مدينة الزهراء.. عاصمة الأندلس المترفة
في عام 1000 للميلاد، ووسط أوروبا المسيحية امتدت مملكة إسلامية في شبه القارة الأيبيرية، بنى خليفتها القوي أضخم قصر في ذلك الزمان، في براعة وتقنية سابقة لعصرها، وأطلق عليها “مدينة الزهراء”، فكيف بدأت هذه المدينة؟ ومن بناها ولماذا؟ هذا ما سيخبرنا به الفيلم الذي عرضته الجزيرة الوثائقية تحت عنوان “لؤلؤة الأندلس المفقودة”.
مدينة الزهراء.. أسرار معمارية في عاصمة الأندلس المترفة
ما تزال المدينة لم تبح بالكثير من أسرارها، رغم عمليات التنقيب الحثيثة في موقع المدينة ومواقع أخرى من الأندلس، لمعرفة تاريخ مدينة الزهراء المذهلة الواقعة في جبل الشارات جنوب إسبانيا، وهي تبدو للوهلة الأولى موحشة قليلة الكثافة السكانية، ولكن قبل ألف عام اختارها ملك قوي لبناء عاصمة ملكه المهيب.
تشير بقايا القصور والمساجد والأفنية إلى ترف عزّ نظيره في الشرق والغرب، فبعد قرن من البحث لم يكد العلماء يحفرون 10% من الموقع، وكشفوا عن فصل صغير من عظمة هذه المدينة المهيبة، وهي مادة فريدة بالنسبة للعلماء الذين يستكشفون حضارة الإسلام في القرون الوسطى، فقد حرص الخلفاء على بناء مدن وقصور ضخمة لإظهار قوتهم، تماما مثلما فعلوا في بغداد والقاهرة، وإذ يتعذر إجراء عمليات تنقيب هناك، أو حتى في حواضر إسبانيا الآن، فإنه يمكن في هذا المكان الفريد.
صنفت مدينة الزهراء موقع تراث عالمي بامتياز، فهي تربط الطبيعة بالعمارة بطريقة خاصة، قلما تجدها في أماكن أخرى، إذ تتزين بإطلالة بانورامية خلابة تمتد 90 كيلومترا على المناظر الطبيعية.
ويرى الباحثون اليوم أن المدينة امتدت على مساحة 112 هكتارا وعلى مستويات متنوعة، وتحتاج زمنا طويلا جدا لاكتشاف أسرارها، فهنالك منطقة غامضة تسترعي اهتمام العلماء، وبفضل طائرة مسيّرة ومزودة بماسح ضوئي ثلاثي الأبعاد اكتشف العلماء تضاريس غير مستوية.
كان البحث على مدى مئة عام منصبا داخل القصر، واليوم يهتم العلماء بدراسة الآثار خارج القصر وفي مناطق مختلفة، علّهم يجدون علاقة بين الحاكم وسكان المدينة، وبعد أسابيع كشفوا ما أكّد لهم شكوكهم، فهناك مبنى ضخم مدفون تحت أقدامهم، لكنه لا يشبه المباني الأخرى، فما حقيقته وما الغرض من بنائه؟ عاد العلماء خطوة إلى الوراء لإلقاء نظرة أشمل على الموقع.
عبد الرحمن الداخل.. عين على المُلْك المسلوب في الشرق
إن مجرد بناء هذه المدينة الهامة في هذا المكان هو لغز بحد ذاته، لمَ بُنيت هنا بعيدا عن الشرق؟ وفي قلب أوروبا المسيحية.
