“مقاييس الرجال”.. عالِم ألماني يثبت نظرية التفوق العرقي خدمةً للمستعمر

يراجع المخرج الألماني “لارس كراومي” التاريخ الاستعماري لبلده من خلال قصة عالِم أجناس بشرية (إثنولوجي) شَهد وسَكت عن المجازر التي ارتكبها الجيش الألماني في مستعمرة جنوب غرب أفريقيا الألمانية (ناميبيا اليوم) خلال الأعوام (1904-1908).
ويعد المؤرخون هذه المجازر أول إبادة جماعية يرتكبها مستعمر أجنبي، مستخدما فيها أكثر الأساليب وحشية، بحجة حرصه على تخليص شعبها من تخلفه المتأصل فيه، وذلك كما يزعم علماء الأجناس في معاهدهم العلمية وجامعاتهم، ويحاولون تأكيدها من خلال تكريسهم لنظريات عنصرية تدعي وجود فوارق طبيعية وبيولوجية بين البيض والسود، وأن العرق الأبيض هو الأكثر تطورا، وبالتالي فإن له كامل الحق في السيطرة والهيمنة.
نظرية التفوق العرقي.. محاولات إثبات نقاش محتدم في برلين
يهتم فيلم “مقاييس الرجال” (Measures of Men) بالعلاقة بين الموقف الأخلاقي للعالِم وبين موضوعه، ويتحرى من خلال قصة عالِم الأجناس الألماني “ألكسندر هوفمان” (الممثل ليونارد شيشر) في الجوانب المتعلقة بموقفه الأخلاقي، وذلك حين يجد نفسه في وضع عليه الاختيار بين المضي مع التيار الذي يجيز اضطهاد شعوب أخرى بدوافع عنصرية وعرقية، أو معاندته له وتحمل تبعات انحيازه للموقف الإنساني الذي لا يجيز التفريق بين البشر على أسس عرقية.
ولتجسيد تلك العلاقة دراميا ينسج السيناريو حكاية تنطلق أحداثها من برلين أواخر القرن التاسع عشر، وبالضبط في الفترة التي كانت تشهد معاهدها العلمية نقاشا محتدما بين علماء الأجناس البشرية، حول نظرية افتراضية تؤكد تخلف الشعوب الأفريقية بيولوجيا وطبيعيا عن الشعوب البيضاء.
لإثبات ذلك يستند مؤيدوها على معطيات تفترض صغر حجم جمجمة الإنسان الأسود مقارنة بالأبيض، وأن دماغ الأبيض أكثر تطورا من الأسود بما لا يُقاس.
معرض المستعمرات.. فرجة على حيوانات الغابة القادمة من أفريقيا
يميل الشاب “هوفمان” مثل والده عالِم الأجناس إلى نظرية تؤمن بتشابه البشر بيولوجيا في كل مكان، ومثله أيضا كان طموحه كبيرا في أن يصبح واحدا من أهم علماء هذا الحقل. وتغلّب المَشاهدُ المنقولة من قاعات البحث الأكاديمي وجهةَ نظر الأستاذ الأكاديمي المشرف عليها “فون فالدشتاتين” (الممثل بيتر سيمونشيك) الذي يشجع طلبته على تبني نظرية التفوق العرقي.
تحدث في تلك الفترة، وفي عام 1896 بالتحديد إقامة معرض برلين للمستعمرات الألمانية، ويتزامن مع حضور وفد من قبيلتي “هيريرو” و”ناما” إلى المدينة، فقد جاؤوا إليها من أجل إيصال شكواهم من سوء أحوالهم إلى الإمبراطور الألماني، ومن أجل إقناعه بالخروج من بلدهم وترك الحكم لأهله.

