أوقاف المغاربة في القدس.. تاريخ عريق وممتلكات ضخمة بين الدمار والنهب

إلى جانب الأضرار الروحية والمعنوية التي يسبّبها الاحتلال الإسرائيلي للأراضي الفلسطينية لمئات الملايين من المسلمين والمسيحيين عبر العالم، من خلال عملية التهويد وتغيير الواقع الديمغرافي الذي تقوم به دولة الاحتلال على أساس استيطاني-عنصري؛ يوجد دَين مادي آخر في ذمة إسرائيل تجاه نحو مئة مليون من مواطني دول المغرب العربي، يتمثل في الأوقاف التي استُحوذ عليها أو خُرّبت في القدس الشريف ومحيطه، فهي تعتبر بمثابة الملكية الخاصة لشعوب دول المغرب العربي.

وتتحالف “مصادفات” تاريخية عديدة لتجعل المأساة السياسية والحضارية أكبر، ذلك أن احتلال فلسطين وإعلان ميلاد دولة الاحتلال فوق أراضيها جرى في الوقت الذي كانت دول المغرب العربي (المغرب والجزائر وتونس)، ترزح هي الأخرى تحت نير الاحتلال الفرنسي، مما جعل أولى قبلتي المسلمين وواحدة من أكثر البقاع أهمية في نفوس المغاربيين، نهبا للاحتلال الإسرائيلي من جهة، وتحت رحمة الوصاية الفرنسية المفروضة وقتها على شعوب المغرب العربي.

اضطرت فرنسا وقتها إلى الترافع أمام المحاكم الإسرائيلية، نيابة عن شعوب دول المغرب العربي، وسعيا منها إلى كسب تعاطف هذه الشعوب مع وجودها الاستعماري، وانتصبت مطالبة بحماية أوقاف المغاربة والتعويض عن ريعها المستباح منذ قيام دولة الاحتلال الإسرائيلي عام 1948، لكن رفض غالبية النخب السياسية والدينية المغاربية التعامل مع إسرائيل أو منحها اعترافا غير مباشر بالسيادة على القدس والأراضي الفلسطينية، أبقى هذا الملف عالقا حتى كان حي المغاربة أول ما استهدفه جيش الاحتلال الصهيوني بعد هزيمة حزيران 1967.[1]

كتائب المغاربة.. ربع جيش صلاح الدين في حطين

قبل نحو ثمانية قرون من الآن (القرن الثاني عشر الميلادي)، كانت المعركة على أشدها سياسيا وعسكريا وديمغرافيا حول القدس الشريف، فقد كان أهلها يعتبرونها رباطا للصمود والجهاد، وكان قادة المسلمين الحريصون على حمايتها وتحصينها ضد الغزو يبذلون المال والسلاح، ويستغيثون بمسلمي أقصى الأرض، قصد نجدتها وزيارتها والاستقرار فيها لتعميرها والدفاع عنها لحظة المواجهة، وكان في مقدمة هؤلاء القائد الكردي صلاح الدين الأيوبي يعبّئ لها الجيوش المحلية، ثم يضيف إليها جيوش أقصى المغرب الإسلامي، ثم يحوّل جزءا من هؤلاء المجاهدين المغاربة إلى مقدسيين، لما أبدوه من تعلّق بالمدينة وحرص عليها، فخصّهم بحيّ كامل رابطوا فيه حراسا للمسجد الأقصى، هو حي المغاربة على سور البراق.

ويعود أصل وجود المغاربة وممتلكاتهم الوقفية في القدس الشريف إلى فترة استرجاع المدينة من يد الصليبيين، إذ شكّل المغاربة ما بين 20-25% من الجيش الذي قاده صلاح الدين الأيوبي وانتصر به في معركة حطين التي استرجع فيها القدس من يد الصليبيين في يوليو/تموز سنة 1187. وبعد نهاية الحرب وانتصار المسلمين في معركة القدس، تمسّك صلاح الدين الأيوبي بالمغاربة وطلب منهم الاستقرار بشكل دائم في المدينة، وأقطعهم الأرض التي ستصبح فيما بعد حارة المغاربة.

