الثورة اليمنية.. عام من النضال و12 عاما من الحرب الأهلية

في عامه الثاني عشر بعد الثورة، يخطو اليمن الجريح إلى مجهول من الأيام والسياسة والأمن، ليس في الأفق غير الدخان واللهب المسافر في أعماق اليمن وكل شرايينه المكانية والاجتماعية منذ أكثر من عقد.

فمنذ نحو 12 عاما، اهتز اليمن بعنف يوم سقط الرئيس المصري السابق محمد حسني مبارك في 11 فبراير/شباط 2011، بعد جمعة صرخ فيها المصريون في وجه حاكمهم أن ارحل، وبنفس الصدى انطلقت شعلة الثورة اليمينية التي ظلت صدى متموجا انطلق رنينه الأخاذ منذ الثالث من فبراير/شباط 2011.

“إسقاط النظام”.. حصاد الأيام الأولى من الصدام في صنعاء

في 11 فبراير/شباط 2011، خرج آلاف اليمنيين مطالبين رئيسهم علي عبد الله صالح بالرحيل وترك السلطة، كان هدفهم الذي عبّروا عنه بنغمة يمنية واضحة هو “إسقاط النظام” الذي جثم على السياسة والمجتمع والصدور خلال ثلاثين سنة، وكعادة كل الحكام المرحلين، فقد جاء الرد سريعا، قمعا واعتقالا، وسرعان ما نشبت المواجهات بين خصوم صالح ومناصريه الذين تسندهم قوات الأمن.

في اليوم الموالي 12 فبراير/شباط تواصلت المسيرة، وامتد الحشد، وارتفع الصوت أكثر، مطالبة برحيل النظام وتحسين الظروف المعيشة، ثم جاء أنصار النظام من جديد لتقع المواجهة، ويسقط جرحى من الفريقين المختلفين على ضفتي السياسة في اليمن.

في اليوم نفسه، خرج آلاف الطلاب اليمنيين من جامعة صنعاء، متوجهين إلى السفارة المصرية، مطالبين بإسقاط النظام، وكالعادة تصدى لهم أنصار صالح، وسقط جرحى من طرفي الصراع.

اتسعت شقة الخلاف السياسي في قابل الأيام وخصوصا في يوم 13 فبراير/شباط، يوم تمايزت العاصمة اليمنية إلى مظاهرات مناوئة وأخرى مؤيدة لصالح، وأصيب في التراشق العنيف بين الطرفين عشرات الجرحى، أكثرهم من خصومه الذين كانوا في مواجهة أنصاره وشرطته التي منعت المتظاهرين من العبور إلى القصر الرئاسي، وأوقفت في سبيل ذلك عشرات المتظاهرين وسبعة من الصحفيين.

وعود الإصلاح.. خطاب خافت تحت ضجيج الثورة

على الضفة الأخرى نظم الحزب الحاكم مسيرة ضخمة، غص بها ميدان التحرير، وتعالت فيها صيحات التمجيد للحاكم علي عبد الله صالح، وقد خاطب اليمنيين داعيا إلى الحوار ومتعهدا بالإصلاح.

كان اليوم الثالث من عمر الثورة حافلا بالعنف والقمع الذي طال 120 من المعتصمين، كما أن رياح الثورة قد عبرت العاصمة باتجاه المحافظات، فكانت تعز ثانية مدن الثورة بعد العاصمة صنعاء، وفي اليوم نفسه أعلنت أحزاب اللقاء المشترك المعارضة، ترحيبا مشروطا بخطاب علي عبد الله صالح، وطلبت العودة إلى ما قبل التعديلات الدستورية الأخيرة التي سمحت للرجل بأن ينكث وعده بالخروج من السلطة، بعد أن استنفد مأموريتها القانونية.

وتوسعت شروط المعارضة لتطالب بإلغاء قانون الانتخابات وإشراك الحوثيين والحراك الجنوبي ومعارضة الخارج في الحوار، وفوق ذلك أن يعزل الرئيس أبناءه وإخوته وسائر أفراد عائلته، نزولا إلى الطبقة الرابعة من مختلف دوائر السياسة والأمن والاقتصاد في اليمن، ولم يكن صالح ليقبل بشرط من هذا القبيل، إذ يجرده من شبكة ملكه التي أقامها بشكل عائلي وأخطبوطي طيلة عقوده الثلاثة في الحكم.

