“الكسوف”.. عودة بالذاكرة والمشاعر إلى الحروب العرقية في يوغسلافيا
“فكرت في وقت من الأوقات أن أتخلى عن المسؤولية لمبدأ القيادة الجماعية إلى فكرة إنشاء مجلس للرئاسة يُمثل كل الجمهوريات، ويتناوب أعضاؤه على الموقع الأول دوريا بانتظام”.
هكذا يُعبر الرئيس اليوغسلافي السابق “جوزيف بروز تيتو” عن رؤيته لمستقبل يوغسلافيا بعد رحيله، لكن التاريخ كان يملك قولا مُغايرا، فبعد رحيل “تيتو” في مايو/ أيار 1980 تفكك الاتحاد اليوغسلافي، وأصبحت كل دولة من الجمهوريات الستة تسعى منفردة لاقتناص حقها في الحكم الذاتي، وكلما انفرط عقد دولة منهم، سارع جيرانها إما بمواجهتها بالقوة، أو مواكبة تلك الموجة الانفصالية واللحاق بركاب الفوضى التي ظللت تلك المنطقة من العالم ردحا من الزمن.
“ناتاشا أوربان”.. مخرجة صربية مهمومة بقضايا بلدها
تلك المُعضلة الشائكة يطرحها الفيلم الوثائقي النرويجي “الكسوف” (The Eclipse)، وهو من إنتاج عام 2022، ومن سيناريو وإخراج المخرجة الصربية “ناتاشا أوربان” في أولى أفلامها الوثائقية الطويلة، وذلك بعد أربعة أفلام وثائقية قصيرة يتناول أغلبها قضايا المرأة في البلاد الناشئة والنامية، أو الدول التي تُعاني شعوبها من النزاعات المسلحة، مما يُشير إلى قضية وهمّ ما تسعى إلى التعبير عنه والبوح به.
في هذا الفيلم تستكمل المخرجة رؤيتها، لكن هذه المرة من زاوية مغايرة ومألوفة في آن واحد، حيث بلدها صربيا والرؤية عن الوطن ذاته، وليس المرأة فقط، فالمعني هنا هو الإنسان بعيدا عن تصنيفه النوعي أو العرقي، فالفيلم يبدو مهموما بما جرى في صربيا بعد زوبعة تفكك الاتحاد اليوغسلافي في بدايات تسعينيات القرن الماضي.
يقتحم السرد ما خُبئ من تلك الفترة، يمس جراحا لم تُشف بعد، قوامها الصراع الدائم حول السلطة، صراعات لا منتصر فيها سوى الأرض التي تلتهم المزيد من الضحايا، ومن ثم يُعيد الفيلم قراءة التاريخ وبلورته في إطاره المُلائم بما يسمح باستيعاب دلالاته، حتى يتسنى التصالح معه أو النفور عنه.
ما بين الكسوفين.. نظرة بانورامية على الشعب الصربي
يغطي القمر مساحة ثلثي الشاشة تقريبا من زاوية مُقربة، وتصاحبه الكاميرا في ثباته ببطء وتمهل مقصود، بينما يخبرنا التعليق الصوتي على لسان المخرجة بأن عمتها وقت الحرب في يوغسلافيا كانت تنظر للسماء لساعات، مُستجلبة نوما عصيا يأبى الخضوع، ثم تستمر في الحديث عن مدى تقديرها لهذه العمة التي عاشت فيما كان قديما يُسمى يوغسلافيا، لكنها فقدت اسمها حاليا وتشتتت مكانتها الجغرافية، وقد غادرت هي الأخرى أيضا، ولم تعد لوطنها إلا بعد اكتشافها لدفتر مُذكرات والدها الرحالة.
هكذا يبدأ الفيلم بداية قد تبدو شاعرية وعذبة أشبه بمفتتح الحكايات الأسطورية، لكن حين نتوغل في السرد نكتشف الخدعة التي نسج شِباكها الفيلم، فقد اختار السيناريو أن يسرد قصته بين قوسين، القوس الأول يقع في عام 1961 أثناء الكسوف الشمسي آنذاك، في حين يقبع القوس الآخر خلال الكسوف التالي عام 1999.
وما بين هذا الكسوف وذاك، يقع عدد من الذكريات الخاصة، تشتبك مع الحوادث والوقائع العامة التي ساهمت بقدر ما في تغيير كبير، ليس فقط تغيير مصير تلك البقعة الملتهبة من محيط الكرة الأرضية، بل إنها دفعت العالم نحو حروب وصراعات تضاهي في قوتها وشراستها الحروب العالمية.
