“مصنع حديد حلوان”.. مشروع قومي يضع لبنة الأساس للصناعة المصرية

لم يكن مصنع الحديد والصلب في حلوان جنوب محافظة القاهرة مشروعا عاديا، بل كان بذرة البنية التحتية الصناعية في مصر، وقد فتح الباب أمام عشرات المشروعات ذات الصلة، وحوّل حلوان من منطقة هادئة وراقية إلى وجهة للأيدي العاملة.

ويسلط فيلم ” مصر.. مصنع حديد حلوان” الضوء على هذا المشروع القومي الذي افتتح عام 1958، واعتبر بأنه أهم من مشروع السد العالي.

وهذا الفيلم هو جزء من سلسلة “ذكريات ملونة” التي أنتجتها الجزيرة الوثائقية، وتعتمد على إعادة ترميم وتلوين أرشيف يروي أحداثا مهمة، من خلال أشخاص عايشوا مراحل زمنية وأحداثا مهمة في العالم العربي، بين عشرينيات وستينيات القرن الماضي، قبل أن يتوفر الأرشيف الملون.

“كان حلما وتحقق”.. خطاب افتتاح مصنع الحديد والصلب

نعرض اللقطات الأرشيفية بالأبيض والأسود على اللحام المصري عبد الستار حامد (مواليد 1940) الذي عمل عدة سنوات في المصنع. فيقول: عندما سمعت أن مصنعا جديدا للحديد والصلب قيد الإنشاء، كنت أتمنى أن أعمل فيه وركبت القطار من القاهرة إلى حلوان في فبراير/ شباط عام 1958، وعندما دخلت إلى المصنع شعرت برهبة كبيرة جدا، وبعد شهر أصبحت واحدا منهم، وكان هدفي أن أصبح لحاما بدرجة أولى، وبدأت أتعلم هذه المهنة بخيالي قبل الواقع. وتخرجت من المصنع لحاما بدرجة أولى بامتياز.

الرئيس جمال عبد الناصر يفتتح مصنع الحديد والصلب في حلوان عام 1958

افتتح الرئيس الراحل جمال عبد الناصر مصنع الحديد والصلب عام 1958، وقال يومها إنه كان حلما وتحقق. يقول حامد: عندما افتتح المصنع، تجمع أهل حلوان عند باب المصنع لرؤية عبد الناصر، وأنا كنت أحد محبيه، لأنه كان زعيما بكل ما بالكلمة من معنى، وكان رجلا وطنيا ومحبوب المصريين.

يعرض حامد صوره أيام عمله السابقة في المصنع، ويتحدث عن زملائه السابقين، ويستذكر مواقفه معهم ويتمنى أن يعود الشباب يوما. ويقول: كان عمال المصنع يرتدون زيا موحدا، وكان لونه رماديا داكنا، وكان المهندس مثل العامل لا فرق بينهما في الملابس.

خام الحديد.. اكتشاف يؤسس لنهضة صناعية كبرى

يقول عمارة إبراهيم الأمين العام لنقابة شركة الحديد والصلب: فكرة إنشاء المصنع وجدت عندما اكتشف خام الحديد في مناطق مختلفة داخل مصر، فكان على الجمهورية العربية المتحدة تأسيس بنية صناعية كبرى تبدأ بشركة الحديد والصلب، وتؤسس لإنتاج الحديد والصلب، مثل صناعة السيارات والجسور والمنشآت الصناعية وغيرها من القطاعات التي أنشئت بفضل هذا المصنع، فتأسيس بنية تحتية صناعية في حلوان ساهمت في تطوير شركات أخرى.

إنتاج الحديد والصلب في مصنع حلوان لصناعة السيارات والجسور والمنشآت الصناعية

كانت شركة الحديد والصلب تتجاوز في أهميتها السد العالي الذي بُني في الستينيات، وبسبب هذه الأهمية كان على الحكومة المصرية البدء بنهضة صناعية متعددة، تكون بذرتها صناعة الحديد والصلب، فتطورت منتجات الشركة حتى وصلت إلى إنتاج أكثر من 52 نوعا من أنواع التشكيلات الحديدية.