في الصباح الموالي التحمت العاصمتان عدن وصنعاء في مواجهات عنيفة بين أنصار الرئيس صالح المسلحين بالخناجر والهراوات والحجارة، وخصومه المسلحين بطموح جامح لإسقاط الرجل، قبل أن يتدخل الأمن لتفريق المتظاهرين وإقامة حاجز بينهما حتى لا يبغيا.

أما في عدن فقد كان الصوت أعلى رشقا بالحجارة للمنشآت الحكومية، وإرغاما لرئيس موانئ اليمن وكبار معاونيه على الخروج من مكتبه والاستقالة التي كان يرفضها طيلة خمسة أيام من التوتر مع عماله.

ولأن صدى الثورة أصبح أكثر وضوحا وقرعا للأبواب، فقد أعلن علي عبد الله صالح فتح مكتب في الرئاسة للاستماع إلى شكاوى المواطنين والقوى السياسية، لكن الصوت الهادر كان أسرع، وكان المطلب الموحد هو رحيل آل صالح.

كان اليوم الخامس من عمر الثورة، يوم انطلاق المطالب الجزئية، فقد اعتصم مئات القضاة أمام المجلس الأعلى للقضاء مطالبين بتغيير هيئته، وإعادة تشكيله، طاعنين بذلك علي عبد الله صالح في خاصرة رخوة ظل يتكئ عليها طيلة عقود.

تزايد العنف.. وابل من الرصاص يمطر أجساد الثورة

في 16 فبراير/شباط سقط أول قتيلين، بين أكثر من عشرة جرحى في مدينة عدن، تحت وابل رصاص الشرطة التي سعت لتفريق المتظاهرين، كان الأمن رحيما ودودا مع أنصار صالح، عنيفا مؤلما لخصومه. ولأن الثورة قد توشحت بالدم في سادس أيامها، فقد أخذت مسارا جديدا، مع بيان زعيم المتمردين الحوثيين في الشمال عبد الملك الحوثي، إذ طالب الشعب اليمني باستغلال الفرصة والتحرك الجاد لإزاحة هذه السلطة.

توالت أيام الثورة في صراع مفتوح بين خصوم علي وأنصاره، ومن يسعفهم من جنود بزي مدني، أو عصابات “البلاطجة” مدفوعي الأجر، فكان يوم 17 فبراير/شباط عنوان التمدد الأوسع للثورة اليمنية، يوم ارتفعت صيحات الغاضبين في الجنوب، وخصوصا في عدن والمنصورة وعدن ولحج وأبين والشبوة والضالع، وسقط في هذا اليوم 4 أشخاص، وجُرح أكثر من ستين آخرين من بنيهم مطالبون بالانفصال، رافعون لعلم دولة الجنوب، دعوة إلى فك الارتباط مع دولة الوحدة.

وفي نفس اليوم أعلن الشيخ حسين بن عبد الله الأحمر أن القبائل ستضطر إلى التدخل لحماية المتظاهرين من قمع الأمن الذي يُوقّع بالرصاص والعصي على أرواح وأجساد المدنيين الغاضبين، وكان الأحمر وصالح يشتركان في الانتساب إلى القبيلة ذاتها، لكن يختلفان في السياسة والتوجهات الفكرية، وكانا متناقضين إلى حد الصراع.

وفي الجمعة الثانية، وتحديدا يوم 18 فبراير/شباط 2011، تمددت ألسنة الموت لتقتنص عبر رصاص الأمن، أرواح أربعة أشخاص في عدن، وخامس في تعز، وليسقط بين المدينتين حوالي 98 جريحا كان أكثرهم من أبناء تعز. ورغم كل الألم والجراح، أعلن متظاهرو عدن أن جمعتهم الثانية ليست إلا “جمعة البداية” ليرد عليهم أنصار صالح “بجمعة السلام” التي احتشد فيها أنصار الزعيم.

واستمر العنف خلال اليوم الموالي، فسقط قتيل و15 جريحا، قبل أن يغلق الأمن كل مداخل مدينة عدن، إثر دعوات الزحف من مختلف مدن الحراك الجنوبي نحو عاصمتهم عدن. وفي اليوم نفسه دعا حزب رابطة أبناء اليمن إلى رحيل نظام علي صالح، كما ارتفع صوت الغضب داخل مجلس النواب بعد أن هدد 10 نواب بالاستقالة إذا استمر قمع المتظاهرين.