لنعد إلى الجزيرة العربية، وإلى 300 عام قبل بناء الزهراء، ففي عام 11 ه الموافق 632 م توفي رسول الإسلام محمد ﷺ، وبعد ذلك بعقود نشب صراع داخل المجتمع تطور إلى فتنة أو حرب أهلية، وبعدها بدأت الخلافة الأموية وعاصمتها دمشق، فأصبحت أكبر إمبراطورية إسلامية، وبعد عام 92 ه الموافق 711م امتدت أراضيها إلى الغرب، وبعد 5 سنوات ظهر مصطلح الأندلس على عملة معدنية لأول مرة، ويعني إسبانيا المسلمة في مقابل إسبانيا المسيحية، وصارت قرطبة عاصمتها الجديدة، فاستقطبت المهاجرين من الجنوب والشرق.
جمع علماء من جامعة غرناطة العظام الموجودة في مقابر المسلمين خلال تلك الفترة، ومن خلال الحمض النووي استطاع علماء الوراثة تحديد خصائص هذه الإثنية، وبتحليل الأسنان والعظام يمكن الحصول على معلومات متكاملة بمعلومات متكاملة. كما أن استخراج الحمض النووي أسهل من جذور الأسنان، وهذا الحمض يخبرنا عن خارطة تنقلات صاحبه. لقد جاء المهاجرون من شمال أفريقيا والشرق الأوسط، وبعضهم من بيزنطة والأناضول.. لقد جذبت حضارة الأندلس أناسا من أماكن بعيدة.
لكن نجاح السلالة الأموية لم يدم طويلا، ففي الشرق ارتُكبت مذابح بحق الأمويين خلال انتفاضة العباسيين عام 132 ه الموافق 750م، واستولى العباسيون على السلطة، وما نجا إلا وريث أموي واحد اسمه عبد الرحمن الأول، هرب من دمشق إلى الأندلس وهناك أسس الدولة الأموية الغربية، وفي طريقه إلى الأندلس وحّد عبد الرحمن العرب والبربر، وغزا مناطق جديدة، وجعل قرطبة عاصمة ملكه.
بنى عبد الرحمن الأول حصونا ضخمة للدفاع، مثل حصن غرماج في مقاطعة سوريا الإسبانية، وهو أفضل حصن في الأندلس، وقد رسم به الحدود مع المسيحيين في الشمال، وبنى قلعة ضخمة على حدود التل بأكمله، وتعدّ أكبر قلاع أوروبا. وبنى خلفاء عبد الرحمن مثل هذه الحصون في جميع أنحاء الأندلس، وفي كلٍ منها حاميات الجنود للتصدي للهجمات المعادية.
عبد الرحمن الثالث.. الأمير الطامح باسترداد خلافة أجداده
بعد 150 عاما، كان الشاب الطموح عبد الرحمن الثالث أميرا لقرطبة وهو ابن 21 ربيعا، وقد ورث دولة مزدهرة وكُرها دفينا للعباسيين، فأراد أن يثأر لقتلة أجداده، وقضى على عدة انتفاضات داخلية، وكرّس نفسه للهدف الكبير؛ أن يكون خليفة للمسلمين بدل الذي في بغداد.
كان يتطلع لعاصمة تخصه وحده، تكون مركز حكمه ومنطلق غاياته، فشرع ببناء أكبر وأجمل مدينة وأكثرها تقدما، جوهرة تتميز عن ما سواها، على بعد 8 كم فقط من قرطبة، أكبر مدينة في حوض المتوسط آنذاك.
في موقع التنقيب لفت جدارٌ ضخم انتباهَ العلماء، مبني بحجارة لها نفس الارتفاع، كبيرة وثقيلة بوزن 150 كغم لكل منها، ويلاحظ الملاط الجيري (مادة لربط الحجارة والطوب) بين الأحجار، وهناك طبقة مصقولة من الجير على الجدار موشاة بخطوط حمراء، بنفس الطراز الذي في القصر، لقد أحضروا بالمجمل 11 مليون حجر لهذا الموقع، أي ما يعادل كمية الأحجار في الهرم الأكبر.
