ذكريات النكبة.. أرشيف ملون ينعش ذاكرة من عايشوا المأساة

في لقاء مع الفنانة التشكيلة الفلسطينية تمام الأكحل قالت إن البيت التي ولدت فيه بمدينة يافا الفلسطينية قد حولته إسرائيل إلى متحف إسرائيلي، ومنعتها من الدخول إليه، لتذوق طعم التهجير مرتين، مرة عام 1948، والثانية أنها ترى منزلها ولا تستطيع الدخول إليه.

وكانت تمام الأكحل قد تزوجت الفنان التشكيلي الفلسطيني إسماعيل شموط، وهما رائدان في الفن التشكيلي الفلسطيني، لأنهما كانا من أوائل الذين جسدوا بالرسومات أحداث نكبة عام 1948.

في فيلم “فلسطين.. ذكريات النكبة 1948” من سلسلة “ذكريات ملونة” التي أنتجتها الجزيرة الوثائقية، نحاول ترميم اللقطات الأرشيفية وإدخالها بعمليتي التلوين الآلي والدقيق، وسؤال الأشخاص التي عاصروها عنها، وهل اختلفت النظرة لها بين الأبيض والأسود وبين الملون.

مدينة يافا عروس البحر أولى المدن احتلالا في فلسطين

وإلى جانب تمام الأكحل استضاف الفيلم الدكتور بشار شموط، وهو أكاديمي متخصص بالأرشيف المرئي والمسموع، لنسمع منهما تعليقهما على اللقطات المصورة واللقطات الملونة.

“وكيف نترك بلادا مثل الذهب؟”.. شاهدة عيان على النكبة

تقول الفنانة تمام الأكحل وهي تشاهد اللقطات الأرشيفية قبل ترميمها وتلوينها، إنها تذكرها كل المدينة، وأشارت خلال مشاهدتها إلى دكانة والدها، وكان اسمها (دكانة عارف الأكحل) لتصليح الأسلحة في شارع الصالحية، والحافلات التي كانت تنقلهم من مكان لآخر ومن قرية إلى أخرى وحتى إلى خارج فلسطين، واسمها (باصات بامية)، وهي عائلة من يافا.

الفنانة تمام الأكحل شاهدة عصر على تاريخ النكبة

وتقول: هؤلاء اليهود كانوا يأتون بالقوارب برعاية الجيش البريطاني، تحت عناوين حقوق الإنسان والديمقراطية، وكانت كلها أكاذيب بهدف تطبيق المخطط الذي كانوا يريدونه، وهو تسكين فئة غير فلسطينية وعربية بين الفلسطينيين، ويظهر في الصور الجنود البريطانيون وهم يصعدون على متن الباخرة ويعودون إلى بلادهم.

وتحدثت عن تسليم الإنجليز تركة فلسطين بيد الإسرائيليين قائلة: ترك البريطانيون خلفهم “بن غوريون”، وسلموا البلاد للمحتلين الإسرائيليين المدججين بالسلاح الذي تركه البريطانيون، كما دربوهم على استخدامها، وأطلق اليهود القادمين من أقطار الأرض النار من هذه الأسلحة على الفلسطينيين وهجروهم من أراضيهم ومنازلهم، ثم يقولون إن العرب تركوا بلادهم، وكيف نترك بلادا مثل الذهب؟

ثلة من المجاهدون يتحضرون لمواجهة الاحتلال، صورة قبل التلوين وبعده

وقد بدأ رجال المقاومة قتال المحتلين الجدد، وكان يصلح أسلحتهم عارف الأكحل. تقول ابنته: واجه اليهود المحتلين ثلة من المجاهدين، وكان والدي يعتني بسلاح هؤلاء المجاهدين رغم أنه أميّ، وكان يبيع الأسلحة الخاصة بالصيد، ودخل إلى السجن أكثر من مرة، لأن السلاح الذي كان يستخدمه المجاهدون للدفاع عن أرضهم كان يصلح بعضه والدي.