شكّل المغاربة ما بين 20-25% من الجيش الذي قاده صلاح الدين الأيوبي وانتصر به في معركة حطين

وبعد استرجاعها من يد الصليبيين، توالت هجرات المغاربة والأندلسيين نحو القدس، مما ساهم في توسيع الأوقاف الإسلامية وموارد إنفاق وعيش المغاربة المقيمين في القدس، وقد حدد الملكُ الأفضل ابن صلاح الدين الأيوبي وخليفته في الحكم، المجالَ الجغرافي الذي أوقفه على المغاربة في القدس الشريف سنة 1193 م، كما يلي:

الحد القبلي: سور مدينة القدس الشريف إلى غاية الطريق المؤدي إلى عين سلوان.

الحد الشرقي: ينتهي إلى حائط البراق والحائط الغربي للمسجد الأقصى.

الحد الشمالي: ينتهي في قنطرة أم البنات.

الحد الغربي: ينتهي إلى دار القاضي شمس الدين، قاضي القدس الشريف.[2]

باب المغاربة.. أقرب الأبواب إلى الأقصى وحائط البراق

تعتبر حارة المغاربة الجزء الذي يرمز إلى إجماع المسلمين حول المقدس، باعتبارها وقفا من الملك الأفضل بن السلطان صلاح الدين الأيوبي، فقد أقره لهم بعد تحرير المدينة من الصليبيين، وأوقفها على المجاهدين المغاربة الذين شاركوا في الفتح وبقيت باسمهم، لتتحول إلى مقصد دائم للحجاج المغاربة، يعرّجون عليهم في طريقهم نحو الحجاز، وانتشرت فيها في القرون اللاحقة مدارس وأبنية ومساجد وزوايا، وتشكل مساحتها حوالي 5% من مجموع مساحة القدس القديمة.

وباب المغاربة هو أقرب الأبواب للدخول للمسجد الأقصى الشريف، وملاصق تماما للجدار الغربي للمسجد الأقصى، كما أنه ملاصق أيضا لحائط البراق الذى ربط فيه الرسول محمد ﷺ دابته ليلة الإسراء والمعراج، وهو الحائط الذى يدّعى الإسرائيليون أنه جزء من هيكل سليمان، ولكن الدلائل والبراهين والمتمثلة في الوقفيات المسجلة رسميا أثبتت أن كل ما يدعيه الكيان الصهيوني زور.[3]

باب المغاربة هو أقرب الأبواب للدخول للمسجد الأقصى الشريف، ويلاصق الجدار الغربي للمسجد الأقصى

يوجد في مدينة القدس أحد عشر بابا، منها ما هو مفتوح، ومنها ما أغلقته سلطات الاحتلال الاسرائيلي. ولعلَّ أكثرها شهرة اليوم هو باب المغاربة، مع أنه هو أصغر أبواب القدس جميعها، ويعتبر الأقربَ إلى المسجد الأقصى من جهة حائط البراق.[4]

عقب استرجاعها من يد الصليبيين، توسعت هجرة المغاربة صوب القدس في عصر المماليك، كما احتفظوا بمكانة خاصة لدى العثمانيين الذين دخلوا المدينة سنة 1517م وضموها لدولتهم، وفي هذا العصر تشكّلت معالم المنطقة السكنية الخاصة بالمغاربة في القدس، وكانت تُسمى بحي المغاربة أو محلة المغاربة أو حارة المغاربة، وظل شيخ المغاربة ممثلا لطائفته وأهل بلده أمام السلطات العثمانية والقضائية، وكان أيضا ناظرا ومسؤولا عن أوقافهم التي تنوعت وازدهرت وكثرت في داخل القدس وفي القرى والبساتين المجاورة لها.[5]

