“غولدا”.. زخارف سينمائية حول امرأة فظة قادت جيش الاحتلال

كان مهرجان برلين السينمائي دائما مهرجانا مسيّسا، يهتم كثيرا بعرض الأفلام ذات الطابع السياسي، وهو اتجاه للمهرجان لا يزال ممتدا منذ عصر “الحرب الباردة”. ويبدو أنه قد عاد لسيرته الأولى في موقفه المعلن من روسيا والثقافة الروسية والسينما الروسية عموما باستثناء ما كان منها معارضا منشقا، يتخذ موقف الغرب نفسه في النزاع المسلح القائم حاليا بين روسيا وأوكرانيا، وهو ما لمسناه بوضوح في فيلم “القوة العظمى” (Superpower) الوثائقي الطويل الذي أخرجه الممثل “شون بن” مع “آرون كوفمان”، واتخذ موقفا منحازا تماما للجانب الأوكراني لدرجة سقوطه في فخ الدعاية المباشرة، بفعل خلوه التام من أي قدر من التوازن.

هذا الموقف الدعائي نفسه يعود لكي يصبغ على نحو شديد السذاجة، مع افتقاد أدنى درجة من الإقناع والإشباع، ناهيك عن الاستمتاع، في فيلم “غولدا” (Golda) الذي عرضه مهرجان برلين (البرليناله) خارج المسابقة.

هذا الفيلم يعيد إلى الحياة أسطورة خلقها الاحتلال، ثم روج لها الإعلام الغربي طويلا حول شخصية رئيسة الحكومة الإسرائيلية السابقة “غولدا مائير” (1898-1978) على الرغم من أننا سبق أن شاهدنا عملا ربما يكون أكثر تماسكا، عن هذه الشخصية في المسلسل التليفزيوني الأمريكي القصير “امرأة تدعى غولدا” (A Woman Called Golda) عام 1982، وقد عرض بعد ذلك في فيلم من ثلاث ساعات، وقامت ببطولته الممثلة السويدية الأسطورية “أنغريد برغمان”، وأخرجه الكندي “آلان غيبسون”.

أما فيلم “غولدا” الجديد فقد أخرجه الإسرائيلي “جاي ناتيف” الذي يقيم ويعمل في الولايات المتحدة، وفيلمه بالتالي هو فيلم أمريكي صورت معظم مناظره في بريطانيا، وأسند دور البطولة (أي شخصية غولدا مائير) إلى الممثلة البريطانية المرموقة “هيلين ميرين”، ومعها مجموعة من الممثلين الإسرائيليين، وعدد قليل من فرنسا وبريطانيا.

“غولدا مائير”.. مسار سياسية حكمت بقبضة من نار

كان مسلسل “امرأة تدعى غولدا” يروي قصة حياة ما يعتبر أول امرأة تصل لمنصب رئيسة الحكومة في دولة (ذكورية) بطابعها العسكري الخشن، وانغماسها المستمر منذ تأسيسها بقرار من الأمم المتحدة في سلسلة حروب مع جيرانها ما زالت مستمرة حتى اليوم.

بينما يركز فيلم “غولدا” فقط على الفترة التي قادت خلالها إسرائيل في حربها ضد مصر وسوريا عام 1973، وتخللتها مفاوضات شاقة غير مباشرة بين مصر وإسرائيل عن طريق وزير الخارجية الأمريكي “هنري كيسنجر”، ثم استقالتها من منصبها في أعقاب صدور تقرير لجنة “أجرانات” القضائية التي تولت التحقيق فيما اعتبر تقصيرا من جانب القيادة الإسرائيلية في إدارة الصراع في تلك الفترة، ووجهت إلى “مائير” تحديدا انتقادات خطيرة.

هاجرت “غولدا مائير” من روسيا مع أسرتها إلى الولايات المتحدة عام 1906، حيث درست ثم تزوجت قبل هجرتها إلى فلسطين عام 1921، وهناك عملت في الكيبوتسات (جمعيات الاستيطان) لفترة، ثم سافرت وانضمت إلى الوكالة اليهودية في الخارج، وساهمت في جمع التبرعات وشراء السلاح للكيان الصهيوني، ثم عادت إلى فلسطين بعد اعلان قيام الدولة.

لكن الفيلم الجديد لا يتناول تلك الأحداث، فهو يسير في خط شبه وثائقي، أو ما يعرف بالدوكيو- دراما، ليحاول إعادة تجسيد مسار الأحداث التي سبقت ثم لحقت بحرب أكتوبر 1973، من وجهة نظر الاحتلال بالطبع، وهي أحداث معروفة كتب عنها الكثير، ونشرت في مذكرات القادة الإسرائيليين، وصنعت عنها أفلام وثائقية كثيرة.