ولم يزل الاحتلال يعيث فسادا في الأرض، ويقتحم بيوت الناس ويهجرهم، حتى ركبوا قوارب نقل البرتقال وهاجروا. تقول تمام الأكحل: الجرومة الخاصة (مراكب نقل البرتقال) بدأت تستخدم لنقل المهجّرين، وركبتُ فيها كمهجرة في فجر أحد الأيام، بعد أن اقتحم اليهود منزلنا برفقة جنود من كل أنحاء العالم. لقد احتل اليهود فلسطين على جثثنا، وكل ذلك كان يجري بحماية الإنجليز.

“كانت يافا عروسة البحر”.. ذكريات المدينة الممسوخة

يقول الدكتور بشار شموط الأكاديمي المتخصص بالأرشيف المرئي والمسموع ونجل تمام الأكحل وإسماعيل شموط: كانت يافا عروسة البحر، وكانت السفن الكبيرة ترسو على بعد مئات الأمتار من الميناء، وكانت الجرومة تنقل الصناديق من داخل المدينة إلى السفن الكبيرة، وكانت ألوان المراكب بيضا وزرقا، وألوان المباني كانت قريبة جدا من الحجر الطبيعي (حجر الخليل)، والمباني الفلسطينية كانت متناسقة مع الطبيعة، وكانت متداخلة مع الموقع الطبيعي الذي تقع فيه، وهذا يختلف كليا عن المباني الجديدة التي بناها اليهود الذين قدموا إلى فلسطين، وهي الطريقة الأوروبية.

الدكتور بشار شموط، أكاديمي متخصص بالأرشيف المرئي والمسموع

وتحدث عن الثورة الفلسطينية بعد النكبة قائلا: كانت هناك هبّة ثورية فلسطينيةبعد النكبة ضد قرار التقسيم ورفض الاستغناء عن جزء من أرضهم، وبدأت عمليات التدريب على السلاح، وكان الزي ثوبا وطربوشا منذ أيام العثمانيين، وكان الرجل الأنيق هو الذي يرتدي الطربوش، وكان هناك آخرون يرتدون كوفية وعقالا، وكانت هناك عصابات يهودية مثل الهاغانا وشتيرن ومجموعات عسكرية أخرى، وكان لها -قبل قيامة دولة إسرائيل- دور أساسي في تهجير الفلسطينيين من منازلهم.

الخيم، ملاذ المهجّرين الذين تركوا بيوتهم قسرا بعد أن أخرجوا من فلسطين

بعد النكبة قامت العصابات اليهودية بتهجير السكان من منازلهم، وعاش كثير منهم في خيام اللجوء. يقول إسماعيل شموط: كان لكل مجموعة من هذه العصابات زيها الخاص مثل البني الغامق والأخضر الداكن والبيج، وكان زي الجنود البريطانيين الرسمي -في آخر أيامهم بفلسطين وهم يصعدون إلى المراكب بعد قرار الأمم المتحدة- أخضر داكنا، وكانت خيام اللجوء بيضاء، وقد هُجر والدي بعد النكبة إلى خان يونس بغزة، وظل يعيش في خيمة مع عائلته لسنوات.

“اقتحموا المنازل وأجبرونا على الخروج بملابسنا فقط”

بعد عمليات ترميم اللقطات وتلوينها بشكل آلي ودقيق عرضت مرة أخرى على الفنانة التشكيلية تمام الأكحل، وقد أبدت إعجابها بشكل استثنائي باللقطات بعد تلوينها، وبدأت تبحث عن منزل العائلة، وقالت: الألوان مذهلة، وأصبحت اللقطات منعشة للمتفرج، وخاصة أنها قريبة جدا من الحقيقة والواقع، وهذا ما يعطيها مصداقية لإحساس المتلقي.