أوقاف المغاربة.. أموال المحسنين والحجاج والسلاطين

إلى جانب الوقف الرسمي الذي أقامه صلاح الدين الأيوبي وخليفته في القدس الشريف لصالح المغاربة، كانت هناك أوقاف شعبية يساهم من خلالها الأفراد الراغبون في دعم وترسيخ الوجود المغربي في القدس، عبر وقف ممتلكات خاصة على عموم المغاربة، وأبرز هذه الأوقاف ما خلفه أبو مدين الغوث الحفيد، وهو مسجل رسميا في سنة 1320 م.

يتعلق الأمر بأحد أحفاد الشيخ مدين الغوث شعيب بن الحسن الأندلسي دفين تلمسان، فقد أوقف قرية عين الكارم بكاملها على المغاربة، وهي من بين القرى المحيطة بمدينة القدس، وسمحت بتوسيع حي المغاربة وتطويره، بفضل إيراد البساتين الفلاحية والبيوت الموقوفة. كما أوقف أبو مدين الغوث زاوية مع كل ما تحتاجه من طعام وشراب.[6]

باب المغاربة وحارة المغاربة ملاصقان لحائط البراق الحائط الغربي للمسجد الأقصى

قام أبو مدين بشراء ممتلكات عقارية واسعة في قرية عين كارم، تقدّر بنحو 15 ألف هكتار، إلى جانب حارة غير بعيدة عن حارة المغاربة، وسجّلها إلى جانب ممتلكات أخرى، لتصبح وقفا دائما لصالح المغاربة المقيمين أو العابرين في القدس، وكانت عائدات أراضي عين كارم مصدرا رئيسا للأموال اللازمة لسير أوقاف المغاربة في القدس.[7]

كما يوجد وقف خاص آخر يعود للمجاهد عمر المصمودي، وقد سجل في سنة 1330 م، ويتكون من ثلاثة بيوت تقع في حارة المغاربة، وزاوية تضم عشر حجرات في طابقين ومسجد.

ولم تكف الوقفيات الإسلامية عن التزايد في محيط حارة المغاربة على مر التاريخ، بل كان الحجاج والمحسنون المغاربة يحرصون أثناء توجههم إلى الديار المقدسة، على التوقف في القدس الشريف والقيام بأعمال خيرية، وتخليف أوقاف تستعمل في الإنفاق على حاجيات المغاربة المقيمين أو العابرين في القدس. كما كان السلاطين المغاربة يصرفون تبرعات سخية لفائدة القدس الشريف وأوقافه، وكان هذا الإنفاق يدخل ضمن المجهود الإسلامي لحماية القدس من محاولات التسلل الأجنبية.[8]

أطماع الغزاة واللصوص.. نزاعات قضائية حول الأوقاف

عرفت مدینة القدس الوقف منذ عرفت الإسلام، ورغم أن الاحتلال الصليبي لها بین سنتي 1099-1187 م، خلّف أضرارا بالغة بالوقف ونظامه، قبل أن يتمكن صلاح الدین الأیوبي من إحياء الوقف في مدینة القدس، بعد أن استعادها سنة 1187 ميلادية.[9]

وتعود جذور الاستهداف الصهيوني لحائط البراق الذي يعتبر وقفا إسلاميا خلّفه أبو مدين الغوث، إلى فترة سماح السلطان العثماني عبد الحميد الثاني، لليهود بالوقوف قرب هذا الحائط وأداء مناسكهم الدينية، وذلك عبر تخصيصهم بزقاق محدد، وهو ما تحول في وقت لاحق إلى ذريعة يتحجج بها الإسرائيليون لتبرير مطالبتهم بالحائط.[10]