خطابات صالح.. مناورات ما قبل السقوط

في العشرين من فبراير/شباط دعا علي عبد الله صالح -والنظام ما زال في أوج قوته- المعارضةَ إلى الجلوس على طاولة الحوار، لنقاش مطالبها “إذا كانت مشروعة”، مستخدما نفس القاموس التقليدي لدى الحكام العرب، اتهاما لمن وصفهم بالمندسين والعناصر الخارجة عن النظام بالسعي لتخريب وشق الصف اليمني.

وفي اليوم العشرين أيضا، دعا علماء اليمن إلى عقد مؤتمر وطني جامع، لنقاش أوضاع اليمن والاتفاق على الحلول، وإقامة حكومة إجماع وطني مؤقتة من أهل الكفاءات، زيادة على ضمانات تؤكد ما جاء في خطاب الرئيس بشأن عدم التوريث أو تمديد الفترة الرئاسية.

علي عبد الله صالح يدعو المعارضةَ إلى الجلوس على طاولة الحوار لنقاش مطالبها “إذا كانت مشروعة”

أما أحزاب اللقاء المشترك، فقد ردت على خطاب صالح بالدعوة للنزول إلى الشارع بكثافة، لتسندها دعوات المنظمات الحقوقية بإقالة ومحاكمة قيادات الأمن والجيش وخصوصا وزير الداخلية وقائد الأركان وقائد الأمن.

وفي اليوم التالي عقد الرئيس مؤتمرا صحفيا جددا فيه دعوته للحوار، وأكد فيه رفضه الخروج من السلطة إلا عبر حكم صناديق الاقتراع التي طالما تحكم فيها، وحكمت لصالحه.

تآكل أركان النظام.. ضربات قوية ودعوات انفصال

جاء الرد الميداني على خطاب صالح سريعا، فسقط قتيلان وعشرات المصابين في عدن، كما بدأ آلاف المتظاهرين اعتصاما في ساحة التغيير أمام جامعة صنعاء، وشيدوا مخيم الثورة، وبدأت الثورة مرحلة التنظيم والحماية منعا لتشويش أنصار الحزب الحاكم. لقد كان ذلك اليوم حافلا بمفردات الثورة، فنزل آلاف الحوثيين في مسيرة حاشدة بمدينة ضحيان شمال اليمن مطالبين برحيل صالح.

ولم يختلف يوم 22 فبراير/شباط، عن الأيام السالفة، فلائحة القتلى في ازدياد والثورة في تمدد، خصوصا بعد أن تمكن المعتصمون من صد هجوم البلاطجة، لكن المتغير الأبرز كان إعلان مجلس التضامن الوطني برئاسة الشيخ حسين الأحمر انضمامه إلى المعتصمين أمام جامعة صنعاء، وهو ما أحدث هزة قوية في جسم النظام المتآكل.

ففي يوم الأربعاء 23 فبراير/شباط، بدأ التشظي في بنية النظام، حين استقال تسعة برلمانيين رفضا لعنف الحكومة تجاه الثوار، وهو ما رد عليه الرئيس اليمني في 24 فبراير/شباط بأوامر للأمن بحماية المتظاهرين المطالبين بإسقاط نظامه.

وفي اليوم نفسه تدفق آلاف المتظاهرين الجدد من النقابيين والمهنيين ومنظمات المجتمع المدني والمواطنين العاديين وطلاب الثانويات، بينما تركز العنف في منطقة الحراك الجنوبي، واعتقل الأمنُ القياديَّ في الحراك أسامي الداعري لمنعه من العبور إلى عدن المغلقة يومها، كما تعززت خلال هذا اليوم فعاليات الثورة في الجنوب، بطبيعتها الانفصالية، إذ رفعت أعلام دولة الجنوب وصور رئيسها السابق علي سالم البيض.

عبد الله قاسم.. بوعزيزي اليمن الذي أحرق نفسه احتجاجا

في جمعة الصمود الثالثة في ثورة اليمن، أعلن عن وفاة الشاب عبد الله قاسم متأثرا بحروقه، بعدما أضرم النار في نفسه احتجاجا على ظروفه المعيشية، وقد كاد الشاب الثلاثيني أن يكون بوعزيزي اليمن، لكن الثورة يومئذ لم تكن محتاجة لسبب للاشتعال، فقد اتقد لهيبها منذ قرابة شهر، بينما كلف الرئيس صالح في نفس اليوم رئيس الوزراء علي محمد مجور ببدء حوار مع المتظاهرين، لكن اللهب كان أسرع من الحوار، فسقط أربعة قتلى في مدن يمنية عدة، واحتشد حوالي 70 ألفا في مظاهرتين بمدينة صنعاء.

