السينما اليابانية.. صناعة تستعيد ألقها من تحت رماد الكوارث والحروب

منذ قرون كثيرة سكن طائرُ الفينيق الناري وجدانَ كثير من شعوب العالم، وظلّت تجربة احتراقه وانبعاثه إلى الحياة من رماده مصدرا سخيّا للإلهام، وهي من أكثر الاختبارات التي ابتدعتها مخيّلة الإنسان إيلاما وإلهاما.

كان الفينيق طائرا أسطوريا ادّعى قليلون مشاهدته وتجلّيه أمامهم، ونُقلت الروايات عنه بشغف، تماما مثلما يتحدث المشغوفون بالسينما اليابانية التي عاشت قرابة أربعين عاما، قبل أن تحترق الأفلام بنيران قنابل الحرب العالمية الثانية، ويُدفن بعضها في ركام خلّفه زلزال مدمّر، لتنبعث من جديد من تحت رماد ذلك الدمار بعد أقل من عقد من الزمن، وتنسج قصصها من روايات الحروب والكوارث، ومن وجه اليابان الجديد الذي تشكّل بعد كل تلك المآسي.

زلزال كانتو.. كارثة تطمس ملامح السينما الأولى

في فاتح سبتمبر/أيلول عام 1923 اهتزّ سهل كانتو الممتد على جزيرة هونشو اليابانية، وهي أكبر المقاطعات اليابانية، وتحمل على ظهرها أيضا العاصمة طوكيو، فقد ضربه زلزال قُدّرت قوته بـ7.9 على سُلّم ريختر، ولفظ الزلزال عشرات الآلاف من القتلى والمصابين، وأتى على جزء كبير من طوكيو ومدن أخرى.

لفظت تلك الرجة الأرضية جثث المقيمين في سهل كانتو، ودُفنت في المقابل في أحشاء البنايات المدمّرة مئات بكرات الأفلام اليابانية، لتُطمس أغلب ملامح السينما اليابانية الممتدة على قرابة عقدين من الزمن قبل تلك الكارثة. يقول المخرج الفرنسي المتخصص في السينما اليابانية “باسكال أليكس فانسان” إن زلزال كانتو تسبّب في حرائق كثيرة، وخلّف دمارا كبيرا جدا لأستوديوهات الإنتاج السينمائي ولبكرات الأفلام، ودُفن جزء من تاريخ أولى بدايات السينما الصامتة في اليابان تحت ركام البنايات المنهارة.

لم يمر عقد من الزمن حتى اختبر اليابان محنا أخرى، فلم يكد ينقشع ألم دمار زلزال كانتو، حتى اهتزت إحدى جزره مرة أخرى بفعل زلزال مدمر في العام 1933، وبحلول العقد الرابع من القرن العشرين، أصبح اليابان طرفا في الحرب العالمية الثانية، واختُبر على أرضه أبشع سلاح اخترعه الإنسان؛ القنبلة الذرية.

يقول “باسكال أليكس فانسان” إن قرابة 90% من أفلام ما قبل سنة 1945 ضاعت أو أُتلفت، وهو ما يعني طمس قرابة نصف قرن من عمر بدايات السينما اليابانية، وقد صارعت السينما اليابانية ليس من أجل البقاء فحسب، بل من أجل التفرد أيضا، ونالت ثمار كفاحها بتتويجات بأفخم الجوائز، ولعل آخرها حصول فيلم “قودي سيارتي” (Drive my Car) للمخرج “ريوسوكي هاماغوتشي” على جائزة الأوسكار لأفضل فيلم أجنبي للعام 2022.

“شيباتا”.. وريث المؤسسين الفرنسيين في اليابان

في أواخر القرن التاسع عشر جاب الأخوان الفرنسيان “أوغيست” و”لويس لوميير” الأرضَ ليبشّرا العالم بحلول حقبة الصورة المتحركة، وبسطا فضلهما على اليابان أيضا حين زارها معاوناهما الفرنسيان “كونستانتان جيرال” و”غابريال فايفر” حاملين كاميراتهما، قبل أن يعودا إلى فرنسا بلقطات حية من شوارع طوكيو وكيوتو وناغويا.