هيلين ميرين في دور غولدا مائير

يضع الفيلم “غولدا مائير” في قلب كل هذه التداعيات، ويحيطها بهالة أسطورية، ويضفي عليها من القيم الإنسانية الكثير، غير أنه يجعلها تردد أيضا على مسامع وزير الخارجية الأمريكي “هنري كيسنجر” تهديدها بقتل 40 ألف جندي مصري محاصرين في سيناء من جنود الجيش الثالث، وتحويل هذا الجيش إلى جيش للأرامل (حسب التعبير المستخدم في الفيلم) إذا لم يرضخ لها “كيسنجر” ويجعل واشنطن ترسل لإسرائيل على الفور الطائرات المتقدمة التي تطلبها، بعد تآكل سلاحها الجوي بفعل صواريخ سام السوفياتية.

جلسة الحساء.. وصايا وتقريع للوزير اليهودي الأمريكي

في لقائها مع “كيسنجر” بعد وصوله مباشرة إلى الأراضي المحتلة، تقدم له “غولدا” بنفسها الحساء (أو البورشت الذي يعرفه سكان شرق أوروبا تاريخيا)، وتقول إنها أعدته له بنفسها، ثم تذكره بأصله اليهودي، وبأنه لا يجب أن يتخلى عن الشعب اليهودي، لكنه يقول لها إنه أولا مواطن أمريكي، وثانيا وزير خارجية أمريكا، وثالثا يهودي. فتجيبه على الفور بقولها إنهم في إسرائيل يقرأون من اليسار لليمين.

يبدأ الفيلم مع “غولدا مائير” وهي جالسة على مقعد خشبي قبالة أربعة من قضاة لجنة أجرانات، بينما تقوم امرأة بتدوين الاستجواب على آلة كاتبة عتيقة، وهذه الآلة الكاتبة وصوت النقر على أصابعها سيتكرر ظهورها كثيرا في الفيلم خلال الاجتماعات التي نشاهدها فيما بعد.

أما التهمة الموجهة لها فهي أنها لم تتخذ من الإجراءات الحاسمة ما كان يقتضيه الموقف وقتما كانت المعلومات تشير إلى اعتزام الجيش المصري الهجوم على قوات الاحتلال في سيناء، مما تسبب في سقوط أعداد كبيرة من القتلى من الجانب الإسرائيلي في الأيام الأولى للحرب، وكان يمكن تفاديها حسب رأي اللجنة. ومن هذه النقطة يعود الفيلم في “فلاش باك” طويل بطول الفيلم نفسه، ليستعرض تطورات الأحداث ودور “غولدا مائير” فيها، من خلال الاجتماعات التي كانت تعقدها مع القادة العسكريين.

شخصيات الفيلم.. نظرة عن قرب على عرابي الحرب

تظهر في الفيلم جميع الشخصيات التاريخية التي لعبت دورا في الحرب في تلك الفترة من خلال ممثلين يؤدون أدوارها، مع كتابة أسماء ومناصب تلك الشخصيات على الشاشة كما لو كنا نشاهد فيلما وثائقيا.

الملصق الرسمي للفيلم

فهناك على سبيل المثال: وزير الدفاع “موشيه ديان” (الممثل الإسرائيلي رامي هيوبرغر)، والجنرال “أرييل شارون” (الممثل أوخاد نولر)، ورئيس الأركان “ديفيد أليعازر” (الممثل ليونور أشكنازي)، وقائد سلاح الطيران “بيني بليد” (الممثل إد ستوبارد)، ومدير الموساد “زيفي زامير” (الممثل روتين كينان)، ومدير المخابرات الحربية “إيلي زاميرا” (الممثل دفير بنيديك).

وكلها مناصب وشخصيات لا تعني أحدا من مشاهدي اليوم الذين لم يعاصروا تلك الفترة، كما أنه لا صلة من الناحية الشكلية بين الممثلين وبين الشخصيات الحقيقية المعروفة مثل “شارون” و”ديان”!

مشهد لزيارة “مائير” للجنود الإسرائيليين في منطقة الزيتية جنوبي السويس

تُظهر “غولدا” في الفيلم تعاطفا كبيرا مع الجنود الضحايا الإسرائيليين وأسرهم، وتحتضن سكرتيرتها وتبكي معها عندما يصل إليها نبأ مقتل ابنها في الحرب، ويصور الفيلم أن “غولدا مائير” كانت تحمل عاطفة أمومة، وفي الوقت نفسه حنكة ومهارة سياسية وقدرة على المناورة، وفي الفيلم كثير من المشاهد للمعارك كما تشاهدها أو تستمع إليها “غولدا” من داخل غرفة القيادة، عبر الشاشات التي تنقل لنا بالصوت والصورة وأحيانا من خلال الاتصالات الهاتفية استغاثات القادة الميدانيين ومطالبتهم بالدعم، وما يواجهونه من هجوم مصري عنيف.

