“آخر أيام الاحتلال”.. ذكريات ملونة تحيي تاريخ المقاومة في عدن

 

جاء يوم 30 نوفمبر/ تشرين الثاني 1967 ليكون تاريخ جلاء آخر جندي بريطاني عن أراضي جنوب اليمن المحتلة، وكان من بين المناطق المحتلة مدينة عدن اليمنية التي كان يعد ميناؤها الثاني على مستوى العالم.

ويسلط فيلم “عدن.. آخر أيام الاحتلال” الضوء على يوميات هذه المدينة التاريخية، في زمن الاستعمار البريطاني، ومواجهته من قبل الفدائيين اليمنيين الذين أجبروا القوات الغازية على المغادرة.

هذا الفيلم هو جزء من سلسلة “ذكريات ملونة” التي أنتجتها الجزيرة الوثائقية، وتعتمد على إعادة ترميم وتلوين أرشيف يروي أحداثا مهمة، من خلال أشخاص عايشوا مراحل زمنية وأحداثا مهمة في العالم العربي بين عشرينيات وستينيات القرن الماضي، قبل أن يتوفر الأرشيف الملون.

“عدن كانت سباقة في كل شيء”

يقول ابن عدن أحمد ناصر حميدان: المدينة فيها شواهد أثرية كبيرة ومعروفة تدل أن تاريخها قديم، وهي من أقدم ما في الجزيرة العربية، وكانت مدينة تجارية قبل أن يأتي المستعمر. وقد عرفت عددا من الغزاة بينهم البرتغاليون والإيطاليون والفرنسيون الذين حاولوا احتلالها. وكانت عدن محمية بريطانية خاصة.

طواحين الهواء في عدن حيث الحركة التجارية النشطة في المدينة

كانت عدن ميناء حرا، ومكنها ذلك من إحراز السبق في النهضة. يقول حميدان: كان يسكن أغلب الإنجليز في شارع المعلا الذي كنت أسكن فيه، وقد بدأ التعليم مبكرا جدا في عدن في أربعينيات القرن الماضي، وبدأ المسرح عام 1910، أي أن عدن كانت سباقة في كل شيء، وتحديدا في بداية نهضتها الاقتصادية والثقافية، لأنها كانت ميناء حرا.

وكانت الجمال وسيلة نقل للبضائع. ويظهر في إحدى الصور المملاح (المكان الذي يصنع فيه الملح) الذي كان مرتكزا اقتصاديا كبيرا للمدينة، إذ كانت المدينة تصدّر أجود أنواع الملح إلى جميع أنحاء العالم.

قنبلة المطار.. وهج الثورة المشتعلة ضد المستعمر

كانت عدن سياسيا -بحسب أحمد ناصر حميدان- ترفض كل أنواع الاستعمار والحركات العمالية، وكانت تنظم احتجاجات مستمرة و”كنا نتعرض للقمع والتفتيش الدائم، فالاستعمار يبقى استعمارا، ويكون الشعب الواقع تحته مهانا”.

جنود بريطان يفتشون أفرادا من أهل عدن

كان الوهج الثوري في عدن قويا، وكان الناس رافضين للاستعمار، خاصة بعد اقتحام المنازل وحادثة قنبلة المطار، وهي عملية فدائية أُلقيت فيها قنبلة يدوية بمطار عدن، فأصابت المندوب السامي البريطاني السير “كندي تريفاسكس” بجروح وقتلت نائبه، وكل ذلك زاد حدة الاحتجاجات والنقمة والغضب والمظاهرات.

يقول حميدان: بعد إعلان حالة الطوارئ كانوا يقتحمون المنازل بحثا عن الفدائيين للقبض عليهم، وقد اعتقل والدي، وكنت طفلا صغيرا، وعمري 8 سنوات، وكنت مرعوبا وقتها، وشاركت بالمظاهرات التي كانت ترفع شعارات الوحدة العربية وصور الرئيس المصري جمال عبد الناصر.

“الفترة التي قضيتها في عدن كانت مدهشة”

يقول النقيب السابق بالجيش البريطاني في عدن “مايكل كومبتون”: الفترة التي قضيتها في عدن كانت مدهشة، ليست فقط بسبب الجانب العسكري منها، بل بسبب التغيرات السياسية الكبيرة التي شهدتها تلك الفترة، إضافة إلى مغادرة الجيش لما كان من قبل مستعمرة بريطانية.

بريطانيا تستعمر مدينة عدن قبل أن تخرج منها في 1967

كان ميناء عدن محميا، وهو السبب في وجود المدينة، لأنها من دون موقعها الجغرافي ما كانت لتوجد أصلا، وكانت محطة توقف مهمة بين الهند وبريطانيا خلال أوائل القرن الـ19.

يقول النقيب “كومبتون”: في شارع المعلا كانوا يقودون السيارات على الجانب الأيسر (كما في بريطانيا)، وكان لون الشقق أبيض ورماديا. وكانت الشقق تستخدم وحدات سكنية للجنود والبحارة وعائلاتهم. وواحد من كل 10 عرب كانوا يخضعون للتفتيش، وكان ذلك مزعجا لبعضهم.

