أصحمة بن أبجر النجاشي.. “إنّ في أرض الحبشة ملكا لا يظلم عنده أحد”

على بعد نحو ستين كلم من مدينة مقلي عاصمة إقليم التيغراي ذي الحاضر الملتهب، تقع مدينة النجاشي التي تكاد تكون مدينة مقدسة، فعلى حصبائها وبين جدران أبنيتها القديمة يضج العبير من تاريخ الهجرة، والعالي من مقامات الاحتضان، والأثير من تاريخ الإيمان والنبوة، والرفيع من أدب الدعوة، والسائر من فقه الحِجاج.
وبين كل ذلك سيرة رجل خدم الإسلام ومكن له وهو على دين غيره، ثم خالط الإسلام بشاشة قلبه، فانتقل من نصرانية نبيلة إلى إسلام سمح، وكان أول وطن للفارين من جحيم الإرهاب الديني في بطحاء مكة، وأعظم مركز للجوء الديني في تاريخ الإسلام والحضارات الدينية.
ولم يكن أصحمة الوحيد من ملوك الأحباش الذين حملوا هذا اللقب، لكنه كان الوحيد الذي اختاره القدر لمهمة حماية جزء من الكتلة الصلبة في جسم الإسلام الناشئ، وكان ذلك بعد عقود قليلة من محاولة “نجاشي” آخر هدم الكعبة البيت الحرام.
“قتلتم أباه بالأمس وتريدون قتله اليوم”
كان أصحمة ابن نجاشي متوج، وقد بلغ والده من العمر عتيا، وتقدم مقربوه ووزراؤه وحاشيته في الغدر، فقتلوا الملك المسن، وتركوا نجله الصغير في رعاية عمه الذي توجوه ملكا، وكان للعم اثنا عشرة ولدا، ولم يكن في وارده ترك الملك لغير أبنائه الأسباط.

وكان الملأ موقنين في قرارة أنفسهم أن جمرة الثأر كانت تعتمل في قلب الصبي الذي عقل مصرع والده، وانتُزع ملكه، لكن لهب الحقد كان أقوى في نفوس المتآمرين، فأغروا به عمه النجاشي، خصوصا بعد أن رأوا مخايل الذكاء تشرق في وجنيته السمراوين، وبعد أن قربه عمه وأسند إليه من الاستشارة والرأي والتفويض ما أخاف القوم الغدَرة، فكلموا الملك في ذلك.
ونقلت عنهم صحائف التاريخ أنهم قالوا: أيها الملك، إنا لا تطيب نفوسنا وتطيب قلوبنا إلا إذا قتلت أصحمة أو أخرجته من بين أظهرنا، فهو قد شبّ ونخشى أن ينتقم منا جزاء قتلنا أباه. فقال لهم الملك: بئس القوم أنتم، قتلتم أباه بالأمس وتريدون قتله اليوم! فلم يزالوا به حتى أبعده مكرها.

ولأن الملك قد أذن بإبعاده، فقد قرر الغدرة أن يبيعوه كما بيع من سبقه من أبناء الأحباش السمر، ونشأت منهم حضارة وافرة من المسترقّين الذين زركشوا جوانب مظلمة من التاريخ العربي القديم. وتقول بعض الروايات الغربية ذات الأصول الحبشية إن أعيان قصر أكسوم باعوا أصحمة بن أبجر لرجل عربي يدعى الضميري بـ600 درهم، فعمل راعيا ونشأت بينه وبين الأرض والإنسان العربي علاقات، واكتسب صداقات مع العرب الذين كانوا يفدون بعد ذلك إلى الحبشة تجارا.
غضب السماء ونجدة القدر.. عودة أصحمة
تتفاوت الروايات بشأن عودة أصحمة إلى قصر والده، وتبدو أقواها تلك التي تقول إن النجاشي عانى قيد الأسر والفقر عدة سنوات، قبل أن يتدخل القدر، وتقذف صاعقة بلهبها على عمه النجاشي فترديه صريعا، ويبدأ المستشارون وكبار الوزراء البحث عن نجاشي جديد، فلا يجدون فيهم غناء للملك ولا صلاحا للزعامة، وتضيق أمامهم السبل الدستورية، فلا بد من نجاشي من صلب الأسرة الحاكمة، ويعود المتآمرون ناصحين من جديد، باحثين عن العبد الذي باعوه بثمن بخس قبل سنين، وكانوا فيه من الزاهدين.

