“آيا صوفيا”.. سيد المعابد الصامد في وجه الزلازل والثورات وصراع الحضارات
منذ أقدم فترات التاريخ كان أول معبد يتبادر إلى الذهن عند ذكر إسطنبول هو معبد “آيا صوفيا” (Hagia Sophia)، وهو من أكثر المعابد زيارة في العالم، كما أنه واحد من أبرز المعالم الأثرية في العالم من حيث تاريخ الفن والعمارة، حتى أن البعض عدّه أعجوبة العالم الثامنة.
وقد سلط فيلم “آيا صوفيا” -الذي بثته الجزيرة الوثائقية- الضوء على الأثر الذي استطاع البقاء حيا عبر الزمان، واحتل مكانة مهمة للغاية من حيث عالم الفن المعماري، نظرا لإبهاره وعظمته وحجمه ووظائفه.
لكن قبل الحديث عن “آيا صوفيا”، لا بد من تسليط الضوء على إسطنبول؛ الجوهرة ومهد الحضارات، وعين العالم، ونقطة التقاء الحضارات، مدينة القباب والمآذن، المدينة التي يشعر الناس بالفضول تجاهها في كل فترة من فترات التاريخ، يرغبون بزيارتها ورؤيتها، وقد كتبت عنها آلاف القصائد والكتب.
إسطنبول.. سرة العالم وعاصمة الإمبراطوريات الثلاث
حافظت مدينة إسطنبول القديمة -التي كانت عاصمة الإمبراطوريات والحضارات- على مكانتها باعتبارها واحدة من أهم مراكز التاريخ والسياسة والتجارة والثقافة لقرون عدة، فهي تقع عند تقاطع القارتين في موقع لا تنتمي فيه إلى الشرق تماما ولا إلى الغرب، ولذلك فقد حملت مهمة مختلفة في روحها استمرت لقرون كنقطة تمثيلية وتقاطع لكلتا الحضارتين.
لا شك أن السمة الأكثر لفتا للانتباه في تاريخ إسطنبول هي أنها كانت عاصمة ثلاث إمبراطوريات عالمية؛ الرومانية والبيزنطية والعثمانية. ففي عام 330 من الميلاد، أُعلنت إسطنبول رسميا عاصمة للإمبراطورية الرومانية، وكانت تعرف باسم روما الثانية، وسُميت فيما بعد بيزنطة، وفي الفترات الأخيرة سُميت باسم القسطنطينية.
كما كانت إسطنبول عاصمة الإمبراطورية العثمانية لمدة 470 عاما، منذ فتحها السلطان محمد الفاتح عام 1453، وحتى عام 1923. ومن العناصر التي تجعل إسطنبول ذات قيمة كبيرة -بلا شك- معبد “آيا صوفيا”.
آيا صوفيا.. أعجوبة العالم المستلهمة من معابد القدس
من أجل بناء آيا صوفيا، عمل 10 آلاف عامل، وشارك جيش من حوالي 100 مهندس معماري في البناء، وعمل 5050 عاملا جنبا إلى جنب مع كل مهندس معماري، فهي أكبر كنيسة بنتها الإمبراطورية الرومانية الشرقية في إسطنبول، وهي تحفة فنية تُجرى أبحاث عنها في كل الفترات، وتنتج عنها الأساطير وتجذب اهتمام السياح والسفراء والأباطرة، وتحظى آيا صوفيا بأهمية خاصة بمزاياها المعمارية، فضلا عن المفاهيم الرمزية المنسوبة إليها التي جعلتها دائما مختلفة.
وكما أثّرت هندستها المعمارية على المهندسين المعماريين، فقد كانت قادرة على توجيه خطوط الشعراء، وأصبحت موضع فرُش الرسامين، وألحان الموسيقيين. إنها بنية فريدة من نوعها، جلبت سمعة ومكانة لمدينتها ودولتها. وعلى الرغم من أن بناء آيا صوفيا -الذي يعني الحكمة الإلهية المقدسة باللغة اليونانية- قد بدأ في عهد الإمبراطور البيزنطي “قسطنطين الأول”، فإنه لم يكتمل إلا في فترة إمبراطورية قسطنطين الثاني.