يُقدم الفيلم نظرة بانورامية على الشعب الصربي في الفترة بين الكسوف الأول والثاني، ما يقرب من 38 عاما، وهي المدة الزمنية التي يتناولها الفيلم، وإن كان التركيز على عقد التسعينيات وما جرى فيه يُشكل الحيز الأكبر من الرقعة السردية، حيث إرهاصات وتداعيات سياسات السنوات السابقة تتجلى فجأة، مُخلفة وراءها شظايا متناثرة تحتمل التأويل، وتستدعي أكثر من قراءة.
حكايات الجدة والأم والأب.. ثلاث روايات لأحداث تاريخية
بعدما عثرت المخرجة الراوية على دفتر رحلات والدها، يُدخلنا الفيلم في منعطف سردي جديد، فنرى الأب عبر المشاهد المُستعادة والمُصورة حديثا أثناء تنقله وترحاله عبر حدود صربيا، وأثناء تلك الرحلات، يكشف عن رؤيته للأوضاع السياسية التي تتصاعد تدريجيا، ينتقل بين الولايات المختلفة، مُستكشفا الطبيعة والجبال التي تكشف عنها الكاميرا، تلك المشاهد التي تصاحبنا طوال الفيلم كمعادل موضوعي للهروب من قبضة الواقع المُحمل بمآسي لا قدرة له على معايشتها.
ثم ينتقل السرد للرواية الأخرى للحدث، فيستدعي البيانات الرسمية والتاريخية عبر العناوين المدونة على الشاشة من ناحية، والمشاهد الأرشيفية من ناحية أخرى، ويتكامل المثلث السردي مع حكايات جدة المخرجة وأمها وباقي عائلتها عن الأحداث المعاصرة، وبالتالي تُصبح لدينا ثلاث روايات للأحداث التاريخية، كل من هذه الروايات لها قراءاتها ورؤيتها الخاصة لما جرى، وبالتالي تمتزج الرؤية الخاصة بالعامة، ثم نرى تأثير التاريخ على الحياة الخاصة للمخرجة، فالخاص والعام يتداخلان سويا في نسيج متكامل.
مثلما نرى في أحد المشاهد أثناء الحكي عن يوم 24 نوفمبر/ تشرين الثاني عام 1990 بعد اكتشاف مقبرة جماعية للنساء والأطفال في إحدى المدن الصربية، يروي الأب خلال هذا التاريخ وقائع رحلته، بينما التاريخ الرسمي يُخبرنا عن المقبرة، في حين أن حكايات الجدة تأخد زاوية أخرى للحدث.
وهكذا يستمر السرد مُستكملا رواية التاريخ الصربي الحديث، كاشفا عن بزوغ النزاعات بين الأعراق المتباينة المكونة للاتحاد اليوغسلافي بعد وفاة الرئيس “تيتو”، وكيف أن كل جانب من هؤلاء يرغب في الاستئثار بذاته، ويؤسس دولته التي لا يرى فيها سوى نفسه، مما يدل على عنصرية متوارية داخل هذا المجتمع.
صراعات مسلحة بين الصرب والكروات.. تمزق الوطن الكبير
يستكمل السيناريو سرده للأحداث الدرامية في صربيا وفق الأسلوب الخطي التقليدي، حيث البداية والوسط والنهاية، فالبداية ما ترصده الكاميرا أثناء مظاهرات مارس/ آذار عام 1991 احتجاجا على قرارات الرئيس الصربي “سلوبودان ميلوشفيتش”، وعلى إثر تلك الاحتجاجات تتحرك الدبابات بمعاونة الجيش الصربي لقمع المعارضة، ومن هنا يتخذ الوضع في صربيا منحى أكثر دموية، يسعى الفيلم لفك رموز تلك المرحلة عبر إعادة قراءاتها سعيا للفهم والمعرفة.
وفي إحدى المشاهد تصف والدة المخرجة أن الشعب الصربي استيقظ في أحد أيام التسعينيات، تحديدا في أكتوبر/ تشرين الأول عام 1991 على خبر إعلان كرواتيا دولة ذات سيادة مستقلة، بعد أيام من الصراعات المسلحة بين الصرب والكروات، تُشير الأم إلى اندهاشها الشديد من هذا القرار المفاجئ، وتُقارن في حسرة بين هذه الأيام والماضي، حين كانت يوغسلافيا تضم بين حدودها المتسعة كافة الأعراق المُتنازعة.
