غزوة تبوك.. جيش العسرة الذي حطم جدار الرعب الروماني

لم تكن تبوك غزوة مثل سابقاتها من الغزوات والحروب التي خاضها نبي الإسلام محمد ﷺ وصحابته الكرام. وإذا كانت الحروب كلها بأسا وعسرا، فقد كان لتبوك النصيب الأوفى من العسر والبأس، فقد اجتمع لها بُعد المكان، وصعوبة ظرف الزمان، وانعدام وسائل التموين، ومغالبة الأخطار المتعددة، فكانت تحديا لنواميس الطبيعة، وأعلى سلطان للطغيان البشري يومها، لكنها أيضا كانت في كنهها تحديا لطبيعة النفس البشرية الميالة إلى الراحة والدعة، المؤثرة للحياة على السير الحافي في حر الصيف دون زاد ولا ماء، لملاقاة أقوى وأعتى قوة عسكرية في العالم يومها.

ولأن سجل الغزوات النبوية لم يكن إلا سجل الانتصارات الخارقة، فقد سجلت تبوك نفسها إكليل الإباء في هذا السجل الخالد، وكانت ختاما للغزوات النبوية، وكانت في خلاصتها إيذانا بأن الصحابة وصلوا إلى أعلى مراحل الولاء لله وللإسلام، وأصبح بإمكان الرسول ﷺ أن يقلع راحلا إلى الملأ الأعلى، فقد أصبحت أمته في الجاهزية المثلى لمواصلة المسيرة.

وبين السير والقفول من تبوك، نشأت قصص متنوعة من الإباء والتضحية والعزم والفداء، ومن المعجزات والخوارق، وتناثرت دروس وعبر ما زال قلم التأويل يستمطر من معانيها كل يوم عقلا راجحا وفكرا إسلاميا مستنيرا.

جيش العسرة.. غزوة في الصيف إلى أقصى بلاد العرب

سار النبي الكريم ﷺ إلى تبوك في العام التاسع الهجري الموافق 630 ميلادي، وكان من أبرز خصوصيات معركة تبوك أن رسول الله ﷺ صرح فيها بالوجهة والخصم، في استثناء كان وقعه على النفوس شديدا، وتمحيصه للرجال ناصعا، ولذلك سميت هذه الغزوة بالفاضحة، لأنها كشفت المنافقين الذين وقفوا لها بالمرصاد تشكيكا وإرصادا.

كما أن هذا التصريح -الذي لم يكن من سنن الرسول ﷺ في الغزوات- فتح أمام المسلمين باب الخيار، وأدار في النفوس جدلا عميقا حول نداء النفير إلى الموت الزؤام، ونوازع النفوس الميالة إلى السلم والراحة، لكن سطوة الإيمان وسلطان الوفاء وجاذبية الوعود الربانية كانت أقوى من أغلال النفوس المهترئة، فتسابق المسلمون إلى صفوف الجيش الكبير، جودا بالنفس والدم والمال، وتلك أعلى غايات الجود، وأعز مضمار للبذل.

سار جيش المسلمين بقيادة النبي صلى الله على وسلم إلى تبوك لملاقاة جيش الروم، غير أن الروم فرّوا

كان فتحُ مكة وما أعقبه من انهيار القوى العسكرية وكسر شوكة المشركين العرب رسالةً إلى العالم بأن المد الإسلامي قد انطلق ولا راد لعنفوانه، ولذلك بدأ الروم في الإعداد والجمع سعيا لمحاصرة الخطر القادم إليهم، وبلغت تلك الأنباء النبي ﷺ فقرر الحسم ومفاجأة الروم قبل أن ينتقلوا إلى الخطوة الموالية.

اختار النبي ﷺ للمواجهة المتوقعة أن تكون في أقصى نقطة من بلاد العرب وفي أقرب حيز جغرافي إلى بلاد الروم، كما اختار لها ظرفا زمانيا صعبا جدا، حيث فورة الحر واشتداد لهيب الصيف الحارق في جزيرة عربية شاسعة، لا ماء فيها يومها ولا مرعى، لكن الخطر كان فوق كل اعتبار وسنة التمحيص كانت أعلى وأقوى من كل الاحتمالات الواقعية، ولاجتماع هذه الظروف الصعبة سمى القرآن هذا المسير بالعسرة: (لَقَدْ تَابَ اللهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ الذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ العُسْرَةِ). سورة التوبة 117.