العالم الجزائري الغوث أبو مدين الرجل الذي قاد جهاد المغاربة في القدس

كما كانت هذه الأراضي والعقارات الوقفية هدفا دائما لأطماع الراغبين في الاستيلاء عليها ونقلها إلى ملكيتهم الخاصة، وجرى ذلك طيلة فترة الحكم العثماني وفترة الانتداب البريطاني على فلسطين، ففي فترة الانتداب البريطاني ظهر تباعا بعض اليهود يدعون ملكية قطع أرضية في قرية عين كارم، وهو ما كان موضوع دعاوى رفعها متعهد هذا الوقف الشيخ المهدي أمام القضاء البريطاني، وقد ظل عالقا إلى قيام دولة إسرائيل عام 1948 واحتلالها المباشر لقرية عين كارم.[11]

وقد نص صك الانتداب البريطاني على فلسطين على تشكيل لجنة دولية للفصل في النزاع المتعلق بالحائط الغربي للمسجد الأقصى، وهو ما وقع بالفعل، وكان رئيس اللجنة وزير خارجية سويدي سابق اسمه “إيليل فوجرن”. قامت اللجنة بتحريات ميدانية واستمعت إلى جميع الأطراف، لتخلص إلى ما يلي:[12]

الحائط الغربي ملك للمسلمين وحدهم، باعتباره جزءا من الحرم الشريف. الرصيف والحائط المجاوران لحي المغاربة ملك للمسلمين، لكونه وقفا إسلاميا. لليهود الحق في الوصول إلى الحائط الغربي لأغراض التعبد في جميع الأوقات، مع مراعات شروط معينة.

استهداف الأوقاف.. مطالبات فرنسية بحماية الممتلكات المغاربية

انطلقت الاعتداءات الصهيونية المباشرة على حي المغاربة منذ إعلان قيام دولة الكيان الصهيوني واحتلال القدس الغربية عام 1948، فقد تعرض وقف أبي مدين لاعتداءات عنيفة، بينما أدى احتلال القدس الشرقية بعد هزيمة 1967 إلى هدم حي المغاربة تماما وتسويته بالأرض.

ورغم انشغال الشعوب المغاربية بمقاومة وطرد الوجود الاستعماري الفرنسي في أراضيها، فإن الممتلكات الوقفية المقدسية لم تغب عن بالها، ففي العام 1951 بادرت شخصيات جزائرية إلى مراسلة “الاتحاد الفرنسي” (كيان أنشأته فرنسا وقتها ليكون بديلا عن الاستعمار المباشر)، وطالبته بالقيام بإجراءات مستعجلة للحفاظ على أوقاف المغاربة (الجزائريين بشكل خاص) في القدس المحتلة، وتحمّل المسؤوليات القانونية لفرنسا باعتبار قنصليتها العامة في فلسطين وصية على حماية هذه الأوقاف المغاربية.

كان للجند المسلمين من المغرب العربي دور في تحرير المسجد الأقصى في جيش صلاح الدين الأيوبي سنة 1187

فمنذ قيام دولة الاحتلال فوق الأراضي الفلسطينية المحتلة، ومن ضمنها قرية عين كارم، لم يعد متولي الوقف المغربي في القدس يتوصل بعائدات الأراضي والبساتين، وتحديدا منذ العام 1947.

وكان عدد المغاربة المقيمين في فلسطين والمعنيين بعائدات هذه الأوقاف يقدر بحوالي 2000 مغربي، الجزء الأكبر منهم ينحدر من دولة المغرب الحالية (حوالي 55%)، مقابل حوالي 36% من أصل جزائري، و9% من أصول تونسية.[13] (النسبة المئوية زائدة، أرجو مراجعة الكاتب)

ويقول زياد المدني، في كتابه “مدينة القدس وجوارها (1800-1820)”: يتكون هؤلاء المغاربة في القدس من المراكشيين والتونسيين والجزائريين، وقد أقام هؤلاء في جبل الطور في حي خاص سمي حي المغاربة، وكان يتولى زعامة المغاربة شيخ يعينه الوالي، كما كانت لهم زاوية تعرف باسمهم وشيخ يسمى شيخ المغاربة.[14]