وهكذا حرك القدر القلوب القاسية لتلين لرجل كانت تسعى إلى قتله، ومدت له بساط الملك بعد أن كانت تفرش له النطع وترجو له ضربات السياف.
ملأ النجاشي الأرض عدلا بعد أن ملأها من قبله جورا، وتباشر به الأحباش، ونثروا حوله العنبر وورود التقدير والتبجيل، وتداعت إلى حضرته الرهبان والقساوسة، بعد أن رأوا رجلا منهم -سمتا وطريقة- يدير الحكم في أرض الفرسان السمر.
وفي تلك الأثناء كان لهيب من الظلم والجهل في مكة بيد أبي لهب وأبي جهل يقتات من أجساد المسلمين، وإرهاب الوثنية يقرع بعنفه ووحشيته صمودهم الديني الأسطوري وعضّهم بنواجذ الإيمان على جمر العقيدة السمحة.
“إنّ في أرض الحبشة ملكا لا يظلم عنده أحد”
كانت سوابق القدر وسوابغ الخير قد نسجت بين النجاشي والنبي الكريم ﷺ رحما من دين، وآصرة من تقوى، فكان النجاشي يعرف أن النبي العربي قد أظل زمانه، وكان رسول الله ﷺ يعرف أن في الحبشة (أثيوبيا الآن) ملكا عادلا وراهبا ذا فؤاد من رحمة، ولذلك دعا المسلمين الأُوَل إلى الهجرة، وشرع لهم زوارق اللجوء، ونادى فيهم: إنّ في أرض الحبشة ملكا لا يظلم عنده أحد، فالحقوا ببلاده ولوذوا بحماه، حتى يجعل الله من أمركم فرجا، ويهيئ لكم من ضيقكم مخرجا.

وانطلق الموكب المؤمن يشق دجى الليل، ويفري غياهب الإرهاب الوثني، عابرا أمواج البحر الأحمر ليصل إلى مملكة النجاشي، ويورد ابن هشام في سيرته أسماء الرعيل الأول من المهاجرين إلى الحبشة وهم: عثمان بن عفان بن أبي العاص بن أمية، ومعه امرأته رقية بنت رسول الله ﷺ، وأبو حذيفة بن عتبة بن ربيعة بن عبد شمس، ومعه امرأته سهلة بنت سهيل بن عمرو التي أنجبت في الحبشة ابنها محمد بن أبي حذيفة، والزبير بن العوام، ومصعب بن عمير، وعبد الرحمن بن عوف، وأبو سلمة بن عبد الأسد وامرأته أم سلمة بنت أبي أمية، وعثمان بن مظعون، وعامر بن ربيعة، ومعه امرأته ليلى بنت أبي حثمة، وأبو سبرة بن أبي رهم، وعبد الله بن مسعود، وسهيل بن بيضاء.

أمّن النجاشي الصحابة الأبرار في سربهم، وأدنى لهم أفانين التقدير، فدعا ذلك إلى الهجرة الثانية التي شارك فيها 83 رجلا و18 امرأة، خرقوا جدران الليل، وسبقوا قريشا إلى عرض البحر، وألقاهم اليم إلى شاطئ الأمان، فكبر الأمر على قريش وأهمها فقدان السيطرة على زوارق الإيمان العابرة إلى الحبشة.
“إنه قد ضوى إلى بلدك منا غلمان سفهاء”.. سفراء قريش
استنفرت قريش لمواجهة المسلمين اللاجئين إلى النجاشي خيرة دهاتها، فأرسلت عمرو بن العاص وعبد الله بن أبي ربيعة، مع ما خف أو ثقل من الهدايا، وبدأ الموفدان في رشوة وزراء النجاشي تمهيدا للوصول إلى قلبه، ولنترك أم المؤمنين أم سلمة تتحدث عن تفاصيل تلك المرافعات والمحاكمة الفكرية العالية المقام.
قالت أم سلمة: لما نزلنا أرض الحبشة جاورنا بها خير جار؛ النجاشي، أمِنّا على ديننا، وعبدنا الله تعالى لا نؤذى ولا نسمع شيئا نكرهه، فلما بلغ ذلك قريشا ائتمروا بينهم أن يبعثوا إلى النجاشي فينا رجلين منهم جلدين، وأن يهدوا للنجاشي هدايا مما يستطرف من متاع مكة، وكان من أعجب ما يأتيه منها الأدم، فجمعوا له أدما كثيرا، ولم يتركوا من بطارقته بطريقا إلا أهدوا له هدية، ثم بعثوا بذلك عبد الله بن أبي ربيعة وعمرو بن العاص، وأمروهما بأمرهم، وقالوا لهما: ادفعا إلى كل بطريق هديته قبل أن تكلما النجاشي فيهم، ثم قدما إلى النجاشي هداياه، ثم سَلاه أن يسلمهم إليكما قبل أن يكلمهم.