شيدت المدينة على مدى 30 عاما، وكانت مشروع البناء الأكبر في عصره، إذ عزّ نظيره في شبه الجزيرة الأيبيرية، فالجدار المحيط بالقصر طوله 1500 متر وارتفاعه 11 مترا، ويحيط بحديقة القصر، وكان المتجه من قرطبة إلى الزهراء يصدمه الجدار الخارجي المهيب، ويرى من خلفه الحدائق الغنّاء، تتناثر في وسطها بعض الأبنية البيضاء الناصعة، ثم يأتي قصر الأمير في الأعلى.
يقول “ألبرتو لوكي”، وهو خبير في المسح التصويري: منذ 15 سنة وأنا أعمل على إنشاء نموذج افتراضي ثلاثي الأبعاد، لإعادة بناء الأجزاء التي اكتشفت. بدأت بالسور الذي لم يبق منه سوى القليل، وهي قطعة مستطيلة طولها 1500 متر وعرضها 700 متر لحماية للمدينة، وقد واجهتنا صعوبة في معرفة أشكال المباني داخل السور لأنه لم يبق لها أثر، واعتمدنا على الإشارات الملموسة النادرة التي وجدناها في الموقع مثل بقايا الأعمدة الصغيرة.
رغم الصعوبات تمكن “ألبرتو” من بناء جدران القصر، استحوذ قصر الخليفة على ربع مساحة المدينة، ويعادل 28 هكتارا، وبينما كان “ألبرتو” منشغلا بنموذجه الافتراضي، كان هنالك علماء آخرون في الموقع يحاولون ترميم بعض المناطق المكتشفة بحساسية ودقة بالغة، وتظهر نتيجة عملهم الشاق المتواصل على جدران القصر المطلية بالأبيض من الأعلى وبوشاح أحمر من الأسفل، وأرضيات من الرخام.
يوحنا أسقف جورتسي.. عمارة وهيبة تبهر سفير الإمبراطور
بمجرد اكتمال المدينة ظهرت شهرة حاكم الأندلس الجديد في منطقة حوض المتوسط بأكمله، وسرت الشائعات عن عظمة بناء مدينته، وكان علماء التنقيب يتمنون أن يعيشوا لحظة واقعية من هذا الخيال الحالم الذي يبهرهم، يودون أن يتخيلوا عبد الرحمن الثالث جالسا على عرشه وحوله وزراؤه ومستشاروه وخدمه.
هناك مخطوطة وحيدة تروي تلك التجربة، إنها في المكتبة الوطنية الفرنسية، وتروي قصة حياة يوحنا أسقف جورتسي الذي سافر إلى قرطبة في عام 344 ه الموافق 956م، سفيرا لملك ألمانيا لدى بلاط عبد الرحمن الثالث، وقد اضطر للانتظار عدة شهور قبل أن يحظى بمقابلة الخليفة.
تقول المخطوطة: في يوم اللقاء كان الترحيب حارا، من المساكن إلى المدينة والقصر الملكي، واصطف رجالٌ على طول الطريق، وهناك وقف جنود المشاة شامخين ورماحهم ممتدة حتى أقدامهم، ولوّح آخرون بالرماح، بعد ذلك كان رجال مسلحون بأسلحة خفيفة يمتطون البغال، فتقدم الفرسان بخيولهم، وتقدم كبار الشخصيات لاستقبالنا.
كان الطريق إلى المدخل مغطى بالسجاد والقماش الثمين، وبعد أن دخلنا إلى القصر اكتشفنا عالما غير معروف تماما لسكان أوروبا المسيحية، عالم من الفخامة والأناقة تمتد جذوره في الشرق الأقصى، فتلك التيجان المدهشة على الأعمدة وفي بعض الغرف، وهي تحتل مكانة مرموقة في الفن الإسلامي، وبقيت شاهدة على عظمة المدينة، وتتميز عن التيجان الرومانية بطريقة نقبها، بإنشاء سلسلة من الثقوب لخلق تدرج بين الضوء والظل.