وفي ذلك اليوم الجماهيري بدأت الثورة تكسب رمزيتها الشعبية، وبدأ الثوار في حملة التبرعات، كان من أطرفها بيع سيارة وساعة يد بحوالي 3000 دولار، أي ما يناهز 600 ألف ريال من العملة اليمنية المترنحة يومها على حافة الانهيار.

الشيخ عبد الله الأحمر رئيس قبيلة حاشد كبرى القبائل اليمنية وولده الشيخ حسين يقفان إلى جانب الثورة اليمنية

وفي اليوم نفسه توسع العنف في الجنوب، وسقط سبعة قتلى وأكثر من أربعين جريحا من المدنيين. وفي 26 فبراير/شباط، بدأت متغير جديد في الثورة، حين أعلنت كبرى القبائل اليمنية دعمها للثورة، وخصوصا قبليتا حاشد وبكيل، مما يعني انهيارا عظيما في جسد النظام، خصوصا أن قادة حاشد من أبناء الأحمر يسيطرون على مراكز نفوذ سياسي وعسكري مهم جدا ومؤثر.

ولأهمية المتغيرات الجديدة، فقد ترأس علي عبد الله صالح اجتماعا للقيادات المسلحة مركزا على “الدور الذي تضطلع به المؤسسة العسكرية في الحفاظ على الأمن والاستقرار وصيانة المكتسبات الوطنية”، متعهدا “بالحفاظ على النظام الجمهوري ووحدة وسلامة أراضي الجمهورية اليمنية حتى آخر قطرة من دمائنا”.

ثورة تديرها أمريكا من تل أبيب.. وتر التدخل الخارجي

في اليوم الأخير من شهر الثورة الأول (28 فبراير/شباط)، عرض صالح تشكيل حكومة ائتلافية، لكن المعارضة ردت بالرفض، فسقف المطالب محدد برحيله وليس الحوار معه، وفي نفس اليوم التقى الرئيس بعلماء اليمن، وأكد استعداده لمغادرة السلطة، ضمن برنامج انتقال سلمي، لكن لا أحد يومها يصدق صالح الذي سبق أن وعد أكثر من مرة بأنه سيترك لليمنيين كرسي الحكم، ثم عاد إلى التمسك به أكثر.

ولم يطل الأمر أيضا، ففي فاتح مارس/آذار، التقى بطلاب كلية الطب، عازفا على وتر التدخل الخارجي، معتبرا أن ما يجري ليس أكثر من ثورة إعلامية تديرها الولايات المتحدة من غرفة في تل أبيب، وردت واشنطن بدعوة الرجل للاستجابة لطموحات شعبه، نافية تورطها أو وجود أي عمل خارجي في التظاهرات التي تجري في بلاده.

ولم يطل الأمر أيضا، ففي فاتح مارس/آذار، التقى بطلاب كلية الطب، عازفا على وتر التدخل الخارجي، معتبرا أن ما يجري ليس أكثر من ثورة إعلامية تديرها الولايات المتحدة من غرفة في تل أبيب، وردت واشنطن بدعوة الرجل للاستجابة لطموحات شعبه، نافية تورطها أو وجود أي عمل خارجي في التظاهرات التي تجري في بلاده.

ثم عاد الرئيس بعد ذلك ليقيل قادة محافظات عدن وحضرموت والحديدة ولحج وأبين، بعد أن ظلت هذه المدن المراكز الأكثر احتضانا للثورة. وفي اليوم نفسه أعلن الشيخ عبد المجيد الزنداني دعم الثوار، معتبرا أن لا شرعية لصالح، وسرعان ما تدفقت الثورة إلى شرايين المدن اليمنية، ليغطي الرفض مساحات هائلة من أراضي اليمن، إضافة إلى تدفق المجاميع القبلية الثائرة إلى العاصمة، قادمة من مدن متعددة مثل ريمة والمحويت والجوف.