وقد صدر تقرير عن ممتلكات أوقاف المغاربة عام 1959، نشر نصه في مجلة “دعوة الحق” التي تصدرها وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية المغربية، ويتضمن هذا التقرير إحالة قانونية على رسم تحبيس مسجل في المحكمة الشرعية للقدس، تحت عدد 194، صحيفة 395.[15]

ويشير التقرير إلى الإجراءات التي قامت بها الخارجية الفرنسية عام 1953، إذ تطالب إسرائيل بالاعتراف رسميا بأن قرية عين كارم والأراضي التابعة لها، هي ممتلكات مغربية جزائرية تونسية، وبرفع الحجز عن هذه الممتلكات، ثم بأداء تعويضات عن استغلال هذه الممتلكات منذ الاحتلال الإسرائيلي، أي منذ شهر مايو 1948.[16]

تعويضات الاستغلال.. رفض مغاربي للتعامل مع الكيان المحتل

كانت السلطات الرسمية المغربية وهي تحت الاستعمار الفرنسي (نظام الحماية)، تتابع بشكل دقيق أحوال مغاربة القدس الشريف وأوقافهم، وتقول الوثائق الرسمية إن إحصاء شاملا لهذه الأوقاف والممتلكات كان في حوزة وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية المغربية.[17]

وبالنيابة عن الدول المغاربية، تمكنت فرنسا عام 1955 من استصدار قرار قضائي يوقف عملية تسجيل أراضي قرية عين كارم باسم إسرائيليين، كما حصلت فرنسا على موافقة إسرائيلية بصرف تعويضات عن عائدات أوقاف المغاربة بأثر رجعي بدءا من العام 1948، بما قدره 3000 ليرة إسرائيلية عن كل سنة.

كما التزم الاحتلال لفرنسا بعدم إدراج أراضي عين كارم ضمن المناطق المهجورة أو التي غاب عنها أهلها، لكن هذا المسار لم يكن محط إجماع، إذ كان جزءٌ من الوطنيين والعلماء المغاربيين يرفضون تولي فرنسا النيابة عن الأوقاف الإسلامية لمغاربة القدس، كما كانوا يرفضون التعامل مع إسرائيل بهذا الشأن. وباستثناء بعض الأطراف الجزائرية، رفضت السلطات المغربية والتونسية -رغم استقلال البلدين- الموافقة على دعم أو تزكية تحركات فرنسا في هذا الملف.[18]

ظلت الدعوى التي رفعتها فرنسا أمام القضاء الإسرائيلي عالقة إلى حين استقلال المغرب وتونس، حينها بادرت فرنسا إلى مراسلة البلدين تخبرهما بقبول إسرائيل دفع التعويض، وأنه سيكون بمثابة الحل المؤقت في انتظار الحل النهائي. وقد أجاب البلدان بما يفيد رفض هذا العرض، إذ قالت وزارة الأوقاف المغربية في رسالتها الرسمية إنها لا يمكن أن تدخل في معاملة مع الاحتلال كيفما كان نوعها “حتى لا يفهم من ذلك أي اعتراف ولو ضمني بمشروعية إسرائيل”.[19]

حي المغاربة قبل وبعد احتلال القدس

فبعد حصول المغرب على الاستقلال عام 1956، توصلت وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية برسالة من وزارة الخارجية المغربية في أبريل/نيسان 1957، تخبرها أنها تواصلت مع نظيرتها الفرنسية برسالة تقول إن إسرائيل قبلت دفع تعويض سنوي عن استغلالها لأراضي قرية عين كارم، وقدره 3 آلاف ليرة إسرائيلية، وذلك على أساس ما كان يدفعه المستغلون لهذه الأراضي من قبلُ، وهو عُشر إنتاجها. وذكرت الخارجية الفرنسية وقتها أن هذا الأمر لا يعتبر حلا نهائيا، بل تدبيرا مؤقتا في انتظار حل نهائي للنزاع.[20]

كان رد وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية المغربية هو رفض التعامل مع إسرائيل بناء على هذا العرض، حتى لا يفهم من ذلك أنها تعترف بالدولة الإسرائيلية، وهو الموقف نفسه الذي اتخذته تونس بعد توصلها بعرض مماثل بوساطة فرنسية.