“من جَهَّز جيشَ العُسرة فلَهُ الجنَّةُ”.. سباق الأثرياء

لم يكن الجود بالمال في هذا الظرف أقل مراتب الجود، بل كان رتبة سامية، نظرا لضيق ذات اليد وغياب المصادر المالية لتسيير هذا الجيش الكبير، وهنا تدخلت جاذبية الوعد الرباني، فخطب رسول الله ﷺ في المسلمين “من جَهَّز جيشَ العُسرة فلَهُ الجنَّةُ”.

ثلاثمئة بعير بكامل عدتها تبرع بها عثمان بن عفان رضي الله عنه نصرة لجيش العسرة، فما ضره ما فعل بعد ذلك

فهَمَتْ غيوث الكرم، وتسابق الصحابة رضوان الله عليهم في تجهيز الجيش، ومن أبرزهم عثمان بن عفان رضي الله عنه، فقد انطلق إلى بيته وعاد مسرعا بألف دينار، ووضعها بين يدي رسول الله ﷺ، ثم أمد الجيش النبوي بثلاثمئة بعير بكامل عدتها من أسلحة وأحلاس، وهو ما يعني أنه جهز ثلث الجيش، فكان كل بعير ركوبا لعشرة مقاتلين من المسلمين.

ثم جاء أبو بكر الصديق رضي الله عنه بكل ماله دون أن يبقي لأهله شيئا، وجاء عمر بنصف ماله بعد أن ظن أنه سيسبق الصديق في مضمار الكرم والبذل، ولم يزل مزاد الجنة يعلو ويغلو بدفق من جود الصحابة، وخصوصا الأثرياء منهم من أمثال العباس بن عبد المطلب وطلحة بين عبيد الله ومحمد بن مسلمة وعاصم بن عدي.

“لم تجعل عندي ما أتقوّى به مع رسولك”.. ميدان الفقراء

في الضفة الأخرى تسابق فقراء الصحابة بتقديم ما خف أو غلا من مدخراتهم وأملاكهم، وفي طريق الجنة ربما سبق درهمٌ ألفَ درهم، وربما كان صاعٌ من التمر أثقلَ في الموازين من آلاف الدنانير الذهبية.

ومن بين تلك المواقف النادرة قصة الصحابي الجليل علبة بن زيد الذي اكتوى قلبه لأنه لم يجد ما ينفق، فلما جن الليل صف قدميه مصليا باكيا، ثم رفع يديه إلى السماء وقال: اللهم إنك قد أمرت بالجهاد، ورغّبت فيه، ثم لم تجعل عندي ما أتقوّى به مع رسولك، وإني أتصدّق على كل مسلم بكل مظلمة أصابني فيها من مال أو جسد أو عرض.

وفي الصباح سمع النبيَّ ﷺ يقول: أين المتصدق هذه الليلة؟ فلم يقم أحد، فأعاد النبي ﷺ مرّة أخرى، فلم يقم إليه أحد، فشعر علبة رضي الله عنه أنه المقصود بذلك، فقام وأخبره الخبر، فقال له النبي ﷺ: أبشر، فوالذي نفس محمد بيده لقد كُتبت في الزكاة المتقبلة.

جيش النفاق.. حرب نفسية من داخل المعسكر الإسلامي

كانت العسرة شاملة لمجالات متعددة في تبوك، فإذا كان ترويض النفوس على الاستجابة لاستنفار الرسول ﷺ اختبارا نفسيا داخليا نجح فيه أغلب الصحابة رضوان الله عليهم، فإن مواجهة عدو بقوة وجبروت الروم لم يكن أمرا سهلا، ومع ذلك شحذ المسلمون الهمة لخوض هذا الغمار، وبقي تحد آخر لا يقل قسوة وهو مواجهة الحرب النفسية التي شنها عدد من رؤوس النفاق، وأخذت عدة مسالك منها:

بنى المنافقون مسجدا ضرارا أرادوا به شق الصف المؤمن، لكن النبي أمر بهدمه وتحريقه
  • التحريض على عصيان الأمر النبوي بحجج العسرة وصعوبة الحال، والدعوة إلى تأجيل النفير حتى ينتهي موسم الحر، وذلك عزفا على وتر الخمول والميل إلى الدعة، وتلك أوتار قطعتها صوارم الإباء وشغف المؤمنين بالشهادة، وحل محلها صوت يضج في الأعماق (وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضَى). سورة طه 84.
  • التشكيك في نيات المتصدقين من أثرياء وفقراء المسلمين، وذلك أسلوب متواصل تمارسه فئات متعددة من الناس أمام كل موسم عطاء، وكل منطلق فداء أو ميدان بذل، وقد كشف القرآن خبايا هذه الدوافع وتوعد أهلها بأليم العقاب (الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقَاتِ وَالَّذِينَ لَا يَجِدُونَ إِلَّا جُهْدَهُمْ فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ سَخِرَ اللَّهُ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ). سورة التوبة 79.
  • إقامة بنية تنظيمية موازية، وذلك عبر مسجد الضرار الذي أنشؤوه في منافسة مع المسجد النبوي، وسعيا إلى منحه الشرعية طلبوا من رسول الله ﷺ أن يصلي فيه، وذلك لإقامة نموذج مضاد أو ثورة داخلية، لكن الأمر الإلهي كان حاسما بهدم وتحريق هذا البناء المزعوم وإنهاء خطره.

زحف الجيش.. خمسون يوما من الحر والجوع وصناعة الرعب

كان جيش المسلمين في تبوك الأعلى في تاريخ الجيوش النبوية، لكنه كان من الناحية العددية مجرد نقطة في جنب ثور الطغيان والقوة الرومانية العاتية، ومع ذلك فقد سار جيش العسرة بعد أن أخذ ما أمكن من عدته، ووزع الرسول ﷺ هيكلة الجيش، فدفع لواءه الأعظم إلى أبي بكر، ورايته العظمى إلى الزبير، ودفع راية الأوس إلى أسيد بن الحضير، ولواء الخزرج إلى أبي دجانة، ويقال إلى الحباب بن المنذر بن الجموح، بحسب ما جاء في تاريخ دمشق لابن عساكر.

ثم وزع القبائل بعد ذلك، كل قبيلة خلف لوائها، وأمر كل بطن من الأنصار أن يتخذ لواء، وكلف عباد بن بشر بكتيبة الحراسة، وكان دليله ﷺ إلى تبوك علقمة بن الفغواء الخزاعي، رضي الله عنه. وبعد ذلك، انطلقت المسيرة المظفرة والجيش الكبير من المدينة لتكون بذلك تبوك أطول غزوات النبي ﷺ زمنا وأبعدها مسافة.

سار المسلمون إلى غزوة تبوك في رحلة استمرت خمسين يوما في صيف قائظ

انطلق الجيش بكتائبه إلى الشمال نحو تبوك، وكان جيشا كبيرا وحركته بطيئة وتموينه صعبا، وزاد من صعوبة المسار اقتران الحر بانعدام نقاط المياه، والنقص المتصاعد في الزاد والأقوات، حتى اضطر الصحابة إلى الصبر على جرعة ماء ولوك تمرة واحدة طول اليوم.

وقد أخذ مسار النبي ﷺ خطا طويلا، عُرف عند مؤرخي السيرة النبوية بمساجد تبوك، وهي المراحل التي تنقل خلالها الجيش وأقام معسكرات، وقد حصرها ابن هشام في 17 مسجدا، مما يعني أن الجيش كان يسير ويتوقف ويقيم ويرحل تبعا للظروف والمناخ الذي كان يتحرك فيه بصعوبة بالغة.

معجزات تبوك.. أنوار المدد الإلهي في ليل التسليم

حفلت غزوة تبوك بمعجزات عدة، ولعل من أهمها:

  • المعجزة الحضارية الكبيرة التي انتظم فيها هذا الجيش الضخم في ظرف غير مسعف، مع ضعف في الإمدادات وشح في الأقوات، ليسجلوا واحدة من أبرز قصص استعلاء المبادئ على الرغبات والنوازع الذاتية.
  • معجزة السحابة التي سقت الجيش بعد أن أضناه العطش وأرهقه الحر، ويروى تفاصيلها الفاروق رضي الله عنه، كما روى ابن عباس أنه قيل لعمر بن الخطاب: حدِّثنا عن شأنِ سَاعَةِ العُسْرَة، فقال عمر: خَرَجْنَا إلى تبوكَ في قَيْظٍ شديدٍ، فنزلْنا منزلاً أصابنا فيه عَطَشٌ، حتى ظَنَنَّا أَنَّ رقابنا سَتَنْقَطِعُ حتى إنَّ الرجُلَ لَيَنْحَرُ بعيره، فَيَعْصِرُ فَرْثَهُ فيشربه، ثم يجعل ما بقي عَلَى كَبِدِهِ، فقال أبو بكر: يا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ اللَّه قد عَوَّدَكَ في الدعاءِ خيرا، فادع اللَّهَ، فَقَالَ: أَتُحِبُّ ذلكَ؟ قَالَ: نَعَمْ، فَرَفَعَ يَدَيْهِ، فلم يَرْجِعْهما حتَّى مالَتِ السماء فَأَظلَّتْ، ثم سَكَبَتْ فملأوا ما معهم، ثم ذهبْنا ننظر، فلم نجدْها جاوَزَتِ العَسْكَر.
تحت الشمس الحارقة، استغاث النبي صلى الله عليه وسلم ربه فهطل المطر في وقت لا غيم فيه ولا سحاب
  • معجزة إطعام الجيش: يروي الصحابي الجليل أبو سعيد الخدري هذه المعجزة الخالدة أيضا حين طلب الصحابة من الرسول ﷺ أن يأذن لهم بنحر إبلهم، فاعترض عمر بن الخطاب على هذا المقترح وطلب من الرسول ﷺ أن يدعو فيما بقي من زاد لدى القوم بالبركة، فدعا لهم في ذلك الزاد القليل، ثم أمرهم بملء أوعيتهم، فلم يتركوا في الجيش وعاء ولا مزادة إلا ملأوها زادا وحبا وتمرا، فقد كثّرت بركة الدعاء الزاد القليل، وملأت الأوعية الخاوية.
  • بَركة ونماء في تبوك، فقد وصلت تبوك رحمة وغيث من دعاء النبي ﷺ حينما دعا عند وادي المشقق وكان جبلا ينثر ماء قليلا متباعد القطرات، فدعا فيه النبي ﷺ حتى سمع دوي الماء كالصواعق، ثم تناثرت من حوله البركات وتدفقت الخيرات إلى تلك الصحراء القاحلة، فأصبحت أنعم الجزيرة العربية أرضا وأخصبها ريفا وأحسنها غلة زراعية، وانتظمت لها تلك البركة قرونا بعد قرون، وما زالت حدائقها الغناء وحقولها المترعة ناطقة بشكر تلك البركة النبوية.
  • قصة ناقة النبي ﷺ، وهي أيضا من معجزات تبوك الخالدة، وخلاصتها أن أحد المنافقين يدعى زيد بن اللصيت قال إن محمدا يزعم أنه يخبركم خبر السماء وهو لا يعرف أين ناقته، فحدث النبي ﷺ أصحابه بذلك، ثم قال انطلقوا إلى وادي كذا، فهي فيه قد حبستها شجرة بخطامها، فساروا إليها فوجدوها على ما وصف النبي الكريم ﷺ.

انتصارات الغزوة.. توسيع رقعة الخلافة وكسر جدار الرعب الروماني

حققت غزوة تبوك نتائج عظيمة للمسلمين، لعل من أظهرها:

  • صهر الصف الإسلامي وتنقيحه على جمر الاختبار، فتكاملت قوة المسلمين، ونصع صفاؤهم العقدي، وتساقط المنافقون من غربال العسرة.
  • كسر جدار الرعب الروماني، فقد انسحب قيصر من حدود المواجهة، معتقدا أن المواجهة مع نبي مرسل كفيلة بإنهاء ملكه.
  • توسيع خارطة الدولة الإسلامية، فقد بايعت القبائل العربية ذات الولاء الروماني المسلمين، وأنهت عهد التبعية للإمبراطورية البيزنطية، متخلصة من أسطورة أن بيزنطة دولة لا تقهر.
  • نشر هيبة المسلمين في أنحاء المنطقة، باعتبارهم الجيش الذي لا يهزم والقوة التي لا تنحني.
هرقل يؤثر الهرب من المعركة لتيقنه أن المعارك مع الأنبياء خاسرة

وما إن عاد رسول الله ﷺ وجيشه المظفر إلى المدينة حتى تقاطرت عليه الوفود العربية مبايعة وموالية، فاكتمل بذلك نصر هائل لم تُرق فيه محجمة من دم، ولم يوجف فيه بخيل ولا ركاب، ولكنه الرعب الذي هز القلوب، والهيبة التي أخذت مجامع الأفئدة، وشمس الإسلام التي أحرقت أنوارها جليد العصبية وأوهام الشرك، فكانت نهاية تبوك يسرا بعد عسر، ونصرا بعد قرح، وحلقة نهاية المهمة النبوية في الدنيا، فقد أسرعت الليالي بعدها وتسابقت حلقات الأيام، ليرحل الرسول الكريم ﷺ بعد ذلك بأقل من سنة، بعد أن نادى فصدقته الأفئدة والألسنة والأيام: “ألا هل بلغت؟ اللهم فاشهد”.