شرط انتهاء المأمورية.. انسحاب حلفاء القبائل ورجال السلطة

رغم كل اللهب المستعر، فقد التحم صالح بالكرسي أكثر، ونظم حزبه المؤتمر الشعبي مظاهرة كبيرة بميدان التحرير، رددوا فيها شعارات مثل “سبعة واحد واحد.. علي أحسن واحد”، و”يا الله احمي علي عبد الله”، و”بالروح بالدم نفديك يا علي”.

وفي الرابع من مارس/آذار، أبدى صالح إصرارا أكثر على التمسك بالحكم، ورفض مبادرة العلماء بالانتقال السلس للسلطة، معلنا أنه باق في منصبه حتى انتهاء مأموريته في العام 2013، ليكون هذا الموقف مفاجئا لأنصاره قبل خصومه، فأعلن حليفه القبلي في محافظة البيضاء علي أحمد العمراني انشقاقه عن السلطة وانضمامه للمتظاهرين.

فبراير 11، ذكرى الثورة اليمينة

وخلال الأسبوع الأول من مارس/آذار، بدأ التصدع يصل إلى الحكومة، فاستقال نائب وزير الشباب حاشد الأحمر، ثم التحق به وكيل وزارة الثقافة سالم بن يحيى الأحمر، منتقلين من السلطة إلى المعارضة، ومع التصدع الجديد، أعاد صالح كرة المناورة من جديد ليدعو إلى مؤتمر وطني للمصالحة، ولكن دون جدوى.

ومع الأسبوع الثاني من مارس/آذار، بدأ المتظاهرون إعداد اللائحة السوداء، وتضمنت قائد الحرس الجمهوري أحمد علي صالح، ووزير الداخلية مطهر المصري، ضمن 13 شخصا من أركان النظام.

ثلاثاء الغضب.. تصاعد موجة التحدي ومناورات الرحيل

في يوم الثلاثاء 8 مارس/آذار، رفع المحتجون سقف المطالب، وتحدوا الحواجز الأمنية، ليسقط أربعة قتلى و88 جريحا، ولأن الثورة قد اشتعلت في كل محافظات اليمن، فقد وصل اللهب الثوري إلى السجن المركزي، فتمرد نزلاؤه مطالبين بإسقاط صالح، ليسقط أيضا أربعة قتلى آخرين وعشرات الجرحى.

لكن المتغير الأهم هو تجمع أعداد من القوات الخاصة مطالبين بصرف مستحقاتهم، وانشقاق 28 عنصرا منهم والتحاقهم بالثورة المناوئة للنظام. وفي نفس اليوم أعلن صالح عن مبادرة ثالثة لحل الأزمة السياسية، تتضمن انتقالا من نظام رئاسي إلى آخر برلماني تمهيدا للفيدرالية، وقد قوبلت المبادرة بالرفض، بل أدت إلى استقالة عدد من النواب، ليعود في اليوم الموالي خلال اجتماعه مع قيادات الجيش ليعلن استعداده لتنفيذ المبادرة من جانب واحد.

خروج عشرات ألوف اليمنيين مطالبين برحيل صالح

وفي منتصف شهر مارس/آذار اتسعت دائرة العنف، وأخذ الرصاص الحي يكتب على الأجساد العارية فصول النهاية المؤلمة لنظام علي عبد الله، وتصاعد الرفض الدولي للقمع الصالحي ضد المتظاهرين، ليصل الأمر إلى دعوة مشايخ من بينهم الشيخ عبد المجيد الزنداني -الذي غادر العاصمة إلى مضارب قبيلته في أرحب- الجنودَ والضباط إلى عصيان أوامر القمع.

وقد وصل دعم عسكري سعودي تضمن دبابات نقلتها سفن عسكرية، وغادر اليمن أيضا عدد كبير من أفراد أسرة صالح، وبدأ العنف يقطع الطريق أمام الحوار أو العودة إلى ما قبل منتصف فبراير.

الجمعة الدامية.. نهر دماء على شوارع صنعاء

في هذا اليوم سقط 52 قتيلا وجرح أكثر من 600 شخص، بعد أن وجه القناصة شلال الرصاص مباشرة إليهم بعد انتهاء صلاة الجمعة، وقد أعلن صالح حالة الطوارئ خلال مؤتمر صحفي، وبعد أن واجهه العالم بالتنديد والشجب عربيا ودوليا، عاد في اليوم الموالي ليعلن حدادا وطنيا على قتلى الثورة، ويتهم المعارضة بالتسبب في الفوضى.