وكان الأمر، فقد فعلت الهدايا في نفوس الوزراء أفاعيلها، فوقفوا سندا لدعم الحجة القرشية التي قدمها عمرو بن العاص قائلا: إنه قد ضوى إلى بلدك منا غلمان سفهاء، فارقوا دين قومهم ولم يدخلوا في دينك، وجاؤوا بدين ابتدعوه، لا نعرفه نحن ولا أنت، وقد بعثنا إليك فيهم أشراف قومهم من آبائهم وأعمامهم وعشائرهم لتردهم إليهم، فهم أعلى بهم عينا، وأعلم بما عابوا عليهم وعاتبوهم فيه.
ثم صدّقت البطارقة قول عمرو بن العاص، فغضب النجاشي وقال: لا أسلمهم إليهما، ولا يكاد قوم جاوروني ونزلوا بلادي واختاروني على من سواي، حتى أدعوهم فأسألهم عن ما يقول هذان في أمرهم، فإن كانوا كما يقولان أسلمتهم إليهما، ورددتهم إلى قومهم، وإن كانوا على غير ذلك منعتهم منهما، وأحسنت جوارهم ما جاوروني.
جعفر بن أبي طالب.. محامي الإسلام الأول أمام النجاشي
انعقد عزم المسلمين حين علموا بمكيدة عمرو بن العاص، على أن يقدموا الإسلام في نصاعته وفصاحته، والصدق في براءته وبراعته، فتقدم محامي الإسلام الأول جعفر بن أبي طالب، ليجيب الملك عن الذي فارقوا به دين الأسلاف من قريش قائلا:
ليجيب الملك عن الذي فارقوا به دين الأسلاف من قريش قائلا:
أيها الملك، كنا قوما أهل جاهلية، نعبد الأصنام، ونأكل الميتة، ونأتي الفواحش، ونقطع الأرحام، ونسيء الجوار، ويأكل القوي منا الضعيف، فكنا على ذلك حتى بعث الله إلينا رسولا منا، نعرف نسبه وصدقه وأمانته وعفافه، فدعانا إلى الله لنوحده ونعبده، ونخلع ما كنا نعبد نحن وآباؤنا من دونه من الحجارة والأوثان، وأمرنا بصدق الحديث، وأداء الأمانة، وصلة الرحم، وحسن الجوار، والكف عن المحارم والدماء، ونهانا عن الفواحش، وقول الزور، وأكل مال اليتيم، وقذف المحصنات، وأمرنا أن نعبد الله وحده لا نشرك به شيئا، وأمرنا بالصلاة والزكاة والصيام -قالت: فعدد عليه أمور الإسلام- فصدقناه وآمنا به واتبعناه على ما جاء به من الله، فعبدنا الله وحده، فلم نشرك به شيئا، وحرمنا ما حرم علينا، وأحللنا ما أحل لنا، فعدا علينا قومنا فعذبونا وفتنونا عن ديننا، ليردونا إلى عبادة الأوثان من عبادة الله تعالى، وأن نستحل ما كنا نستحل من الخبائث، فلما قهرونا وظلمونا وضيقوا علينا وحالوا بيننا وبين ديننا، خرجنا إلى بلادك، واخترناك على من سواك، ورغبنا في جوارك، ورجونا أن لا نظلم عندك أيها الملك.