يكشف الفيلم عبر أسلوبه الصادم أن الأمر لم يقف عند هذا فحسب، بل تلته عدة موجات انفصالية، ومن قبل ومن بعد الحروب والمناوشات العرقية، ترغب كل جماعة في إزاحة الأخرى عن حيزها الوجودي، وكأن وجود تلك الفئة سيؤثر على الأخرى، بينما التاريخ القريب يُخبرنا بعكس ذلك، وعند هذه النقطة يتراجع الحكي عدة سنوات للخلف، أثناء الحرب العالمية الثانية والاحتلال النازي ليوغسلافيا، وكيف اجتمع شمل تلك الفئات المتناحرة تحت القيادة الواحدة لـ”تيتو” لمواجهة العدو المشترك.
تُبدي المخرجة سؤالها الاستنكاري المندهش عن الوضع في بلدها، وكيف وصلت إلى تلك المرحلة من الشقاق وانعدام الوفاق، فالأحداث والحروب الصغيرة تتوالى في مصفوفة تكرارية، بدءا من مارس/آذار عام 1991، لا تدري متى ينتهي هذا الكابوس، فكلما تقدمت الأيام ازدادت حصيلة الدماء في تناسب طردي مع الزمن الذي يتدفق بانسيابية مفعمة بالدم والموت.
مجزرة سربرنيتسا.. صراع على الأرض وإبادة لأطيب الشعوب
تستمر المخرجة في رحلتها لكشف المستور من هذه الحرب التي استمرت ما يقرب من عقد كامل بحيادية وجرأة، تُشير إلى ما جرى هناك من جرائم حرب وإبادات عرقية مُمنهجة، وهنا يكمن سر قوة الفيلم وأهميته في القول بحرية دون خوف، بعيدا عن أي اعتبارات أخرى، وفي تلك الأجواء يعرج السيناريو على مذبحة سربرنيتسا التي حدثت في البوسنة والهرسك أثناء الحرب خلال شهر يوليو/ تموز 1995، وراح ضحيتها أكثر من ثمانية آلاف مسلم بوسني.
تتناول بالتحليل ما حدث، وتسعى للوصول لأسباب تلك المذبحة، وتبدأ بسؤال المُحيطين بها مثل أمها وجدتها عن رؤيتها لجيرانها من المسلمين، فترد الجدة بوصف المسلمين بأنهم الأطيب والأفضل في يوغسلافيا سابقا، وتستطرد في سرد صفاتهم الحسنة مقارنة بباقي الطوائف، فقد كانت تعيش في سراييفو العاصمة البوسنية في الزمن الحالي، وعندما تسأل المخرجة مُباشرة، لماذا حدث ذلك؟ لا تجد إجابة شافية.
لا أحد يدري ما الذي جرى هناك على وجه الدقة، لا يبقى سوى الروايات الرسمية التي تُرجع ما حدث للحرب في البوسنة والهرسك بعد الانفصال عن الاتحاد اليوغسلافي، وقد أثار ذلك شكوك وريبة الصرب والكروات الذين يرغبون في السيطرة على أكبر قدر من الأراضي، حينها بدأت المذابح، فالأرض بحسب رؤيتهم لا تقبل أكثر من عِرق أو طائفة يتداولون عليها.
وعند هذه النقطة نصل لإحدى قضايا الفيلم التي يُقدمها بأسلوب مُبطن، تظهر شذراته بين السطور، وهي العنف داخل المجتمع الصربي، فالكلمة الأولى للسلاح، ورغم اندثار هذه الحروب الآن، فإن الآثار والجروح ما زالت قائمة.
وحين نعود للتاريخ الصربي يُمكن اكتشاف أن أيسر ما في الخلاف هو إزاحة الآخر، فكلما تصاعد غبار القلاقل والعداء بين أبناء الجمهوريات اليوغسلافية، يُصبح اللجوء للصدام المسلح هو الاختيار الأمثل، من دون أخذ توابع الكراهية والعنف في الحسبان، وهذا ما يرغب الفيلم في التعبير عنه، مع تقديم جرعة -ولو طفيفة- من النقد اللاذع للأجيال السابقة التي تركت الأمور تصل لما وصلت إليه.
ألم الفاجعة والتصالح مع الحرب.. اختلاف الأجيال
في أحد المشاهد تسأل المخرجة والدها عن مذبجة “سربرنيتسا”، فيُجيب بتلقائية بأنه سمع حينها عن الواقعة، فتُعيد المخرجة السؤال بأسلوب آخر، هل تعرف كم عدد الضحايا، يُخبرها بلا مبالاة بأنه كثير بلا شك، حينها تندهش وتقول “إنه يفوق الثمانية آلاف، هذا فظيع”، ويأتي صوت الأب وراءها “فظيع.. فظيع”، دون أن نشعر بأي تأثر تجاه الضحايا.