يقول “هيرفي بيشار” وهو مختص في ترميم الأفلام بالمكتب السينمائية الفرنسية: قبل مغادرتهما اليابان، نقل “كونستانتان جيرال” و”غابريال فايفر” بعض معارفهما في التصوير إلى رجل ياباني يدعى “شيباتا”، وهو أول من صنع فيلما يابانيا في العام 1898.

قبل زيارة معاوني الأخوين “لوميير” عُرض جهاز كينتوسكوب في اليابان في العام 1896، وهو عبارة عن كاميرا بدائية، ثمّ تعرف اليابانيون على جهاز الفيتاسكوب في العام 1897.

لقطة من فيلم الساموراي “أورشي” إنتاج اليابان 1925

يروي الناقد السينمائي الأمريكي “دونالد ريتشي” في كتابه “أسلوب السينما اليابانية والطابع الوطني” أن “ياتشو” ولي العهد الياباني آنذاك، زار عرض فيتاسكوب في ذلك العام، ويقول: حظيت الأفلام بشعبية كبيرة في اليابان منذ ظهورها لأول مرة. وكانت بدايتها مختلفة جدا عن ما كان عليه الأمر في البلدان الأخرى، فقد كانت الأفلام في فرنسا مثلا مجرد إلهاء جديد للجمهور، أما في اليابان فقد كان هناك شغف كبير من الجمهور ومن صانعي الأفلام على حد سواء.

أفلام الشارع.. روائيات أولى تحمل السمة الوثائقية

يروي المخرجُ الفرنسي “باسكال ألكس فانسان” بشيء من الحسرة صعوبةَ التعرف على الملامح الكاملة للحقبة الأولى من ولادة السينما اليابانية، ويقول: من المؤسف أن هناك آثارا قليلة يمكن تعقبها لفهم ملامح السينما اليابانية المبكّرة، لكن يمكن أن نقول إن الأفلام اليابانية المبكرة كانت تحمل دائما سمة الفيلم الوثائقي، فلم يظهر الفيلم الروائي في اليابان إلا بداية من العام 1908، أما مدة الأفلام الأولى في اليابان فهي قصيرة جدا، وكانت تصوّر مشاهد من الشارع هناك.

كانت الحرب اليابانية الروسية مشتلا جيدا لمحتوى الأفلام التي بدأ اليابانيون صنعها آنذاك، وأصبح لتلك الأفلام الوثائقية -التي لاحقت الجنود اليابانيين لتصويرهم في جبهات الحرب- سحرٌ جذب جمهورا عريضا لقاعات العروض.

أستوديوهات “إديسون” في الولايات المتحدة

ففي تلك الفترة كانت شركة “يوشيزاوا شوتن” -التي ستصبح فيما بعد من أكبر أستوديوهات الإنتاج السينمائي في ذلك الوقت- ترسل مصورين مع كاميراتهم إلى جبهات القتال، وشجعت صاحبها “كاورا إينشي” على الذهاب إلى الولايات المتحدة الأمريكية وزيارة أستوديوهات “إيديسون” وورشات صناعة الأفلام “إيستمان”، ثم الرجوع لتأسيس أستوديوهاته الخاصة في العام 1907.

تحت المساحيق.. ولادة السينما من ضلع المسرح

حين التقط اليابانيون الكاميرا لأول مرة تشابهت ملامح أفلامهم الأولى مع أفلام الغرب المتأثرة بالمسرح، وكان مسلك الجميع مشتركا، لكن سرعان ما انعرجت صناعة الأفلام في أوروبا والولايات المتحدة الأمريكية سريعا.