ويتحدث عمارة إبراهيم عن ألوان زي العمال قائلا: كان على إدارة الشركة اختيار الزي، وكان من بين المقترحات الألوان البني والأبيض ولون الفحم، ولكن وقع الخيار أخيرا على لون الحديد الصدئ أو الرمادي والأزرق والكحلي، وكل لون كان يتميز به قطاعٌ في الشركة، بحسب عمله وإنتاجه.

“رجع الزمن بي عشرات السنوات إلى الوراء”

بعد ترميم اللقطات الأرشيفية وتلوينها آليا، عرضناها على اللحام عبد الستار حامد، فقال: المصنع لن يعوض، كنا فرحين عندما كنا نعمل به، كنا فخورين بالعمل في شركة الحديد والصلب.

اللحام المصري بمصنع حديد حلوان عبد الستار حامد

أعادت اللقطات الملونة ذكريات الشباب وأيام المجد إلى عبد الستار، فعاد إلى تلك الحقبة ليتحدث عنها قائلا: عندما شاهدت اللقطات بالألوان رجع الزمن بي عشرات السنوات إلى الوراء، وتمنيت لو يرجع الزمان بي وأعمل مجددا في الحديد والصلب. فهذه اللقطات تذكرني بشبابي، وكيف ساهمت بمشروع عملاق مثل هذا، وكانت أياما جميلة.

نقص العمال.. استقطاب من أنحاء البلاد والدول المجاورة

بدأ العمل في شركة الحديد والصلب عام 1958، وافتتح الشركة الرئيس جمال عبد الناصر هو وقيادة مجلس الثورة والوزراء، وعلى رأسهم وزير الصناعة عزيز صدقي.

جولة للرئيس جمال عبد الناصر برفقة قيادة مجلس الثورة والوزراء في مصنع حديد حلوان

يتحدث اللحام عبد الستار حامد عن مراحل العمل في المصنع قائلا: كان عدد العمال وقتها قليلا، لأننا كنا لا نزال في البدايات، وكنا نرتدي زيا لونه رمادي داكن، وهذه المرحلة الأولى، ثم بدأت المرحلة الثانية وهي “الدرفلة” (عملية صناعية تعتبر إحدى طرق تشكيل المعادن)، وفي المرحلة الثالثة والأخيرة أنشئ مجمع الحديد والصلب، وكان يحتوي على 4 مناطق، وأذكر أننا كان لدينا نقص في الأيدي العاملة، وتجاوب الوزير معنا، واستقطب عمالا من معظم شركات البلاد.

وقد بدأت الوفود تتقاطر لزيارة المصنع والاطلاع على الأعمال فيه، لأنه كان الأول من نوعه في الشرق الأوسط، وكان هناك متدربون من جنسيات عربية أخرى كالسوريين والعراقيين.

مدينة حلوان.. منطقة الأثرياء الهادئة تعج بالعمال

يتحدث اللحام عبد الستار حامد عن بداية عمله في المصنع بقوله: عُيّنت في البداية مساعد لحام عام 1958، وخلال سنتين أصبحت لحاما بدرجة أولى، ولهذا كنت ألحم أنابيب الغاز، وكان المصنع يصنع كل شيء له علاقة بالحديد، وكانت منتجاته تباع في السوق المحلي، ويصدر منها.

زيارات عربية وأجنبية وعقود اقتصادية في مصنع حديد حلوان

تعاقد المصنع مع أكثر من دولة للتصدير، وكانت إضافة جديدة للاقتصاد المصري، فقد أدى مصنع الحديد والصلب إلى طفرة كبيرة جدا في البلاد، وشغّل عشرات آلاف المصريين، وتخرج منه وتدرب فيه مثل هذا العدد، وكان مصنعا مذهلا.

لقد قلب المصنع مدينة حلوان، فتحولت إلى منطقة صناعية تعج بالعمال. يقول عبد الستار: كانت حلوان قبل الحديد والصلب منطقة هادئة جدا، وكلها قصور يسكن فيها كبار القوم والأثرياء، ولكن مصنع الحديد والصلب قلب المحافظة رأسا على عقب، وباتت جاذبة للأيدي العاملة. وبدأت تتوسع حلوان، وقد استقريت فيها وتزوجت منها، وعشت حياتي فيها حتى الآن.


إعلان