أزياء الجند.. أحزمة خضر وحقائب بنية وريش أحمر

يتحدث النقيب السابق “مايكل كومبتون” عن أزياء الجنود في تلك الفترة قائلا: كان الجندي يرتدي حزاما يميل إلى اللون الأخضر، وكان يحمل على ظهره حقيبة بنية تحتوي على الإسعافات الأولية. وهناك أيضا جنود يرتدون ريشة وهم مشاة نورثمولاند. وكانت الريشة الحمراء مثبتة فوق ريشة بيضاء مكونة من لونين، فتلك الكتيبة كانت شهيرة جدا حينها، وكان قد مر على وجودهم في اليمن 6 أو 8 أشهر فقط.

أحمد حميدان شاهد عيان على مدينة عدن قبل الاستعمار وبعده

ويروي قصة يوم الإجلاء، وهو اليوم الأخير للقوات الإنجليزية في عدن، قائلا: كان يوم 29 نوفمبر/ تشرين الثاني 1967 آخر يوم لنا في عدن، إذ جاءت المروحية لنقل جنود البحرية البريطانية، فسحبوا أعلامهم وقفزوا داخل مروحية، ليُنقلوا إلى حاملة الطائرات. وهكذا كانوا يسحبون جنودهم بالطائرات، أما مروحية سلاح الجو الملكي -التي أجْلت جنود البحرية- فكانت مموهة باللون الفضي والرمادي والأخضر والبني.

“الألوان أعطت اللقطات بهاء”.. عودة الذكريات إلى الحياة

بعد عملية ترميم اللقطات الأرشيفية وتلوينها آليا وبشكل دقيق، نعيد عرضها على المواطن اليمني أحمد ناصر حميدان، وقد تأثر بمشاهدة اللقطات الملونة. وقال: الألوان أعطت اللقطات بهاء، فعدن تاريخ ضارب في الجذور، وأغلب مجموعات أبناء العمال كانوا يعيشون أيام الاستعمار على سفوح جبل شمسان، وأما الاستعمار وأعوانه، فكانوا يعيشون في الشارع الرئيسي بالمعلا، حيث المباني الجميلة والفخمة، ولكننا انتقلنا بعد الاستقلال إلى هذه المناطق وعشنا فيها.

جنود بريطان يحزمون أمتعتهم ويغادرون عدن سنة 1967

ويتحدث عن ذكريات شارع المعلا قائلا: كان شارع المعلا أجمل شارع في المدينة في تلك الأيام، وما زال الناس يعيشون بهذه المباني. فمنطقة المعلا كانت مقصد الجنود البريطانيين لأنها على مقربة من الميناء، وأغلب الذين كانوا يعيشون في هذه المنطقة من العمال، لأنها كانت منطقة تجارية.

شارع المعلا بعدن حيث كان الجنود والضباط البريطان يعيشون

وإضافة إلى العمال والحمالين كان هناك التجار والمستثمرون، وكانت مركزا للشركات والمحلات التجارية. وكان ميناء عدن الثاني في العالم ويصدر البضائع لجميع أنحاء العالم، وكانت عدن سوقا حرة والأسعار فيها رخيصة.

ضربات الفدائيين.. منسوب قومي مرتفع يخرج المستعمر

يقول أحمد ناصر حميدان: يعود تاريخ المدينة إلى 5 آلاف عام، وقد مر عليها غزاة كثر، لكن أهل عدن رفضوا كل المشاريع الاستعمارية، لأن منسوب القومية العربية فيها كان مرتفعا جدا، وكان من الصعب أن يؤسسوا فيها “اتحاد الجنوب العربي”، وأول من رفض هذه الخطوة هي مدينة عدن.

الجمال تحمل البضاعة في عدن وتنقلها من وإلى ثاني أكبر ميناء في العالم

وكان الرئيس المصري جمال عبد الناصر أيقونة النضال داخل عدن، وأشعل القومية العربية في عدن، ولهذا فالشعب العدني كان يخرج في مظاهرات بكل فئاته وأعراقه ضد المستعمر. يقول حميدان: هذه التظاهرات توسعت بعد عملية المطار التي ضربت الاستعمار بالصميم، لأنها استهدفت المندوب السامي وقتلت نائبه، واستدعت وقتها بريطانيا قوات النخبة التي كنا نسميها في عدن “الهنود الحمر”، بسبب الريش الأحمر في قبعاتهم.

وفي يوم من الأيام دخل والدي إلى المنزل وهو يحمل زميله الجريح، وعالجناه في الداخل، وكان الاستعمار يبحث عنه، لكن والدي وأصدقاءه استطاعوا إخراجه من الباب الخلفي والفرار به بعيدا عن أعين المستعمر. فقد كانوا من الفدائيين الذين لديهم غيرة وأنفة، وكانوا يواجهون الاستعمار في أي منطقة يعتدي عليها.

الشعب اليمني في عدن يحتفلون بخروج آخر جندي بريطاني من بلادهم

خرج الاستعمار من عدن حين كنت ابن 12 عاما، وحضرت الاحتفالات التي أقيمت بمناسبة رحيله، وكان الشعب يحتفل بالرقص والغناء ودق الطبول، احتفاء بتاريخ 30 نوفمبر/ تشرين الثاني 1967، واستمرت الاحتفالات عاما بعد عام. فقد كانت عدن تحتضن كل الأفكار، وكانت بها عقائد وديانات كثيرة مختلفة، وكان التعايش بينها مميزا في نسيج واحد بأمان وانسجام.


إعلان