يرى الكاتب الأمريكي “دونالد ريتشي” أن السينما اليابانية انطوت سريعا تحت جناح المسرح وحكاياته. ويقول: يمكن القول إن الأفلام التي صُورت في العام 1904 لم تقتصر على تصوير مشاهد من الشارع ورقصات “الغايشا” فحسب، بل شارك فيها أكثر الممثلين المسرحيين شهرة آنذاك، ففي الغرب كان المسرح لا يزال يرفض حينها أن يكون مجرد كوميديا موعودة من المبتدئين المنتمين للطبقة الوسطى، لكن في اليابان اهتم المسرح بالأفلام، لدرجة أن الفرق الدرامية كلفت بتصوير أجزاء من مسرحياتها.

كانت التجربة اليابانية في السينما في بداياتها مختلفة عن الغرب، فبينما منح الغرب وقتا أكثر لتطوير أساسيات قواعد الفيلم ومفرداته قبل تأثير المسرح، فقد عكس اليابان المعادلة، فكان تأثير المسرح كاملا منذ البداية، وهو تأثير أبطأ في تطوير السينما اليابانية نوعا ما.

كان عرض مسرحية “الجيش الملكي يُخضع روسيا” في طوكيو في العام 1904 قد تضمن وثائقيا أجنبيا، وهو أول عرض يجمع بين السينما والمسرح في اليابان حسب رأي الباحث “باسكال سيمون” في دراسة نشرها بعنوان “السنوات الأولى للسينما في اليابان: 1896-1920″، كما يقول الباحث “ماركوس نورنوس” في كتابه “الفيلم الوثائقي الياباني.. من عصر الإمبراطور ميجي إلى هيروشيما” إن الأفلام اليابانية المصورة الأولى هي في أغلب الأحيان مشاهد مختارة من مسرحيات مصوّرة.

الغايشا اليابانية في أحد العروض المسرحية

كان أول فيلم حقيقي قد صُوّر على يد المخرج “شوزو ماكينو” أبي السينما اليابانية سنة 1908 بعنوان “معركة في معبد هونوجي” (Battle at Honnôji Temple)، وذلك بعد تجربة في مسرح كابوكي، وهو المسرح الشعبي الذي يعتمد على الغناء والرقص أساسا.

كانت الأفلام الأولى في اليابان ترزح تحت ثقل المسرح ومساحيقه، واختفت تعابير الممثلين تحت طبقات سميكة من المساحيق التي تحُدّ قدرتهم التعبيرية وتفردهم، مثلما كتب المخرج الأمريكي “نويل بورك” في كتابه “المراقب البعيد: الأشكال والمعاني في السينما اليابانية”، إذ يقول: لم يكن ينظر للسينما باعتبارها شكلا جديدا من أشكال التصوير، بل باعتبارها شكلا مسرحيا جديدا، وهو من البدائل الأرخص لمسرح كابوكي.

وُلدت السينما اليابانية حقا من ضلع المسرح، فما يعرف بالسينما الاجتماعية هي نوع من الدراما الحديثة تستند فيها الأفلام على عرض المشاكل الاجتماعية بأسلوب مشابه تماما للأسلوب المسرحي، وكان هذا النوع من السينما هو أحد الفروع التي ولدت من المسرح، شأنها شأن ما يعرف بأفلام “شانبارا” التي تروي قصص القتال، وغالبا ما يكون أبطالها هم الساموراي.

أصبحت السينما اليابانية صناعة حقيقية، ففي العام 1911 أنتج 400 فيلم، وهو ما يعني أن فن العروض الأخرى أصبحت تواجه تهديدا حقيقيا من هذه الصناعة الجديدة، مما جعل نقابة المسارح في طوكيو تنشر نص قرار يمنع ممثلي الدرجة الأولى من القيام بأدوار في الأفلام.