وبقدر ما كان هناك اهتمام من قبل المهندسين المعماريين والعلماء البيزنطيين ودول شرقية أخرى في بناء آيا صوفيا، فقد لعبت كذلك هيلانة والدة الإمبراطور دورا رئيسيا أيضا في بنائها. فعندما ذهبت إلى القدس في عام 235 أعجبت بالمعابد هناك، وعند عودتها طلبت من ابنها بناء كنيسة مبهرة في إسطنبول.
بدأ بناء الكنيسة في عهد قسطنطين الأول، بعد أن اتخذ المسيحية ديانة رسمية للإمبراطورية الرومانية، وقد افتتحت في فترة قسطنطين الثاني في عام 360، وكانت حينها كنيسة مسقوفة بالخشب على أول تلال إسطنبول السبعة، وعُرف بالكنيسة الكبيرة في ذلك الوقت. لكن لا يوجد أي أثر لهذا المبنى الذي دُمر إلى حد كبير نتيجة حريق اندلع خلال التمرد الذي بدأ في عام 404.
ما بعد الانتفاضة.. أكبر المعابد التي شيدت منذ عصر آدم
بُنيت آيا صوفيا الثانية على آيا صوفيا الأولى من قبل الإمبراطور “ثيودوسيوس الثاني”، وافتتحت للعبادة في عام 415. وقد بُني هذا الهيكل أيضا على شكل كنيسة وسقف خشبي، لكنه حُرق ودمر من قبل المتمردين في انتفاضة “نيكا” ضد الإمبراطور “جستنيان” في عام 532.
وعندما هدأت الانتفاضة، قرر الإمبراطور “جستنيان” بناء معبد مذهل، وقد أراد أن تُبنى الكنيسة بطريقة مثلى، ولم يتجنب أي تضحية، فكانت نيته بناء أكبر وأجمل المعابد التي شيدت من عصر النبي آدم حتى عصره، وبهذا ستثبت الإمبراطورية قوتها وقدرتها للعالم أجمع.
نقلت المواد من جميع دول البحر المتوسط إلى إسطنبول لبناء هذا المعبد المذهل، فالأعمدة الثمانية التي تُبقي آيا صوفيا قائمة جُلبت من معبد “ديانا” في أفسُس. أما الأعمدة الأخرى فمن معابد أثينا ومصر وغيرهما، حتى إنهم فككوا أعمدة بعض المعابد الوثنية، بما في ذلك معبد “أرتميس” في الأناضول، ونقلوها إلى آيا صوفيا. وبعد كثير من العمل الشاق، انتهى بناء هذا المعبد المدهش في وقت قصير لا يتجاوز خمس أو ست سنوات.
ومن المعروف أن هناك دهاليز تحت آيا صوفيا، حتى إن بعض المصادر تقول إن هناك خزانا ضخما للمياه الجوفية تحت آيا صوفيا.
وعندما دخل الإمبراطور الكنيسة، فُتن بها مثل أي شخص آخر، لأنه حتى ذلك الحين لم تُبن قط قبة بارتفاع 55 مترا، وبقطع 31 مترا، ولم يزل سائدا اعتقاد بأنه لا يمكن بناء قبة د تتجاوز حجم هذه القبة، حتى بنى المهندس المعماري “سنان” مسجد السليمية في أدرنة.
لكن فرحة الإمبراطور لم تدم طويلا؛ فبعد فترة وجيزة من افتتاح المعبد، ضرب زلزال كبير مدينة إسطنبول، وألحق أضرارا بآيا صوفيا أيضا.
نكبات الكنيسة.. نهب واحتلال في صراع البندقية وبيزنطة
شهدت آيا صوفيا أسوأ أيامها إبان الغزو اللاتيني خلال الحملة الصليبية الرابعة عام 1204، فدُمّرت وأخذت بعض الأشياء المقدسة القيّمة منها، وأُرسلت إلى الكنائس في الغرب، وخلال هذا الاحتلال أصبحت تحت حكم البندقية حتى عام 1261. وقد توج فيها أثناء تلك الحقبة خمسة من ملوك اللاتين الذين تولوا العرش.
وعندما استعاد البيزنطيون المدينة وأعادوا إحياء إمبراطوريتهم في عام 1261، لُوحظ أن الكنيسة كانت متهالكة للغاية، ومن المحتمل أنه الدعامات الأربعة الكبيرة الموجودة في الغرب قد بُنيت خلال هذه الفترة. وقد بنى “أندرو نيكوس الثاني” دعامات جديدة على الجانبين الشرقي والشمالي للهيكل.