قالت: فقال له النجاشي: هل معك مما جاء به عن الله من شيء؟ فقال جعفر: نعم. فقال النجاشي: فاقرأه علي، قالت: فقرأ عليه صدرا من: “كهيعص” (سورة مريم)، قالت: فبكى والله النجاشي حتى اخضلت لحيته، وبكت أساقفته حتى أخضلوا مصاحفهم، حين سمعوا ما تلا عليهم. ثم قال لهم: إن هذا والذي جاء به عيسى ليخرج من مشكاة واحدة، انطلقا فلا والله لا أسلمهم إليكما، ولا يكادون.
وانتهت المرافعات بحكم نهائي لا معقب له من البطارقة والقساوسة والوزراء، وعاد عمرو بن العاص ورفيقه يجران ذيول الخيبة، بل إن الإيمان قد قبس أنواره في قلب عمرو من تلك المحاججة التي نسفت قدراته التعبيرية، ودمرت وسائله التقليدية في الإغراء والحجاج.
وكيل النبي.. قصة زواج أم حبيبة بالحبشة
ربطت النجاشي بالإسلام آصرة حب وود عميق، ويذهب أغلب مؤرخي الإسلام إلى أنه أسلم، غير أنه كتم إيمانه وطلب من المسلمين المقيمين في أرضه أن لا يدعوا إلى دينهم، وذلك بعد أن تلاطمت أمواج الفتنة أمامه، بعد شيوع خروجه من النصرانية إلى الإسلام، ولعل هذا ما يفسر غياب ذكر الحبشة في تاريخ الإسلام، وتاريخ الوفود والفتوح.

ويظهر أيضا أنه كان على صلة مراسلة دائمة مع رسول الله ﷺ، فقد تولى تزويجه من رملة بنت أبي سفيان الشهيرة بأم حبيبة، وذلك بعد أن تنصر زوجها وفارق الإسلام، وهلك هنالك بالحبشة، وبقي مجهول الذكرى والقبر، عكس الصحابة المهاجرين الذين خلدت الحبشة أسماءهم وقدست قدرهم، وهم بجوار مسجد النجاشي في قريته الآنفة الذكر.
وقد كان تولى النجاشي وكالة النبي ﷺ، ودفع من ماله 400 دينار مهرا لأم حبيب دليلا على عمق الآصرة بين الروحين، وعمق المودة بين ملك الأحباش والنبي الكريم ﷺ.
“توفي اليوم رجل صالح من الحبش”.. صلاة الغائب بالمدينة
وقد ظل المسلمون مع النجاشي عدة سنين، وعاد آخرهم بعيد الهجرة النبوية إلى المدينة المنورة بأعوام قليلة، أما النجاشي فقد امتد به العمر وهو يشاهد جدران الكفر تتساقط في بلاد العرب، قبل أن يسلم الروح إلى بارئها، وألقي في روع النبي ﷺ النبأ الحزين، فصف المسلمين بعد صلاة الفجر ليصلوا على روح أخيهم الملك الراهب الوقور.
وتروي روايات الحديث المتعددة: أن النبي ﷺ صلى على أصحمة النجاشي، فكبر عليه أربعا. وفي لفظ أنه قال: قد توفي اليوم رجل صالح من الحبش، فهلموا فصلوا عليه، فصلى رسول الله ﷺ فصففنا ونحن صفوف. متفق عليهما.

وفي رواية أخرى عن أبي هريرة أن النبي ﷺ نعى النجاشي في اليوم الذي مات فيه، وخرج بهم إلى المصلى، فصف بهم وكبر عليه أربع تكبيرات. رواه الجماعة (الأئمة الستة). وفي لفظ: نعى النجاشي لأصحابه، ثم قال: استغفروا له، ثم خرج بأصحابه إلى المصلى، ثم قام فصلى بهم كما يصلي على الجنائز.
وقد أوقد النجاشي في قلوب المؤمنين سراج نور ومحبة لا يخفت شعاعه، حتى قالت عائشة رضي الله عنها: لما مات النجاشي كنا نتحدث أنه لا يزال يرى على قبره نور.
ودون شك فإن نور عدله ورحمته قد أضاء بلاد الحبشة، وأنار طريق اللاجئين والمهاجرين، وكتب اسم الملك الأسمر في صحائف السابقين الأولين من رهبان العدالة وملوك الإيمان ورعاة أسمى حقوق الإنسان.