سينما التجديد.. نزول الكاميرا إلى أعماق الطبقات الدنيا

في العام 1917، بدأت السينما اليابانية تسير بخطى بطيئة من أجل التجديد، وكان فيلم “ابنة القائد” (The Captain’s Daughter) للمخرج “إينو ماساو” هو الخطوة الأولى نحو ذلك، واعتمد “ماساو” في فيلمه تقنية الاسترجاع أو الاستحضار المعروفة تقنيا بـ”الفلاش باك”، وفي العام ذاته أخرج “شيموغاوا أوتن” أول فيلم صور متحركة ياباني بعنوان “قصة البواب موكوزو إيموكاوا” (The Story of the Concierge Mukuzo Imokawa).

وفي العام 1918 فرضت مجموعة من العاملين في أستوديوهات “موكوجيما” فكرة السينما المبتكرة، ودافعوا عنها بشدة، وكان من ضمنهم “تاناكا أيزو” الذي أخرج فيلم “الجثة الحية” (The Living Corpse).

وفي السنة ذاتها أنتجت أستوديوهات “تينكاتسو” التي تأسست في العام 1914 أفلاما وفق نظريات السينما المبتكرة، مثل فيلم “بريق الحياة” (The Glow of Life) الذي أخرجه “نوريماسا كاييرياما” في العام 1919.

يروي الكاتب “دونالد ريتشي” في كتابه “أسلوب السينما اليابانية والطابع الوطني” أن من أوائل المخرجين اليابانيين الذين جربوا الأساليب السينمائية المبتكرة في تلك الحقبة “توماس كوريهارا” و”فرانك توكوناجا” و”هنري كوتاني” و”كارو أوساناي” و”يوتاكا أبي”، فقد بدؤوا في منتصف العشرينيات تلك الأساليب. ويقول: جميعهم عملوا في هوليود، فـ”كاروا أوساناي” مثلا هو من استقدم أسلوب “كونستانتين ستانيسلافسكي” إلى السينما اليابانية، إضافة إلى المخرجين “إيزو تاناكا” و”مينورو موراتا”.

تعثرت السينما اليابانية في البداية، لكنها سرعان ما تلملمت، لتقدم أفلاما بأساليب مبتكرة منذ بداية عشرينيات القرن الماضي، وتمكن صانعو الأفلام الأوائل من تحقيق تغيير حقيقي في وجه السينما اليابانية في غضون بضع سنوات فقط، وشوهد ذلك التغيير بوضوح في فيلم “أرواح في الطريق” (Souls on the Road) الذي أخرجه “مينورو موراتا” في العام 1921.

بدأت ملامح سينما اليابان تتشكل بوضوح في تلك الفترة، وصوّر رواد السينما المجددون قصصا بعيدة عن معارك السيوف والمآسي المستلهمة من المسرح، وقد كان فيلم “متجر كويايا للقلادات” (The kyoya Collar Shop) الذي أخرجه “أيزو تاناكا” في العام 1922 من أقدم الأفلام اليابانية التي صورت بواقعية وتعاطف كبيرين حياة الطبقات الدنيا في المجتمع الياباني، وقصص العاطلين عن العمل، وإجبار النساء على الدعارة، وهي شجاعة مبكّرة من المخرج، لأن أغلب المنتجين كانوا يتجنبون مغامرة تصوير تلك القصص.

“الإنسانية والبالونات الورقية”.. فيلم يقذف بصاحبه إلى الجبهة

في بداية ثلاثينيات القرن الماضي كان اليابان يسير نحو حربين، الأولى الحرب اليابانية الصينية الثانية التي بدأت فعليا في العام 1937، والحرب العالمية الثانية التي انتهت برمي قنبلتين ذريتين في أحشاء مدينتي هيروشيما وناغازاكي.

يقول الكاتب سمير فريد في كتابه “السينما اليابانية في النقد السينمائي العربي” إن إقبال خريجي الجامعات في اليابان ازداد من أجل العمل في مجال السينما، كانت تلك الجامعات تعيش زخما فكريا بين اليمين واليسار، فأصبحت أستوديوهات الإنتاج مشتلا لتلك الأفكار، لكن بحلول الحرب مع الصين، فرضت الحكومة آنذاك رقابة على الأفلام.