وبعد الزلزال الذي ضرب البلاد عام 1344، حدثت شروخ ودمار جديد في آيا صوفيا، ونتيجة لذلك حدثت انهيارات كبيرة في الهيكل، نظرا لحقيقة أن الدولة لم يكن لديها ما يكفي من المال للإصلاحات. ويتحدث السياح الغربيون الذين جاؤوا لزيارة آيا صوفيا في القرن الخامس عشر عن سوء رعاية المبنى، وبحسب هذه الروايات فقد كان المبنى محاطا بالأنقاض، وأبوابه قد سقطت.
في الفترة ما بين الغزو اللاتيني إلى احتلال إسطنبول، شهدت آيا صوفيا أكثر عصورها ظلمة. فقد دمرت مرتين وبنيت للمرة الثالثة وخربت بسبب الحروب والتمردات لقرون عدة، وانهار أجزاء معينة منها بسبب الأخطاء المعمارية، لكنها حافظت على استمراريتها تحت خطر التدمير المستمر، إلى أن فتح السلطان محمد الفاتح إسطنبول. بالإضافة إلى ذلك، تضرر المعنى الاجتماعي والرمزي للمعبد بسبب الصراع الطائفي الكاثوليكي الأرثوذكسي.
زخارف الكنيسة.. هندسة مبهرة لأضخم صروح العصر
تختلف الزخارف الداخلية لأيا صوفيا، وقياسات الطول والعرض مختلفة كل الاختلاف عن الكنيسة العادية، وقد جعلت العالم المسيحي ينسب هذا الهيكل إلى قدرات خارقة جنبا إلى جنب مع المعتقد الديني، واتخاذ آيا صوفيا رمزا للتصوف في العصور الوسطى.
وتبلغ أبعاد آيا صوفي 100 في 70 مترا، وتبلغ مساحتها الداخلية حوالي 7500 متر مربع، وله هيكل من طابقين. ولتسهيل الوصول إلى الطابق العلوي من المبنى، بُني منحدر واحد في كل زاوية، لكن المنحدر الموجود في الجزء الجنوبي الشرقي هُدم في بداية القرن العاشر.
وكان لآيا صوفيا صحن مركزي وبلاطان جانبيان ومقدمة ورواقان داخلي وخارجي. وهذا المكان -الذي يبلغ عرضه 5.75 أمتار- مغطى بأقبية متقاطعة تمر عبر الرواق الخارجي إلى الرواق الداخلي الذي يبلغ عرضه 9.5 أمتار من خلال أبواب خمسة.
وأبواب المبنى المذهلة مصنوعة من خشب البلوط، وتحمل آثار العصر البيزنطي. وقد أحضرت البوابة البرونزية خصيصا لهذا الهيكل من معبد “هلنستي” في طرسوس، وهي البوابة الأجمل في آيا صوفيا. ويوصل إلى المدخل الرئيسي للمكان من خلال 9 أبواب مختلفة، ونظرا لأن البوابات الثلاث الموجودة في المنتصف مخصصة لمدخل الإمبراطور، فإنها تحمل اسم “بوابة الإمبراطور”.
وهناك ما مجموعه 107 أعمدة، 40 منها في الطابق السفلي، و67 منها في الطابق العلوي. ويبلغ ارتفاع أطول الأعمدة حوالي 20 مترا. ويبلغ نصف قطر الأعمدة مترا ونصف المتر، ويقدر وزنها بسبعين طنا. ومعظم الأعمدة المستخدمة في المبنى أقدم من المبنى، وذلك لأن الأعمدة أحضرت من معابد مختلفة في الأناضول.
قبة المبنى.. كون لا نهاية له يطل على مئات النوافذ
جُلب الرخام الملون الذي يغطي الجدران من عدة أماكن، منها مصر، أما الرخام الأبيض فهو الرخام الشهير لجزيرة مرمرة. ويوجد ما مجموعه 311 نافذة في آيا صوفيا، وهناك 134 نافذة في القاعة السفلية، و21 نافذة في الواجهات الشمالية والشرقية، و28 نافذة في الواجهة الجنوبية، و14 نافذة في الرواق الداخلي في الغرب، و10 نوافذ في الرواق الخارجي.