فقد كانت دماء الخمسين قتيلا زلزالا قويا ضرب نظام صالح، فأعلن سفراء اليمن في الولايات المتحدة وروسيا وبلجيكا والصين وإسبانيا وألمانيا وفرنسا والتشيك والإمارات وسوريا ومصر والأردن وقطر وسلطنة عمان وباكستان وإندونيسيا والهند والعراق ودول أخرى انضمامهم للثورة، إلى جانب عدد كبير من الدبلوماسيين في سفارات بلدهم بواشنطن ودبي وجدة وبكين وتونس والمجر.

ثم توالت بعد ذلك استقالة المسؤولين والنواب، قبل أن تتعزز الثورة بانضمام النائب العام إلى الثوار رفقة ثلاثة وزراء آخرين من بينهم وزير الأوقاف، وهو ما دفع الرئيس صالح لإقالة الحكومة كلها، ولكن تلك الخطوة لم تشفع له أمام قبيلته التي أعلن عشراتُ الضباط من أبنائها -رفقة شيخهم صادق الأحمر- تأييدَهم للثورة وانضمامهم للثوار، وكذلك فعل قادة عدد من الأولوية والكتائب العسكرية.

وسريعا جاء رد صالح بالتأكيد على أن عهد الانقلابات قد ولى، وأن الحرب الأهلية ستكون ردا على محاولة الاستيلاء على السلطة بالقوة، لكنه عاد من جديد ليعرض انتخابات رئاسية قبل نهاية 2011، دون أن يتلقى ردا غير المطالبة برحيله.

وفي 25 مارس/آذار أعلن الرئيس استعداده لترك السلطة في “أيد أمينة ” فقط، قبل أن يعود في اليوم الموالي ويعلن رفضه التخلي عن الحكم لمجلس انتقالي، بينما رفضت المعارضة أي مبادرة لا تتضمن تنحي صالح وأبنائه، لذا عاد لاحقا إلى القبول بالخروج من السلطة وتسليمها لنائب يعينه هو، وليس نائبه الرسمي عبد ربه منصور هادي.

المبادرة الخليجية.. تسليم الحكم وقيادة الميليشيات

تواصلت المظاهرات وتوسعت وتوالت عروض صالح، فأعلن في 30 مارس/آذار قبوله بتسليم الحكم إلى حكومة مؤقتة، بعد أن ضاق الخناق حول عنقه، ولم يعد لدى المتظاهرين وقت ليضيعوه في الحوار معه.

تصاعدت حدة الرفض والسجال، وتدخل الأطراف الإقليمية والدولية من جديد، لرعاية انتقال آمن للسلطة في اليمن، فظهرت المبادرة الخليجية بعد أن أصبح صالح وحيدا في مواجهة الغضب الشعبي والعسكري، فقبِل -وفقا لتلك المبادرة- الخروج من السلطة، وإحالة الحكم إلى نائبه عبد ربه منصور هادي.

الثورة اليمنية.. فرحة أجهضها الانقلاب والحرب الدامية

وجد علي عبد الله صالح نفسه بعد أشهر في مواجهة نيران غير صديقة، انطلقت في وجهه أثناء صلاة الجمعة في مسجد دار الرئاسة، وقد نُقل إلى السعودية، ثم عاد من جديد ليوقع على اتفاق رحيله، وفي 23 نوفمبر/تشرين الثاني 2011 وقع على المبادرة الخليجية لحل لأزمة السياسية، وتضمنت عشر نقاط أبرزها نقل السلطة من صالح إلى نائبه عبد ربه منصور هادي، مقابل حصانة دائمة وغير قابلة للطعن، له ولكل من خدموا معه طيلة سنواته الرئاسية الثلاثة والثلاثين.

وبعد نحو عام من الثورة وتحديدا في 21 فبراير/شباط 2012 تنحى صالح عن الحكم وتسلم عبد ربه منصور هادي السلطة، وبدأت صفحة أخرى من حياة علي عبد الله صالح واليمن، تحول الرجل فيها من رئيس إلى قائد مليشيات حربية، وتحول اليمن من الثورة إلى الاقتتال، وما يزال اللهب يقتات من أرض وإنسان اليمن الذي ما عاد سعيدا.