ففي العام 1937 أخرج “سادو ياماناكا” فيلمه “الإنسانية والبالونات الورقية” (Humanity and Paper Balloons)، وتدور قصته حول ساموراي أخفق في حياته، لكن الحكومة منعت الفيلم، وأرسلت المخرج إلى جبهة القتال أثناء الحرب مع الصين، ولقي حتفه هناك.

يقول الكاتب “دانيال ريتشي” إن السينما اليابانية لم تحرف أسلوب الواقعية حتى في زمن الحرب، فقد كانت هناك أفلام دعائية تروج لكراهية العدو، غير أنه قد أُنتجت أفلام تتحدث عن الحرب، وأسست نمطا جديدا مثل فيلم “الكشافة الخمسة” (Five Scouts) للمخرج “توموتاكا تاساكا” في العام 1939.

يروي الفيلم قصة خمسة أشخاص دعاهم قائد سرية عسكرية لاستكشاف الطريق، لكنهم تعرضوا لهجوم، وقد نجا أربعة منهم وظنوا أن صديقهم قد قُتل، لكن سرعان ما عاد قبل أن يخرجوا مرة أخرى للهجوم، وكانوا يعلمون أنه لن تكون لهم فرصة للنجاة. كان العدو يحيط بهم كالطوفان، ولم يكن للحرب هدف منطقي حسب ظنهم.

كررت أفلام الحرب اليابانية هذا النمط الذي اعتمده “تاساكا” في فيلمه، حيث تتكون قصص تلك الأفلام من تفاصيل صغيرة تصور حياة الجنود، وشعورهم بالملل، وانتظار البريد، والبحث عن الزهور التي اعتادوا جمعها في وطنهم.

“الهاها مونو”.. أفلام دعائية تبث الشجاعة لدى اليابانيين

طيلة فترة الثلاثينيات طلب من أستوديوهات الإنتاج السينمائي معاضدة المجهود العسكري بصناعة أفلام دعائية، وطلبت الحكومة آنذاك من تلك الشركات إنتاج أفلام لا تتجاوز مدتها ثمانين دقيقة، وأن تتحول إلى إنتاج قصص ضمن ما يُعرف بالسينما الوطنية التي تبث الشجاعة لدى اليابانيين، وتعاضد المجهود الحربي للدولة عن طريق إظهار نجاح الجنود الذين يتوجهون نحو الموت في جبهات القتال.

يقول المخرج الفرنسي “باسكال أليكس فانسان” إن نمطا جديدا من الأفلام الدعائية في اليابان يسمى بأفلام “الهاها مونو”، وهن الأمهات اللواتي يشاهدن أبناءهن يغادرون إلى جبهات القتال من أجل الموت، وقد تضمن أغلب هذه الأفلام صورة الأم التي ترافق ابنها إلى رصيف محطة القطار قبل رحيله إلى الجبهة، تلك الصورة درامية بامتياز، لكنها تؤدي رسالتها، وهي التضحية من أجل اليابان مهما كانت الكلفة.

كانت هناك قواعد لعبة واضحة خلال الحرب قبلت بها السينما اليابانية، حتى أن الحكومة آنذاك أرسلت الممثلة اليابانية “سيتسوكو هارا” التي كانت في أوج شهرتها إلى ألمانيا للقاء “غوبلز” وزير الدعاية النازية في العام 1937.

وفي العام 1938 أخرج “ميزوغوشي” فيلمه الدعائي “نشيد الثكنة” (Song of the Camp)، ولم يكن هناك من منفذ لرفض الدخول في تلك اللعبة، فباستثناء المخرج “ياسوجيرو” الذي ماطل في إخراج الفيلم الدعائي المطلوب منه إخراجه؛ فقد دخل جميع المخرجين اليابانيين في لعبة الدعاية التي فرضت عليهم.