كما أن هناك 40 نافذة حول القبة الرئيسية، ويوجد 28 نافذة خشبية، و18 نافذة رخامية في الجزء الشمالي من الرواق العلوي، و17 نافذة خشبية، و15 نافذة رخامية في الجنوب، و10 نوافذ خشبية، و12 نافذة رخامية في الشرق، و50 نافذة خشبية، و27 نافذة رخامية على الواجهة الغربية، أي ما مجموعه 177 نافذة.
والقبة الواسعة لمسجد آيا صوفيا -التي يعتقد أنها تمثل الكون الذي لا نهاية له- مبهرة للغاية، ولا سيما حقيقة أن هذه القبة بُنيت في القرن السادس. وهذه القبة ليست مستديرة تماما، ويبلغ ارتفاعها 55.5 مترا، ويبلغ قطرها نحو 32 مترا.
صور القديسين.. شخصيات دينية تزين جدران الكنيسة
وفي كل ركن من أركان قبة آيا صوفيا، صُور من يُطلق عليهم “ملائكة سيرافيم”. فالرسومات في الجزء الشرقي مصنوعة من الفسيفساء، ورغم الدمار الذي حل بها، تعتبر هذه الفسيفساء من بين أكثر الأعمال الفنية قيمة في العالم، وفي داخل المبنى كثير من الفسيفساء التي تُصوّر أباطرة وأشخاصا يعتبرون مُقدّسين من وجهة النظر المسيحية.
ومع مرور الوقت، أصبحت الجدران مغطاة بصور من يعتقد المسيحيون أنه يسوع ومريم، وصور القديسين والأباطرة. ودُمر معظم الفسيفساء الكبيرة على مر السنين، وبشكل خاص بسبب الزلزال الذي حدث في عام 1346.
وفي عام 1453 أمر السلطان محمد الفاتح بحماية الفسيفساء عن طريق التبييض أو التنصيص عليها، من دون إلحاق الضرر بها، وأصبح بإمكان الزوار زيارة هذه الفسيفساء من أجل رؤيتها.
تعزيز الدعامات.. عكاز يسند الكنيسة في أيام شيخوختها
توجد أكبر بوابات آيا صوفيا عند البوابة التي توفر الممر من قسم الرواق الداخلي إلى المساحة الرئيسية فيها، وفوق البوابة فسيفساء لبوابة الإمبراطور التي يبلغ ارتفاعها 7 أمتار، وهي مؤطرة من البرونز.
وقد أظهرت جدران أيا صوفيا -بسبب وزن قبتها- بعض الانشقاقات. ولحل هذه المشكلة، عزز المهندس المعماري “سنان” الدعامات التي تحمل القبة والفجوات بين الجدران الجانبية بأقواس، وكذلك اتجه إلى دعم الهيكل من خلال بناء جدران داعمة ثقيلة. بالإضافة إلى ذلك، أُعيد بناء الجدران الداعمة ووُضعت في سياج حجري.
فآيا صوفيا لها 24 دعامة. وقد بُني بعض الدعامات في الفترة الرومانية، وبعضها أثناء الفترة العثمانية، بالإضافة إلى ذلك، بُنيت الدعامات في العصر الروماني، ثم عُدلت في العصر العثماني. وتوجد 7 من هذه الدعامات في الشرق، و4 في الجنوب، و4 في الشمال، و5 في الغرب، والأربع الباقية تدعم الهيكل.
فتح إسطنبول.. خطبة وصلوات في أعظم معالم المدينة
في عام 674 حاصر المسلمون -وفيهم الصحابي أبو أيوب الأنصاري- القسطنطينية لمدة 4 سنوات، لكن الله لم يشأ لها أن تُفتح. وتُسجل بعض المصادر أن الأمويين والعباسيين نظموا 5 حملات إلى إسطنبول بين عامي 655-785، وأن العثمانيين حاصروا إسطنبول 7 مرات، ثم فتحوها في المرة السابعة.
كان فتح إسطنبول من نصيب السلطان محمد الفاتح. وبعد الفتح جاء السلطان إلى أجمل هيكل في المدينة، ألا وهو آيا صوفيا، وذلك لأداء صلاة الشكر، فترجّل عن حصانه الأبيض ثم دخل الباب مع مرافقيه، وعند دخول المعبد، رأى الناس في الداخل وأمر جنوده بعدم التصرف السيئ تجاه أهل المدينة، وأخبرهم بأنه يمكنهم العودة إلى منازلهم بحرية. وكان السلطان محمد الفاتح منبهرا بجمال المكان، وهو يشاهد المعبد في رهبة عميقة، ثم سجد فيه، ثم صعد بعد ذلك إلى قباب المعبد لمشاهدة المدينة.