اكتشف العلماء كثيرا من هذه الزخارف، لكن أضعافها قد اندثر، وتذكر الوثائقُ وجود 4313 عمودا من الرخام الأبيض والرمادي والوردي، يحمل كل تاج اسم الحِرفي الذي نحته، ببراعة مشرقية في النقش والصنعة أذهلت الغربيين، وتحف فنية في غاية الجمال تظهر في أدق التفاصيل وأصغرها، وقلائد من اللؤلؤ المخرم، وأقراط وأساور، ومنقوشات جميلة على الملابس، وحياة باذخة مترفة.
وفي الموقع وجد العلماء قطعا لبعض الأثاث الفاخر وبقايا الطلاء، ونقلوها جميعا إلى متحف مخصص لمدينة الزهراء، وقد نظفت القطع وأفرزت، بعض أطباق السيراميك المزخرفة وجدت كما كانت، ومن المؤكد عدم وجود مثيلاتها في الممالك المجاورة، واستخدمت مركبات كيميائية دقيقة في رسوماتها.
جنات الزهراء.. أشجار شتى ومياه تصنع ترف المدينة
لا تقل حدائق مدينة الزهراء براعة وفخامة عن العمارة، فهذا الطراز من الحدائق لم يكن في الممالك الإسلامية الأخرى ولا يعرفه الأوروبيون، فهناك خطان متعامدان من الفواصل، يصنعان أربعة مربعات تمتلئ بالخضرة من أشجار ونباتات شتى تتناسق بشكل مبهر، وصوت المياه والرطوبة وأشجار الفواكه الدانية والأزهار العطرة، كأنهم يستوحون صورة من الجنة التي وصفها القرآن الكريم.
ولكي يتخيل العلماء حدائق الزهراء فقد يمّموا وجوههم صوب قصر الحمراء في غرناطة، علهم يستوحون من حدائقه الباهرة صورة عن حدائق الزهراء، فثمة طيفٌ واسع ومتناسق من الألوان والروائح العطرية.
وقد وصلت مع المهاجرين أشجار الفواكه والخضروات التي اعتادوا عليها، مثل أشجار الحمضيات وخضراوات الباذنجان والخرشوف، وكانوا يجرون الاختبارات ويتقنون فن التهجين والبستنة كما لم يفعل أحد من قبل.
أما عن نُظُم جمع الماء وتخزينه وحسن تصريفه، فقد امتلك العرب معرفة تكنولوجية متقدمة أحضروها معهم من الشرق، وقد تساءل الباحثون: كيف جلب الخليفة المياه لمدينته الزهراء؟ ووجدوا الإجابة في جبل الشارات، فهناك قناة ماء رومانية أعيد تأهيلها في عصر عبد الرحمن الثالث، بدأت من منبع النهر وشقت طريقها عبر الجبال، بطول 16 كم قبل أن تصب في الزهراء.
وقد تعلمت أوروبا من الأندلس هذا النهج التقدمي في جمع المياه وتصريفها، وكان هذا نادرا في المدن المسيحية خلال العصور الوسطى، فهذه مياه الشرب وهذه للنظافة، وأخرى لتنظيف شبكات الصرف الصحي، حفاظا على الصحة العامة، ومياه تستخدم في الحمامات العامة، ومياه توجّه لري الحدائق.
وقد عكف “ألبرتو” على رسم نموذج رقمي لنظام الماء المعقد المستخدم لنقل المياه في المدينة، وبيّن كمال عملية التوزيع، فعندما وصلت القناة الرئيسية مدخل المدينة انقسمت إلى عدة فروع لتزويدها على مدار الساعة، فالنظافة مهمة في ثقافة الأندلسيين، بدلالة النصوص المكتوبة والأدوات التي عثر عليها، ففي قرطبة وحدها 300 حمام عام على الأقل.