وكان عارف الأكحل يصلح الأسلحة، لكنه كان يحتال لأسلحة الإنجليز، فيأخذها منها تحت ذريعة أنها لم تعد صالحة. تقول ابنته تمام: أتذكر أن الإنجليز كانوا يجلبون الأسلحة إلى والدي ليصلحها، ولكنه كان يقول لهم إن بعضها لم يعد نافعا، ثم يأخذها ويصلحها ويعطيها للمجاهدين، وكنت أصعد إلى سطح المنزل وأخبئ السلاح في الصناديق، حتى لا يعثر الإنجليز عليها.

لوحة تجسد غرق المهجّرين في بحر يافا بعد أن هاجمتهم موجة كبيرة

وتروي مشهد ترحيلها وهي طفلة من منزلها، ومشهد ازدحام الناس عند الميناء قبل تهجيرهم، قائلة: جاء الاحتلال الصهيوني إلى فلسطين وقلبها رأسا على عقب، وفجر 28 أبريل/ نيسان 1948 اقتلعوا الفلسطينيين من أرضهم، وكنت أبلغ وقتها 12 عاما، فاقتحموا المنازل وخلعوا الأبواب وأجبرونا على الخروج منها بملابسنا فقط، واتجهنا نحو الميناء الذي كان ممتلئا بالناس، وركبنا مركبا صغيرا، وكان هناك مشهد لن أنساه قد رسمته في لوحة، حينما هاجمتنا موجة عملاقة، وأغرقت الناس الذين كانوا على متن القارب في مياه البحر.

“كبار السن سيموتون والأطفال سينسون”.. هجرة بيروت

كانت المخيمات تعج بالناس، حتى أنهم لم يجدوا مكانا يتمددون فيه لشدة الازدحام، إلى أن تفرقوا وناموا في البراري وتحت الأشجار. تقول تمام الأكحل: لم أسكن في خيمة ولكن زوجي إسماعيل فعل، وكان يخبرني عن معاناته وحياته فيها، وأنه كان يعيش نحو 12 شخصا داخلها، وقال لي إنه لم يكن يستطيع أن يمد قدميه خلال النوم بسبب العدد الموجود في الخيمة، وقد أصيب بسببها بمرض الروماتيزم في ركبه، وهرب بالبر وسار مسافات طويلة، ونام وأهله -ككل سكان اللد والرملة- في البراري وتحت الأشجار.

أهل يافا هاجروا برا إلى الأردن وسوريا، وبحرا إلى لبنان

وقد هاجرت عائلة الأكحل بالباخرة إلى بيروت، وكانت تظن أنها رحلة قصيرة وستنتهي، لكنها لم تنته قط، وتروي تمام قصة هجرتها قائلة: لأنني من يافا كانت هناك طريقتان للفرار، الأولى برا إلى الأردن وسوريا والعيش في أحد البلدين، أو كما فعلنا نحن، فهربنا إلى بيروت بالباخرة، وهناك استأجرنا منزلا وعشنا فيه، وكنا نظن أننا سنعود خلال 15 يوما كما روجت الدعاية العربية، فكان يقال لنا اخرجوا من منازلكم حفاظا على النساء والأطفال، والأمر لن يدوم طويلا، وكنت حزينة خلال رحلتي إلى بيروت بسبب الطريقة التي طُردنا بها من منازلنا، وكانت بقوة السلاح، وليس كما تقول إسرائيل وتعلّم أجيالها بأننا خرجنا من منازلنا بإرادتنا أو لرفضنا أن يعيشوا معنا.

الكبار يموتون لكن الصغار لا ينسون

وختمت بقولها: إسرائيل التي كانت تقول إن كبار السن سيموتون والأطفال سينسون، تكذب على التاريخ والجغرافيا وفي كل شيء، غير أن أكاذيبها أيقظت الشباب والأطفال الذين كبروا وهم يرون معاناة ذويهم، وكانوا أقوى مما تتخيل إسرائيل، وأصبح الاعتماد على الله ثم عليهم لكشف الحقائق حتى ولو بعد 100 عام، وسيرون نهايتهم، لأن اعتمادنا على ربنا كبير.