورة مهنته إلاّ أنه شغوف بها، ويشبهها غالبا باللعب مع الأفاعي، فأنت آمن طالما أنك تتقن شروط اللعبة، لكنك قد تُلدَغ إذا ما افتقرت إلى هذه المهارة.
دعوات السلامة.. رافعو الألغام الإيطالية في وجه العاصفة
اختار المخرج شخصية المدير التقني “جون هير” الذي يقود مجموعة رافعي الألغام بعد أن يحدد لهم المواقع على الخريطة، ويتابع تحديدها على الأرض قبل رفعها وإبطال مفعولها.
ثمة ألغام معقدة تنفجر غالبا بوجوه العمال ممن ليست لديهم خبرات كافية، ومع أن غالبية الألغام إيطالية، فإن بعضها معقد جدا، ولا يعرفون كيفية تحييدها، الأمر الذي يسبب لهم خسائر في الأرواح البشرية التي لا تُقدّر بثمن، فلا غرابة أن نرى “شيمي” وهو يطلب من “تشوبك ممبر موأمبا” أن يصلي من أجلهم، ويدعو لهم بالسلامة والأمان قبل الشروع بالعمل في رفع الألغام، مع العلم أن جميع العاملين منضبطون ومتصالحون مع أنفسهم، ولا يعانون من ضغوطات نفسية أو توترات عصبية ملحوظة.

يحتشد الفيلم بالمعلومات القيّمة عن أنواع الألغام وطريقة اشتغالها، وكيفية تحييدها ورفعها من الحقول، سواء أكانت عشوائية أم منتظمة، فاللغم الإيطالي يزن 3.3 كغم وقوّته التفجيرية هي 2.1 كغم.
وقد رصد المخرج نوعين من الألغام المستعملة ضد الأشخاص وضد الدبابات والعجلات، ويحتاج لغم ضد الأشخاص إلى 8 كغم لكي ينفجر، بينما يحتاح لغم العجلات والدبابات إلى وزن أكبر قد يصل إلى 150 كغم، وهناك ألغام بحرية لم يتطرق إليها المخرج مع أنها مستعملة في الساحل الذي يطوّق ميناء ستانلي.
إصابات الألغام.. خطأ واحد يقتل إنسانا ويشوه آخرين
رغم حذرهم الشديد، فهناك حوادث متفرقة تقع بين آونة وأخرى فيما يتعلّق بالألغام المعقدة التي تحتاج إلى خبرات واسعة قد لا تتوفر عند الجميع، ويروي لنا “كوزيماس” قصة زميل له في العمل انفجر اللغم بوجهه على مسافة 50 مترا منه، وحينما أسرع إليه وجده قد فقد يديه وأصبح مُعاقا، ولا يستطيع أن يؤدي أي عمل آخر في المستقبل ما لم يُركّب ذراعين صناعيين ذكيّين، وهذا أمر صعب في بلد مثل زيمبابوي.
ومن المعروف أن كل 5 آلاف لغم تُزال عالميا يموت فيها شخص واحد ويُصاب اثنان. لا تتمنى “تينا” زوجة “كوزيماس” أن يعمل أحد أبنائها في إزالة الألغام، وهي قلقة على زوجها كلما غادر في مهمة لرفع الألغام، لأنها تعرف أنها مهنة غير آمنة، رغم أن مردودها المادي جيد قياسا بفرص العمل الضئيلة الموجودة في زيمبابوي.
يعود بنا المخرج إلى الشخصيات الرئيسية الثلاث، وهم “شيمي” و”كوزيماس” و”بريفيوس”، ويكشف لنا عن حياتهم اليومية التي تتوزع بين العمل وتناول وجبات الطعام، وتمضية أوقات الراحة في لعب البلياردو ومشاهدة التلفزيون والتواصل مع الأهل والأولاد عبر الهواتف النقالة صوتا وصورة.