وهناك أيضا نظام معقد للغاية لضخ المياه إلى القصر وسائر المدينة، ونظام مراحيض تحتوي على مياه جارية إمعانا في النظافة، للقصر وللمساكن الأخرى الأكثر تواضعا في المدينة، فحتى قرطبة لم يكن بها مراحيض ذات مياه جارية، أما سائر أوروبا فلم يكن بها مراحيض أصلا إلا في الفلل والقصور الخاصة.
مسجد الزهراء.. شامة تضيء الحواضر وتحصي السكان
عاما بعد عام يتضح جمال نموذج “ألبرتو” ثلاثي الأبعاد، ويتضح إبهار تصميم المدينة أمام أعين الباحثين، لكن كم كان عدد الجنود والخدم والتجار والعبيد الذين يسيّرون أعمال هذا القصر المذهل؟ لا توجد نصوص تذكر هذه الأعداد، لذا اعتمد العلماء على وسيلة إحصاء تتوفر في الحواضر الإسلامية الأخرى، وهي مساحة المسجد.
لم تكن آثار المسجد واضحة على الواقع، فقرر الباحثون بناءه افتراضيا، ووجّهوا أنظارهم نحو مسجد قرطبة، تلك التحفة الإسلامية المذهلة التي حوّلها الإسبان إلى كنيسة عام 633 ه الموافق 1236 م، فهو مسجد فريد بني في القرن الثاني الهجري الموافق للثامن الميلادي، وقد أُدرج ضمن مواقع التراث العالمي، ويتميز بمستويين من الأقواس المتراكبة، أما الأقواس العلوية فهي تدعم السقف، ويتناوب فيها الحجر الأبيض والطوب الأسود، وأما الأقواس السفلية فهي التي تربط الأعمدة ببعضها.
ويمكن تشييد المبنى الافتراضي لمسجد الزهراء على نسق مسجد قرطبة، ولكن ماذا عن المئذنة؟ ليس لدينا إلا بعض البقايا الصغيرة عند قاعدتها. وبالاستعانة بالباحثين، أمكن تشكيل نموذج فريد يوحي بعظمة وبهاء المسجد الأصلي. وبناءً على حجم المسجد، أمكن تقدير عدد سكان المدينة بحوالي 10-12 ألفا. والمحصلة هي قصر باذخ ومسجد فخم وحدائق غناء ونظام مياه معقد كله يدل على بُعد طموح حاكمها.
ويستمر التنقيب وبناء الفرضيات، فهنا المركز التجاري للمدينة، وهنا موقع صرف وتبادل العملات، وينبغي أن يكون السوق قريبا من البوابة والمسجد. وقد اكتشفت عملات عدة في المدينة، وهي خاضعة للدراسة والترميم في متحف المدينة، والهدف قراءة النقوش عليها، وهو عمل دقيق وبطيء وحساس لتجنب إتلاف النقوش أثناء معالجتها.
وكانت لأمير الزهراء عملته الخاصة، دليلا على سيادته الاقتصادية في الأندلس، ولكن من أين أتت هذه السيادة؟ وما مصدر ثرائه الاستثنائي؟ في مكان بعيد شمال الأندلس يسمى “لاس سيياس”، اكتشفت قرية زراعية إسلامية بمساحة هكتار واحد، وفيها 40 صومعة مختلفة السعات لتخزين الحبوب، وهي دليل على مجتمع زراعي غني، ولديه فائض كبير من الحبوب، ولكن ما هي المحاصيل التي كانوا يزرعونها؟
مصادر التمويل.. طموح عسكري وسياسي أكبر من الأندلس
استطاع علماء المركز الوطني للبحث العلمي في مونبيلييه دراسة تربة الريف الأندلسي لتحديد نوعية النباتات التي كانت تزرع هناك، هذه بذور شعير محترقة، وهذه نواة زيتون. فلقد زرعوا الشعير والقمح والشوفان وأشجار الزيتون والعنب والبرقوق.