أقدم حارات القدس.. جريمة هدم ثمانية قرون من التاريخ

بعد تمكن إسرائيل من احتلال مجموع الأراضي الفلسطينية في حرب 1967، قامت الجرافات الإسرائيلية بهدم منازل ومساجد حي المغاربة طمسا للهوية العربية الإسلامية للمدينة، واستحواذا على حائط البراق الذي تحول إلى “حائط مبكى” تحت الاحتلال، وجعل الإسرائيليون أياّم 11-12-13 حزيران/ يونيو من العام 1967م أيام شؤم على المدينة، فقد هدمت جرافات الاحتلال الإسرائيلي حارة المغاربة بأكملها، وكانت عُرفت عبر التاريخ بأنها من أقدم حارات القدس الأثرية، وكان مجموع المباني التي جُرفت آنذاك 135 بناء أثريا.[21]

وقد وسم المؤرخ الفرنسي “فانسان لومير” ما حدث لحي المغاربة -الذي عُمّر ثمانية قرون قبل أن تهدمه الجرافات الإسرائيلية سنة 1967- بكونه “جريمة وكذبة دولة”، كما رفض هذا المؤرخ الذي ألف كتابا حول الموضوع “الأسطورة الإسرائيلية” التي تعتبر هدم حي المغاربة نتيجة ظهور “بعض المقاولين الذين قرروا أن يهدموا الحي، بمشاركة عسكريين إسرائيليين، مشددا على أن هذه الخرافة لا يمكن أن يصدقها أي مؤرخ، لا يمكن تدمير حي تاريخي دون قرار سياسي”.[22]

هدم حي المغاربة وتجريفه كان أول أعمال الاحتلال الإسرائيلي في القدس بعد احتلالها في 1967

فقد وقف المؤرخ الفرنسي أثناء اشتغاله على الموضوع، على أرشيفات في مؤسسات إسرائيلية توثق واقعة الهدم، وتهجير 800 شخص، وتدمير منازلهم وما يضمه الحي، كما توثق لقاء رسميا يحدد الأولويات قبل تدمير الحي بيومين في أرشيف “الأشغال العمومية” الإسرائيلية، وأرشيفات أخرى مثل الأرشيف الدبلوماسي الذي وجد فيه حديثا عن “تبرير الهدم” أمام المنتظم الدولي برواية أن “حي المغاربة هامشي، ويشكل خطرا على السكان، وسبب تدميره هو حمايتهم”.[23]

وتذكر رسالة أمين القدس الشريف الموجهة للسفير المغربي في الأردن سنة 1977، كيف “سارع العدو الإسرائيلي بأمر من سلطاته العليا عام 1967 إلى هدم 138 عقارا في الحي المغربي، معظمها تابع للوقفين المذكورين، كما طرد سكانها البالغ عددهم 635 شخصا، ونتج عن هذا الهدم طمس وإزالة معالم الأوقاف المغربية الإسلامية”.[24]

ولم تكتفِ سلطات الاحتلال بالهدم والتشريد، بل أعلنت بموجب أمر إداري أصدره وزير المالية الإسرائيلي بتاريخ 18 أبريل/ نيسان 1968، مصادرةَ جميع العقارات العربية الواقعة في الحي المغربي وأربعة أحياء عربية مجاورة أخرى (حي باب السلسلة والشرف وسور الحصر ودرج الطابوني)، وتضم هذه الأحياء 1048 شقة سكن و437 مخزنا تجاريا وأربعة مساجد وخمسة مدارس، ويقطنها ستة آلاف عربي.[25]