هنا يطرق الفيلم فكرة اختلاف الأجيال، إذ تختلف نظرة كل جيل عن الآخر نحو التاريخ، الأب الذي عاصر كل هذه الحروب، في مقابل الابنة التي لم يكتمل وعيها أثناءها، كل منهما في مواجهة الآخر، الأجيال الجديدة تُدرك فداحة ما حدث من حروب وإبادات عِرقية، أما الأجيال السابقة فهي تُنكر مسؤوليتها الإنسانية والتاريخية، وهذا بالتحديد موطن الخلاف بين هذا الزمن وبين الماضي.
يتناول الفيلم عدة أفكار تدور جميعها في فلك التاريخ والصراع مع الماضي، هذا الزمن المُكبل بالخزي والهزائم المتوالية، تقتحم المخرجة عبر حوارتها المتناثرة مع عائلتها وأصدقائها التاريخ السياسي لصربيا، تُعيد قراءته بحيادية تامة، مما يدفع على السطح سؤالا جوهريا ألا وهو، هل يُمكن التصالح مع الماضي؟
للإجابة على هذا السؤال، يستدعي السرد من الذاكرة ما استجد من مُعطيات جديدة طرأت على المشهد العام، فقبل استكمال القرن العشرين بعام على الأقل، بدأ حلف الناتو شن هجمات جوية في الفترة من مارس/ آذار حتى يونيو/ حزيران من العام 1999، ردا على الانتهاكات والمذابح العرقية آنذاك.
وعند تلك الحلقة من الصراع، يُقبض على الرئيس الصربي “سلوبودان ميلوشفيتش” ليُحاكم في محكمة العدل الدولية في لاهاي، حتى يلقى مصيره المحتوم في عام 2003، حينها يبدأ عهد جديد في صربيا، وقد عبر الفيلم عنه بصريا بلقطة ولادة لإحدى الحيوانات والدماء تُحيط بالمولود، في اشارة لمخاض الولادة، والبعث الجديد.
محاكمة الماضي.. حتى لا يعيد التاريخ نفسه مرة أخرى
تقول المخرجة “ناتاشا أوربان” في إحدى الحوارات الصحفية بعد عرض فيلمها: قررت تصوير الفيلم بعد وفاة أحد الأصدقاء الأعزاء، وتحت ضغط الإحساس بالحزن، انطلقت ذكرياتي المدفونة في الأعماق، كانت عملية مؤلمة، وقد أسفرت عن هذا الفيلم الذي يطرح الأسئلة حول كيفية تعاملنا مع الألم.
هذا ما تراه المخرجة وما ترغب في التعبير عنه، لكن هناك شيء آخر لم تُصرّح به، وإن كان الفيلم قد أفصح عنه بطريقة أو بأخرى وهو محاكمة الماضي بعيدا عن الهروب من المواجهة، فالحديث عن المجازر والانتهاكات السابقة يُقابَل بالصمت في الأوساط الصربية والدولية، بينما الواقع والتاريخ يكشفان عن الحقيقة، وهذا ما سعت إليه المخرجة، وصولا للتحرر من عذابات الماضي بحثا عن بداية جديدة.
ولتقديم هذه الرؤية لجأت المخرجة أثناء التصوير لاستخدام العدسات 16 مم، بما يتناسب مع الموضوع المراد تقديمه، ومشاهد الذكريات أو الماضي بعدسات 8 مم، بالإضافة إلى المزج المشاهد المصورة حديثا مع المشاهد الأرشيفية، كل ذلك يتمازج سويا في وحدة عضوية واحدة، وبأسلوب صادم وكابوسي، ولتخفيف وطأة هذا الإحساس، جرى توليف المشاهد الطبيعية والحيوانات، كمضاد لما يسرد من حكايات وذكريات تحوي من الألم قدرا وافيا.
فإذا كانت جماليات السينما تكمن في ماذا تقول وكيف تقول؟ فمن ناحية القول، نحن أمام وثيقة صادمة عن الماضي في صربيا، قُدمت بجرأة يُحسد عليها، وتبعث على التفكير والتأمل في مصائر الشعوب، ومن ناحية الكيف، فالأسلوب يشهد على حرفية الإخراج في تقديم فيلم شديد البراعة والحساسية عن قضية إنسانية لا تسقط بالتقادم، ومن ثم يبقى السؤال المؤرق الذي يبقى بعد المشاهدة، هل تُدرك حقا الأجيال الجديدة ما حدث في الماضي، أم أن التاريخ قد يُعيد ذاته مرة أخرى؟