ومن جماليات هذا الفيلم البصرية أن جزر الفوكولاند مكتظة بطيور البطريق، بينما تحتشد زيمبابوي بالأبقار والزرافات والفيلة والحيوانات الأخرى التي تكسر إيقاع الفيلم، ورتابة قصته التي تتعلّق بنزع الألغام وتحييدها وتفجيرها.
تطهير جزر الفوكلاند.. نزهة الزيمبابويين في بلاد لا حرب فيها
من الجدير بالذكر أن رافعي الألغام الزيمبابويين قد اكتسبوا خبرتهم من العمل بإزالة الألغام في منطقهم الحدودية مع موزمبيق التي زُرع فيها أكثر من ثلاثة ملايين لغم، وقد أزالوا القسم الأكبر خلال العقود الماضية، ومن المؤمل أن ينتهوا منها بحلول العام 2025.
أما العمل في تطهير جزر الفوكلاند فيعتبره الخبراء الزيمبابويين أشبه بالنزهة، لأنها بلاد لا حرب فيها، وقد أصرت الحكومة البريطانية على تنظيفها من الألغام وجعلها آمنة للسكان المحليين وللسياح الأجانب.
لكن في المناطق الأخرى التي تشتعل فيها الحروب مثل أفغانستان والعراق، يكون العمل شاقا ومحفوفا بالخطر، خاصة أن هذين البلدين كانا يتعرضان إلى هجمات انتحارية تستهدف الأماكن الحساسة ونقاط التفتيش والتجمعات السكانية.
أبطال الفيلم.. عودة إلى البلاد بعد انتهاء المهمة
يخلص المخرج إلى القول إن إزالة 25 ألف لغم في جزر الفوكلاند قد استغرق قرابة الأربعين عاما، لكن النتيجة كانت مدهشة حينما شاهد مئات السكان المحليين والسياح البريطانيين والأجانب وهم يركضون بفرح ومرح في الأرض المفتوحة التي طُهرت كليا من الألغام، وصار بإمكان الناس أن يفعلوا كل ما كان محظورا عليهم في السنوات السابقة.
وفي المشهد الختامي نرى الشخصيات الثلاث “شيمي” و”كوزيماس” و”بريفيوس” وهم يغادرون البلاد التي طهّروها من الألغام، ويتوجهون إلى المطار في طريقهم للقاء الأهل والأحبّة الذين فارقوهم زمنا طويلا نسبيا.

قبل أن يطوي الفيلم صفحته الأخيرة يقدم لنا المخرج نبذة مختصرة عن كل شخصية على انفراد، فـ”شيمي مابيولانغا” يعمل الآن في مزرعته لكي يُطعم أفراد عائلته، ويحاول أن يؤمن لهم دخلا موازيا للراتب الذي كان يتقاضاه من نزع الألغام.
أما “كوزيماس نادانغا” فهو في منزله الجديد مع عائلته منذ سنة تقريبا، لكنه يائس من العثور على عمل يسدّ احتياجاته اليومية، وأما المُسعف “بريفيوس مافيرا” فقد وجد عملا مشابها في حقول ألغام شرق زيمبابوي التي تحتاج إلى كثير من المُسعفين والممرضين الذين يتوفرون على خبرات طبية لا تنتهي حاجتها في تلك المضارب.
من الجدير بالذكر أن “مايكل يورس ريبر” من مواليد مدينة ستانس سنة 1989، وقد تخرج في قسم الفنون البصرية والتصميم الغرافيكي في لوسيرن، ودرس أيضا في جامعة ميونخ للتلفزيون والسينما، وتخصص في مجال الإنتاج الوثائقي والصحافة التلفزيونية.
أنجز “ريبر” فيلمين قصيرين، وهما “هايبرلي” و”عن الموت”، أما “نازعو الألغام” فهو فيلمه الوثائقي الطويل الأول الذي عُرض في الدورة الـ58 لمهرجان زولوتورن السينمائي في سويسرا، المنعقد خلال الفترة من 18 وحتى 23 يناير/كانون الثاني عام 2023.