وحتى سنوات السبعينيات من القرن الماضي، كانت السلطات المغربية تبعث إعانات مالية مباشرة إلى قرابة 3 آلاف مغربي يقيمون في القدس الشريف، وتشهد على ذلك رسالة توصل بها السفير المغربي في الأردن في شهر مارس/آذار 1977، من روحي الخطيب عمدة بلدية القدس الشريف المحتل، وتتضمن الرسالة بيانات ومعلومات وجداول حول الممتلكات المغربية التي يهددها الاحتلال الإسرائيلي.

آخر الأوقاف التي توحّد المغرب العربي.. إرث لا يقدّر بثمن

بالتوازي مع المسار السياسي والنضال الفلسطيني من أجل استعادة الأرض والكرامة، يستمر ملف أوقاف المغاربة مفتوحا ومتضمنا لحقوق ثابتة قانونيا، ولجرائم تشريد وتنكيل طالت مئات المنحدرين من أصول مغربية وجزائرية وتونسية.

ويتعلق الأمر بعقارات يوجد أكثرها في القدس الشريف قرب حائط المبكي، وهي بنايات قديمة يرجع بعضها إلى عهد الدولة المرينية، وتوجد خارج السور قرب مقبرة المسلمين بقعة أخرى مساحتها 400 متر مربع، وقد أقدمت السلطات الصهيونية على هدم أكثر من 270 ملكا وقفيا في هذه المنطقة.[26]

حي المغاربة هو المنطقة السكنية والتجارية التي بناها علماء المغرب العربي لأبنائهم القاطنين في القدس

أما الجزء الواقع في منطقة الوصاية الأردنية على الممتلكات الوقفية في القدس من أوقاف المغاربة، فيضم زاوية أبي مدين، وهي نزل يحتوي على عدة حجرات، وحي المغاربة، ودكاكين للتجارة، ثم قطعتين أرضيتين. وينفق من ريع هذه الأوقاف لمساعد المغاربة والجزائريين والتونسيين، المجاورين بالقدس، وبما أن ريعها غير كاف لذلك، فإن الأقطار الثلاثة المغرب والجزائر وتونس تبعث بمساعدات سنوية لتسديد العجز.[27]

وفي مارس/آذار 1977، توصل السفير المغربي في الأردن برسالة من روحي الخطيب عمدة بلدية القدس الشريف، يحذره فيها من خطر انهيار زاوية الغوث أبي مدين وجامعها. وعلاوة على التحذير وطلب الدعم الذي تضمنته الرسالة، تتضمن الوثيقة معطيات حول وضعية الأوقاف في القدس الشريف، وتكشف كيف كان المغربي والجزائري يتكاملان ويتعاونان في دعم المدينة المقدسة، إذ قام العالم الجزائري الغوث أبو مدين ببناء الزاوية، بينما تولى العالم المغربي الشيخ عمر المجرد بناء جامع تابع لها.[28]

كما تبيّن الرسالة كيف أوقف العالمان -المغربي والجزائري- إلى جانب الزاوية والجامع، “عقارات وأراضي واسعة، ورصدا ريعها للإنفاق على الخدمات التي من أجلها أنشئتا، والعشرات من العقارات السكنية في حارة المغاربة نفسها وفي أحياء أخرى من القدس، وخصصا قسما منها مع الزاوية معهدا دينيا وملجأ لمسلمي المغرب العربي”.[29]

 

المصادر

[1] /documentary/2020/3/10/حارة-المغاربة-وصية-صلاح-الدين-الأيوبي

[2] قدرية توكل البنداري، حى المغاربة بالقدس الشريف دراسة آثرية، دراسات في آثار الوطن العربي، المقالة 38، المجلد 11، العدد 11، أكتوبر 2008، الصفحة 835-881.