وفي يوم الجمعة -اليوم الثالث من الفتح- جاء محمد الفاتح إلى آيا صوفيا وأدى صلاة الجمعة الأولى. وعين محمد شمس الدين بن حمزة -المهندس الروحي لغزو إسطنبول- إماما للمسجد، وألقى الخطبة الأولى نيابة عن الفاتح.
ولم يغير الفاتح اسم آيا صوفيا بعد تحويلها إلى مسجد، لكنه أمر بتجديدها. وقد أسس كثيرا من الجمعيات التي من شأنها توفير الدخل للمسجد، وبنى محرابا ومئذنة ومدرسة للاعتناء به باستمرار، حتى تحول إلى مجمع ضخم مع الإضافات التي أجريت عليه.
لمسات السلاطين.. منشآت وفنون ترسم الهوية الإسلامية
وضعت لمسات الهوية الإسلامية بإضافة 4 مآذن للمسجد، فبعد السلطان الفاتح، أضاف السلطان بايزيد الثاني مئذنة واحدة، وأضاف السلطان سليم الثاني مئذنتين. وفي القرن الـ16، أضاف المهندس المعماري “سنان” دعائم للمبنى لتقويته، وفي الوقت نفسه تستخدم المآذن دعامات للمبنى. فهذا البناء الذي صمد حتى اليوم صمد بفضل هذا المُعلّم العظيم.
وأثناء الفترة العثمانية في القرنين الـ16 والـ17، أضيفت محاريب ومنبر ومقصورات، وأُهديت المصابيح البرونزية الموجودة على جانبي المحراب إلى المسجد من قبل السلطان سليمان القانوني. أما الجرتان الرخاميتان -اللتان تنتميان إلى العصر الهلنستي- الموجودتان على الزاويتين اليمنى واليسرى للمدخل، فقد قدمهما السلطان مراد الثالث، وتستوعب الواحدة نحو 1250 لترا، لتوزيع الأشربة في الأيام الدينية المباركة وصلاة العيد.
ولم تلمس الزخارف الأولى لآيا صوفيا، لكن بعض الأشكال غُطيت بخطوط مدهشة من الفن الإسلامي. وفي عهد محمد باشا صقلي وُضعت مئذنة كبيرة على القبة، فاكتسب المظهر الخارجي لهذا المعبد المذهل هوية إسلامية. وقد جعلت المحفوظات الرخامية والمنبر -التي بناها مراد خان الرابع- المسجد أكثر جمالا.
بين عام 1739-1740، بنى السلطان محمود الأول نافورة ومدرسة ومطبخا ومكتبة ومحرابا جديدا، بالإضافة إلى أن الفسيفساء -التي كانت أجزاؤها العلوية مغطاة بالجص فقط- غُطيت بالكامل أثناء هذه الإصلاحات والإضافات.
وتُعتبر نافورة آيا صوفيا -التي بناها السلطان محمود الأول عام 1740- تحفة من العمارة العثمانية، وهي مُغطاة بقبة نقش اسم الله على الجزء العلوي منها، ونُقش اسم محمد ﷺ معكوسا على الجزء السفلي، وتحتوي على 16 شريحة، وتوجد صنابير برونزية في منتصف كل منها.
يقع المنبر الذي بُني في عهد السلطان مراد الثالث على يمين المحراب، ويعود تاريخه إلى القرن الـ16، ويعتبر أحد أجمل النماذج على صناعة الرخامية آنذاك. وأما محفل السلطان فهو مكان خاص أنشئ ليؤدي فيه السلاطين صلاة الجمعة والعيد بشكل خاص، ويُسمى أيضا المحفل الملكي، وكان السلطان يصل إلى المحفل من خلال رواق مبني خصيصا له، ويتكون المحفل من قطعة سداسية على 5 أعمدة، وممر يرتكز على هذه الأعمدة.