لكنها لم تكن على أي حال دعاية من أجل شيطنة العدو فقط، فالمخرج “كوسابورو يوشيمورا” أخرج فيلما دعائيا سنة 1940 بعنوان قصة “نيشيزومي قائد الدبابة” (The Legend of Tank Commander Nishizumi)، ويروي الفيلم قصة بطله الذي كان ودودا مع الأعداء المدنيين، وقد ظهر في أحد المشاهد وهو يساعد امرأة صينية وابنها.

عصر الواقعية.. أفلام تلهم السينما العالمية وتحصد الأوسكار

خلال عقد من الزمن عايش اليابانيون حربين شرستين، وظهرت بعدهما موجة جديدة هي الحركة الإنسانية، وقدم مخرجون مثل “أكيرا كوروساوا” و”ياسوجيرو أوزو” قصصا عن الحرية وعن قيمة الإنسان، ففيلم “قصة طوكيو” (Tokyo Story) الذي أخرجه “أوزو” في العام 1953، كان من أفضل الأفلام في تاريخ السينما اليابانية، ويروي قصة عجوزين زارا أبناءهما في العاصمة، ولم يلقيا منهم ترحيبا.

بدأت تلك الموجة تحصد الجوائز حين فاز فيلم “راشومون” (Rashomon) للمخرج “أكيرا كوروساوا” لأول مرة في تاريخ السينما اليابانية، بجائزة الأوسكار لأفضل فيلم أجنبي في العام 1950.

قبل نهاية خمسينات القرن الماضي كانت السينما اليابانية تسير نحو موجتها الثانية، فالإيقاع السريع بدا أحد سمات هذه الموجة الجديدة، فقد اختار المخرج “أكيرا كوروساوا” أسلوبا جديدا في فيلمه “الساموراي السبعة” (Seven Samurai) الذي أخرجه في العام 1954.

حقق هذا الفيلم نجاحا كبيرا، وألهم أسلوبُه في تصوير المعارك العنيفة بواقعية كبيرة، المخرجَ الإيطالي “سيرجيو ليوني”، كما اقتبس منه المخرجُ الأمريكي “جون ستورغس” فيلمَه “العظماء السبعة” (The Magnificent Seven) الذي أخرجه سنة 1960.

وفي العام 1956 حصل فيلم “الساموراي الأول” (Samurai 1) للمخرج “هيروشي إيناجاكي” على جائزة الأوسكار الشرفية لأفضل فيلم بلغة أجنبية.

ميلاد موجة جديدة للسينما اليابانية.. ثورة على التقاليد الاجتماعية

وُلد من تحت ركام الحروب جيل جديد من المخرجين الساخطين على تركة الحرب وعلى التقاليد الفنية، وأعلن فيلم “مدينة الحب والأمل” (A Town of Love and Hope) في العام 1959 للمخرج “ناغيزا أوشيما” عن ميلاد موجة جديدة للسينما اليابانية، ويمثل هذا الفيلم ثورة حقيقية على القيم التي روّجت لها الأفلام اليابانية السابقة، خاصة الترابط الأسري الذي تضبطه التقاليد اليابانية.

وفي بداية العقد السادس من القرن العشرين، استمر النمو الاقتصادي في اليابان بإيقاع ثابت، وشهدت السينما أكثر عقودها غزارة في الإنتاج، فأنتجت مئات الأفلام.

بدأت موجة السينما اليابانية الجديدة تفوح، بعد إصرار المخرجين الشبان في تلك الفترة على مغادرة الأستوديوهات الكبرى، بسبب قرارهم التخلي عن الأشكال والموضوعات والآراء المهيمنة على السينما في اليابان آنذاك، وركزوا من خلال أعمالهم على التساؤل والتحليل والنقد، وعلى ثورتهم على التقاليد الاجتماعية.