[3][3] قدرية توكل البنداري، حى المغاربة بالقدس الشريف دراسة آثرية، دراسات في آثار الوطن العربي، المقالة 38، المجلد 11، العدد 11، أكتوبر 2008، الصفحة 835-881.

[4] https://palscholars.org/باب-المغاربة-لعموم-المغاربة/

[5] /documentary/2020/3/10/حارة-المغاربة-وصية-صلاح-الدين-الأيوبي

[6] قدرية توكل البنداري، حى المغاربة بالقدس الشريف دراسة آثرية، دراسات في آثار الوطن العربي، المقالة 38، المجلد 11، العدد 11، أكتوبر 2008، الصفحة 835-881.

[7] موسى سرور، الوقف الإسلامي في القدس، جزء من وقائع المؤتمر الاكاديمي الرابع الذي عقد في تموز/يوليوز 2018 في كلية هند الحسيني للبنات التابعة لجامعة القدس (داهمته قوات الاحتلال الإسرائيلية وأوقفت أشغاله)، نشرته الهيئة الإسلامية العليا-القدس بالتعاون مع جمعية المحافظة على الوقف والتراث المقدسي.

[8] قدرية توكل البنداري، حى المغاربة بالقدس الشريف دراسة آثرية، دراسات في آثار الوطن العربي، المقالة 38، المجلد 11، العدد 11، أكتوبر 2008، الصفحة 835-881.

[9] رولامي عبد الحميد، الأهمية الاقتصادية لأوقاف القدس إبان الفترة العثمانية، حوليات جامعة الجزائر، المجلد 34، العدد 02 سنة 2020، ص: 288-304.

[10] قدرية توكل البنداري، حى المغاربة بالقدس الشريف دراسة آثرية، دراسات في آثار الوطن العربي، المقالة 38، المجلد 11، العدد 11، أكتوبر 2008، الصفحة 835-881.

[11] موسى سرور، الوقف الإسلامي في القدس…

[12] عبد اللطيف الطيباوي، الأوقاف الإسلامية بجوار المسجد الأقصى بالقدس وأصلها وتاريخها واغتصاب إسرائيل لها، من منشورات وزارة الأوقاف والشؤون والمقدسات الإسلامية، المملكة الأردنية الهاشمية، 1981

[13] موسى سرور، الوقف الإسلامي في القدس…

[14] https://www.aljazeera.net/blogs/2018/2/16/حائط-البراق-وقف-مغربي

[15] https://www.habous.gov.ma/daouat-alhaq/item/5547

[16] https://www.habous.gov.ma/daouat-alhaq/item/5547

[17] http://www.habous.gov.ma/daouat-alhaq/item/5547

[18] موسى سرور، الوقف الإسلامي في القدس…

[19] https://www.habous.gov.ma/daouat-alhaq/item/5547

[20] /documentary/2020/3/10/حارة-المغاربة-وصية-صلاح-الدين-الأيوبي

[21] /documentary/2020/3/10/حارة-المغاربة-وصية-صلاح-الدين-الأيوبي

[22] https://www.hespress.com/فلسطيني-وفرنسي-يوثقان-استهداف-حارة-ال-1103013.html

[23] https://www.hespress.com/فلسطيني-وفرنسي-يوثقان-استهداف-حارة-ال-1103013.html

[24] https://www.habous.gov.ma/daouat-alhaq/item/5547

[25] https://www.habous.gov.ma/daouat-alhaq/item/5547

[26] https://www.habous.gov.ma/daouat-alhaq/item/5547

[27] https://www.habous.gov.ma/daouat-alhaq/item/5547

[28] https://www.habous.gov.ma/daouat-alhaq/item/5547

[29] https://www.habous.gov.ma/daouat-alhaq/item/5547