وحصل الأمراء على كميات من هذه المحاصيل على شكل ضرائب أو كميات عينية، لكن هذا لم يكن ليكفي الأمير الطموح عبد الرحمن الثالث، فحوّل أنظاره بعيدا عن الأندلس والقارة كلها، إلى حيث الذهب، إلى شمال أفريقيا، فالذي يتحكم بشمال أفريقيا سيتحكم بنهايات طرق القوافل، وبالتالي يسيطر على الذهب.
مد عبد الرحمن نفوذه إلى أفريقيا عبر الصحراء الكبرى، وسيطر على طرق الرقيق والذهب، مما عزز سيادته المالية، فخلال فترة حكمه أصبحت الأندلس إمبراطورية عسكرية وتجارية، وسكّ العملة باسمه وشارك طموحه السياسي مع شعبه والشعوب الأخرى عن طريق الدعاية بالقطع النقدية.
وأخذ دار سك العملة معه من قرطبة إلى الزهراء، واستبدل نقش الأندلس بنقش مدينة الزهراء على عملته، واستخدم أثمن المعادن في عملته في تحدٍّ سافر للخليفة في بغداد الذي كان له وحده الحق في سك العملة الذهبية.
ولم يقف التحدي عند هذا القدر، بل أضاف ألقابا لاسمه لا تنبغي إلا لخليفة المسلمين، منها “الناصر لدين الله، السلطان عبد الرحمن، أمير المؤمنين” فجمع بين القوتين الدينية والعسكرية، وأصبح في نفس مستوى الخليفة العباسي في بغداد والأمراء الفاطميين شمال أفريقيا، فحقق ما لم يجرؤ على فعله أيٌّ من أسلافه، وتحرر من سلطة الخليفة في بغداد، واعتبر نفسه زعيم العالم الإسلامي.
أصبح عبد الرحمن الثالث لاعبا أساسيا في الشرق والغرب، فكان يتاجر مع ألمانيا في الشمال، وله علاقات ممتازة مع بيزنطة في الشرق، وفي الجنوب له تعاملات مع أفريقيا بفضل علاقاته مع الأمازيغ في المغرب. وكان السفراء والمبعوثون يتسابقون لزيارة مدينته المرموقة، والمثول بين يديه في بلاطه، في المجلس المؤنس (تسميه المراجع الأجنبية صالون ريكو).
المجلس المؤنس.. بهو السفراء المزخرف بالرخام
على مدى 100 عام، وجد العلماء عشرات آلاف القطع الرخامية التي غطت الجدران، واليوم يسعون لإعادة بناء هذا الصرح الأسطوري، وقد قضى “إسكوبار” 50 عاما من حياته يجمع هذه القطع ويعيد رصّها مثل الأحجية. يقول: تعاملْتُ مع حوالي 50 ألف قطعة منحوتة، فالمجلس المؤنس الهائل هو ببساطة كل حياتي.
وفي المجلس المؤنس أكثر من 70 لوحا رخاميا منحوتا بزخارف لا تضاهى، تجسد ذروة الفن الإسلامي في القرن العاشر، وكانت الزخارف السفلية تمثل الطبيعة أما الزخارف العلوية فتمثل الفلك والنجوم.
وكان المؤنس يقبع في الناحية الشرقية، تليه بركة المياه والنوافير، وبعدها بناء غامض حيَّر العلماء في الجهة الغربية، لم تتحدث عنه المخطوطات كثيرا، ولذا وجب استدعاء الافتراضية الرقمية مجددا لمعرفة كنه هذا المبنى الغامض، ويبدو أنه مجلس الاستقبال لولي العهد “الحَكَم الثاني”، والمجلسان يقابلان بعضهما، وتنعكس صوة واجهتيهما في ماء البركة، في رمزيةٍ لاستمرار سلالة الخليفة.