تضليل المشاهد.. عبث سينمائي لتزيين صورة الاحتلال

تتحول الدفة بعد وصول الدعم العسكري الأمريكي (هناك مشهد لوصول طائرات حربية إلى مطارات الاحتلال)، ثم يتفوق الجانب الإسرائيلي على الجانب المصري، مع قدر كبير من المبالغات المقصود من ورائها التأثير العاطفي، بل حتى تبرير العنف الشديد.

فالفيلم يشير مرات عدة إلى ما يسميه الهجوم المفاجئ (الغادر) من جانب الجيشين المصري والسوري على قوات الاحتلال، كما لو أن الجانب العربي كان يهاجم المدن المحتلة، دون أي كلمة عن احتلال الإسرائيليين لسيناء ومرتفعات الجولان، وأن هذه الأراضي المحتلة من حق المصريين والسوريين استعادتها بالقوة، وبالتالي يساهم الفيلم بوضوح في تضليل المشاهدين الغربيين من الشباب.

وهناك مشهد لزيارة “مائير” للجنود الإسرائيليين في منطقة الزيتية جنوبي السويس، ويمزج فيه المخرج بطريقة ساذجة بين لقطات وثائقية ولقطات مصنوعة للفيلم. وهناك مشهد آخر لها وهي تناقش مع القادة العسكريين في البداية تحريك قوات الاحتياطي الإسرائيلي، ولكنها تقبل حلا وسطا بين تحريك الحد الأدنى والحد الأقصى، وذلك ما يقول الفيلم إنه غلطة استراتيجية أدت إلى عدم قدرة الطرف الإسرائيلي على صد الهجوم المصري عبر قناة السويس.

وهناك إشارة إلى دور أشرف مروان في إبلاغ الاحتلال بموعد شن الحرب، وحديث آخر غامض عن إغلاق محطة التنصت على الأطراف العربية (بطريق الخطأ) قبيل الحرب مباشرة!

“حديث جدة لجد”.. لقطة مجانبة للواقع مثيرة للسخرية

تظهر اللقطات الأخيرة في الفيلم “غولدا مائير” وهي تتحدث مع الرئيس السادات بعد أن يكون قد أصبح جدا، وذلك أثناء زيارته للقدس بعد سنوات من الحرب، ويضحك الاثنان معا وهي تخبره: “سأتحدث معك يا سيادة الرئيس حديث جدة لجد”. هذه اللقطات تبدو مثيرة للسخرية وخارج سياق الفيلم تماما، خصوصا أن المخرج يستعين هنا باللقطات الوثائقية الحقيقية خلال زيارة السادات للقدس.

الفيلم بأكمله عمل أحادي قصد به استعادة ذكريات تلك الحرب من وجهة نظر المحتل، واستدرار العطف مجددا على الكيان المحتل الذي يواجه حاليا شبه انتفاضة ضد سياساته المتطرفة، وهو المبرر الوحيد الذي نراه لظهور هذا الفيلم البائس حاليا.

فكلما تصاعد الرأي العام وانتبه إلى التجاوزات الإسرائيلية في حق الفلسطينيين، يظهر عمل دعائي يقصد منه الدعاية لإسرائيل (حمامة السلام في المنطقة) واستدرار التعاطف معها، ورغم ذلك فمن شبه المؤكد أن هذا الفيلم الضعيف الهش رغم اجتهادات “هيلين ميرين”، سيذهب مباشرة للعرض عبر منصات البث الرقمي، ولن يجد سبيله إلى دور السينما.

عينان رقيقتان لامرأة فظة قاسية.. هنات الفيلم

حاولت “هيلين ميرين” بكل طاقتها محاكاة “غولدا مائير” في نبرة صوتها ولهجتها الأمريكية، لكن الماكياج الذي أحاط وجهها كله بالتجاعيد لكي تصبح قريبة الشبه من الشخصية الحقيقية، ترك عينيها لأنه لم يكن يمكنه أن يفعل بهما شيئا من الأصل، ولم يشأ أيضا أن يجعل الممثلة، تتصف بالشدة والقسوة والفظاظة التي عرفت بهما “مائير”، فظلت عينا “ميرين” رقيقتين كما نعرفهما.

من المناظر التي تجذب الانتباه في هذا الفيلم التركيز بقدر كبير على إدمان “مائير” على التدخين، فيكاد لا يوجد مشهد واحد يخلو من لقطات لها وهي ممسكة بالسيجارة بين أصابعها، ثم إشعالها سيجارة تلو أخرى بالقداحة الكبيرة العتيقة، وإصرارها حتى وهي داخل غرفة الفحص الطبي على التدخين، بينما تستلقي على الفراش في انتظار إجراء الفحوص الطبية التي ستثبت إصابتها بسرطان الغدد الليمفاوية (وليس الرئة)، وهو ما أدى إلى وفاتها وهي في الثمانين من العمر عام 1978.

ولعل من الطريف أن كثرة لقطات “ميرين” بالسيجارة في الفيلم دفع أحد النقاد إلى السخرية بالقول إن الفيلم بأسره يبدو كما لو كان إعلانا عن السجائر.