عقد الستينيات.. عصر ذهبي متمرد على الأستديوهات

كان عصر الستينيات عصرا ذهبيا بحق للسينما اليابانية، ففي العام 1961 ترشح فيلم “حب خالد” (Immortal Love) للمخرج “كايسوكي كينوشيتا” إلى جائزة الأوسكار لأفضل فيلم أجنبي، رغم أنه أقل أفلام المخرج شهرة، وبعد ثلاث سنوات من ذلك، رشح فيلمان يابانيان لنيل جائزة الأوسكار عن أفضل فيلم أجنبي، وهما فيلم “كوايدان” (Kwaidan) للمخرج “مازاكي كوباياشي”، وفيلم “امرأة فوق الكثبان” (Woman in the Dunes) للمخرج “هيروشي تيشيغاهارا” الذي فاز أيضا بجائزة لجنة التحكيم في مهرجان كان الدولي عن أفضل مخرج.

لقطة من فيلم “حب خالد” للمخرج “كايسوكي كينوشيتا” المرشح لجائزة الأوسكار

بنهاية العقد السادس من القرن العشرين، بدأ جمهور السينما بالانحسار مع ظهور التلفزيون، وقلت غزارة الإنتاج في فترة السبعينيات والثمانينيات، رغم مقاومة توجه الجمهور إلى المسلسلات من قبل مخرجين بارعين، مثل المخرج “يوشيشيغي يوشيدا”.

حاولت السينما اليابانية إفلات الجمهور من قبضة التلفزيون، وأنشأت جائزة “هوشي” للأفلام في العام 1976، وفاز فيلم “عائلة إينوغامي” (The Inugami Family) الذي أخرجه “كون إيشيكاوا” بهذه الجائزة، لكن بدا أن التلفاز في اليابان بدأ يفوز أو كاد على السينما.

أفلام الرعب والأنمي.. موجة تحمل المشعل وتحتل شاشات العالم

في تسعينيات القرن الماضي سارت السينما اليابانية بخطوات بطيئة وهي تقارع التلفزيون من جهة، ومسلسلات الأنمي (أي الرسوم المتحركة اليابانية) التي انتعشت في أواخر الثمانينيات، وأنعشت معها ميزانيات التلفزيون.

كان العالم يلقي بثقله على اليابان الذي ما زال في طور التعرف على المعضلات الاجتماعية التي خلفتها الحروب، وموجة الحداثة في مجتمعات منغلقة مثل المجتمع الياباني، لذلك كان أغلب قصص الأفلام في تلك الحقبة -التي بدأ العالم الافتراضي يتشكل فيها- يصور تفكك العلاقات الإنسانية، وذوبان الهوية الاجتماعية في ذلك العصر الجديد.

وفي منتصف التسعينيات دخلت السينما اليابانية في موجة الأفلام التجارية، وحققت أرباحا من إنتاج أفلام الرعب التي رفضتها شركات الإنتاج في الثمانينيات، لكن بانتصاف العقد الأخير من الألفية انفتحت على هذا النوع من الأفلام، ولقي فيلم “الحلقة” (Ring) الذي أخرجه “هيديو ناكاتا” في العام 1997 نجاحا كبيرا، شأنه شأن فيلم “شفاء” (Cure) الذي أخرجه “كيوشي كوروساوا” في نفس العام، وهي أفلام استلهمت منها السينما الأمريكية، وأعادتها في إنتاجات هوليودية ناجحة.

لم تنطفئ شعلة السينما اليابانية قط، فكانت تجد في كل مرة مخرجها الصحيح من أجل تفردها الدائم في صناعة السينما، فحين بدأ لهيب الشغف للسينما لدى الجمهور ينطفئ وحل مكانه شغف بالتلفزيون، لاح وميض مبهر لنوع اختصت به اليابان وحدها، وهي أفلام “الأنمي” (الصور المتحركة) التي صنعت من جديد ذلك التفرد، وأصبحت اليابان صاحبة الريادة، واحتلت شاشات العالم، ومنها شاشات العائلة العربية.