بحلول عام 349 ه الموافق 960 م اكتمل بناء المدينة، لكن مستقبلها كان غامضا، فحسب السجلات كانت هذه المدينة خرابا مهجورا بعد 50 عاما فقط، ويحاول علماء التنقيب حلّ هذه الأحجية، وقد قادهم بحثهم المتواصل إلى فرضيةٍ مفادها أن المدينة قد تعرضت لحريق هائل، فهناك قطع رخامية وأخرى خشبية متفحمة، وطبقة سوداء من الأتربة، ومثلها في المسجد والمجلس المؤنس ومناطق متعددة في المدينة.
علبة المجوهرات.. تحفة صامتة تنطق بنهاية المدينة المأساوية
نُهبت المدينة وأُحرقت في عام 400 ه الموافق 1010م، وهو تاريخ مصادف للحروب التي جرت بين الأمراء الأندلسيين، وهكذا تبددت أحلام الأمويين في استعادة ملكهم الغابر، ولكن كيف حدث ذلك؟
لعل قسم الآثار الإسلامية في متحف اللوفر يخبرنا بشيء، فهناك قطعة شاهدة على الصراع المميت الذي أسقط المدينة.
إنها علبة مجوهرات عاجيّة منحوتة من نابٍ واحدة، كانت ملكا للمغيرة، وهو الابن الأصغر لعبد الرحمن الثالث، وتفاصيل نحتها بالغة الدقة والجمال، فبها نقوش حيوانات وطيور مختلفة، كأنها تروي حكاية السلالة الحاكمة، ويمكن أن يرمز الشخصان الموجودان في النقوش لهاشم والمغيرة ابني عبد الرحمن، يجلسان على منصة واحدة، كأنما يتنازعان عرشا واحدا، قد يكون هذا التنازع هو الذي أودى بالمُلْك والمدينة معا.
وتخبرنا السجلات أن عبد الرحمن الثالث توفي في عام 350 ه الموافق 961م، وعمره 72 عاما، وورث ملكَه ابنُه، ثم مات بعد 15 سنة من حكمه، وكان يفترض أن يرثه الحفيد المغيرة، ولكنه قتل بأمر من الزوجة المفضلة لدى الخليفة الراحل، وأعطت العرش لابنها هشام، وكان يبلغ 10 سنوات فقط، وهو ما أدى لانقطاع حكم السلالة بسبب الانقلابات والاغتيالات، واندلاع حرب أهلية شاملة نهبت فيها المدينة وأحرقت.
ومع أعمال التنقيب اكتشفت واجهة أخرى مقابِلة ومماثلة لواجهة قصر الخليفة وبينهما ساحة مستطيلة بطول 150 وعرض 120 مترا، ربما تكون ساحة احتفالات وتجمعات بين رواقَي القصر.
يحتاج الأمر سنوات أخرى كثيرة لاكتشاف أسرار هذه المدينة التي لم تبح بها بعد، ولكن المؤكد أنه لم تكن في عصرها مدينة تضاهيها، لا في أوروبا ولا في الشرق الإسلامي. واليوم تمثل أنقاض المدينة الغامضة بقايا حلم رجلٍ أراد أن يستعيد مجد أسلافه العظماء.
وقد وقف الشاعر الكبير محيي الدين بن عربي على أطلال هذه المدينة وقال الأبيات التالية في رثائها:
ديارٌ بأكنافِ الملاعبِ تلمعُ
وما إن بها من ساكنٍ وهي بَلقَعُ
ينوحُ عليها الطيرُ من كل جانب
فتصمتُ أحيانا وحِينًا تُرجِّعُ
فخاطبتُ منها طائرا مُتغرِّدا
له شجَنٌ في القلب وهو مُرَوَّعُ
فقلتُ: على ماذا تنوحُ وتشتكي؟
فقال: على دهرٍ مضى ليس يَرجِعُ