ولـلمحراب منافذ متعددة الأضلاع لها زخارف نجمية الشكل وغطاء نصف مقبب، وقد استُخدم فيه كثير من النجوم الذهبية، وله رأسية مبهرجة. وعلى جانبي المحراب شمعدانات أُحضرت من كنيسة قصر الملك المجري “ماتياس الأول” أثناء الحملة المجرية في عهد السلطان سليمان القانوني. وأكبر عمل واسع النطاق أُنجز أثناء الفترة العثمانية هو الإصلاحات والإضافات الجديدة التي قام بها السلطان عبد المجيد.
وبسبب حالة المسجد المتهالكة، والشقوق المتشكلة في القبة، والأعمدة المنحنية التي كانت على وشك الانهيار، كُلف المهندس السويسري “كاسبار فوساتي” في القرن الـ19 بإصلاح المسجد، ومعظم تكاليف الإصلاح غطاها إرث شيخ الإسلام “مكي زادة مصطفى عاصم أفندي”.
وأما لوحات الخط المستديرة الكبيرة المعلقة على جدران الغرفة الرئيسية فقد كتبها القاضي “عسكر مصطفى عزت أفندي” أثناء الإصلاحات التي أجريت في عهد السلطان العثماني عبد المجيد. ونقشت اللوحة الخطية المستديرة -التي يبلغ قطرها 7.5 أمتار- بنجمة ذهبية على خلفية خضراء.
وهنات 8 لوحات كُتبت عليها اسم الله تعالى، واسم سيدنا محمد ﷺ، وأسماء أبي بكر وعمر وعثمان وعلي، والحسن والحسين حفيدي النبي محمد ﷺ.
مكتبة ومطابخ ومقابر ومراسم تتويج.. قدسية عابرة للحضارات
يضم المسجد أيضا مقبرة النسب الشريف، فهناك ما يقرب من 150 مقبرة، خمس منها تنتمي إلى السلاطين سليم الثاني، ومراد الثالث، ومحمد الثالث، ومصطفى الأول، وإبراهيم. وهناك مطابخ الحساء، وهي مؤسسات أنشئت لتلبية الاحتياجات الغذائية اليومية للفقراء وطلاب المدارس والضيوف. وقد بناها السلطان محمود الأول على الجانب الشمالي الشرقي في عام 1742.
وقد أسس السلطان محمود الأول مكتبة آيا صوفيا داخل المسجد بهندسة معمارية لافتة، وافتُتحت في 21 من أبريل/ نيسان عام 1740 في حفل حضره السلطان، حيث خُتم كتاب “صحيح البخاري”، وأُلقيت الدروس الدينية، وأقيمت الصلاة، وكانت تضم نحو 4 آلاف كتاب.
ولم يزل معبد آيا صوفيا -الواقع عند تقاطع الحضارات- يُحافظ على قدسيته كمعبد كما في اليوم الأول. وانعكاسا للقداسة المنسوبة إليه، كانت مراسم التتويج ومراسم التعميد والطقوس الكبيرة تقام في آيا صوفيا أثناء الفترة البيزنطية، وكان من دواعي امتياز الإمبراطور تعيين مسؤول في آيا صوفيا.
وقد استمرت هذه الاحتفالات خلال فترة الإمبراطورية العثمانية حتى بُني مسجد السلطان أحمد، فأقيمت الاحتفالات الرسمية التي يحضرها مسؤولو الدولة في مسجد آيا صوفيا. وقد اعتاد السلاطين العثمانيون القدوم إلى مسجد آيا صوفيا في الليالي المباركة. ويعرف آيا صوفيا باسم “مسجد القصر”، فقد كان مسرحا لمراسم التتويج، وصلاة الجنازة، وتكريم السلطان ووجهائه، وحتى عند وفاة أحد أفراد الأسرة الحاكمة كانت تقام الصلاة فيه.
والحقيقة هي أن آيا صوفيا استطاع مواصلة وجوده حتى يومنا هذا بفضل العثمانيين، فالمسلمون لديهم نظرة شاملة وحاضنة للعالم. وكتعبير عن هذه النظرة إلى العالم فإنهم يرون الهياكل الدينية في الأراضي التي احتلوها جزءا لا يتجزأ من هويتهم الإسلامية، لا سيما الهياكل الدينية اليهودية التي ترتبط بالنبي موسى، والهياكل الدينية المسيحية التي ترتبط بالنبي عيسى. وقد أُدرج آيا صوفيا في قائمة “اليونسكو” للتراث العالمي في عام 1985.