تظهر المَشاهِد المنقولة من المعرض مدى استهتار المستعمر الألماني بسكان مستعمراته الذين بدوا في العروض المقدمة كأنهم حيوانات غابة، جاء الألمان للتفرج عليها كما يتفرجون على عروض سيرك مسلية.
مترجمة الوفد.. جمال وذكاء يفتنان العالِم الشاب
بدلا من السماح لهم بمقابلة الإمبراطور يستدعى الأستاذ “فالدشتاتين” أعضاء الوفد إلى مقر عمله لقياس حجم رؤوسهم وأجسادهم. من بين من أخذ العالِم الشاب مقاساتهم مترجمة الوفد “كيزيا كامبازيمبي” (الممثلة جيرلي تشارلين جازاما) التي تتمتع بذكاء وجمال لافتين، فينجذب الشاب إليها ويطلب مقابلتها.
وقد كشفت الحوارات التي جرت بينهما باللغة الألمانية عن مستواها التعليمي الجيد، ومعرفتها العميقة بطبيعة العلاقة التي تربط بلدها بالمستعمر الألماني.
ومما زاد اهتمامه بها نتائج قياسات جمجمتها، فقد ظهر أن حجمها لم يكن أقل من المعدلات الأوروبية، وأن مستوى ذكائها لا يقل عن مستوى الإنسان الطبيعي، لذا أحبها العالِم، لكنها من طرفها لم تبادله نفس الشعور، فهي امرأة متزوجة، ثم غادرت مع الوفد إلى بلدها، لكن الشاب بقي متعلقا بها متمنيا مقابلتها ثانية.
انتفاضة القبيلة.. أوامر البطش العسكري والعلمي من برلين
بعد مرور وقت قصير على سفر وفد المستعمرة ونهب ثرواتها، أخذت أخبار الانتفاضة التي أطلقت شرارتها قبيلة هيريرو ضد القوات الألمانية تصل إلى برلين، ومن أجل قمعها أصدرت السلطات الألمانية الأوامر إلى قادة جيوشها بقمعها دون رحمة.

وقد أراد الأستاذ الجامعي استغلال الفرصة، فكلف أحد طلابه المتحمسين لنظرية التفوق العرقي للبيض بمرافقة الحملة لجمع التحف الأثرية والعيّنات المادية، لضمها إلى المتحف التاريخي الألماني، ثم طلب منه أيضا بإلحاح إرسال أكبر عدد ممكن من جماجم قتلاهم إلى برلين، لقياس أحجامها، وذلك لعلمه بما يبيّت له الجيش من خطط جهنمية لإبادة سكان القرى.
يسمع “هوفمان” الحديث الجاري بين الأستاذ وطالبه فيتدخل فيه، ويطلب الانضمام إلى الحملة، أملا في مقابلة المترجمة، وأيضا للتحقق من قناعاته النظرية ميدانيا. بوصولهما إلى مستعمرة جنوب غرب أفريقيا الألمانية وانضمامهما إلى الوحدات العسكرية المهاجمة، تنتقل مسار أحداث فيلم “مقاييس الرجال” إلى مستويات دراماتيكية أوسع، تكشف مَشاهِدُها المصورة بعين مبدعة شديدة الحساسية براعةً إخراجية، تقارب اشتغالا سينمائيا ملحميا يُجسّد ممارسات المستعمر الهمجية ووحشيته.
نهب التحف.. مساومة مع الضابط للاشتراك في الجريمة
أثناء بدء الهجوم على قبيلة هيريرو، تعرض زميل “هوفمان” إلى لدغة ثعبان سام، وبدلا من معالجته قام الضابط المسؤول بخنقه، حتى لا يسمع رجال القرية صوت صراخه من الألم، وبالتالي ينكشف مخطط هجومه الذي أراده مباغتا.
استمر “هوفمان” بالعمل بعد موت زميله، ورغم تهديده للضابط بتقديم شكوى ضده، وقبِل بإكمال مهمة زميله بناء على طلب أستاذه. لكن قبوله بذلك يورطه في جرائم أكبر من جمع التحف والجماجم، ويكشف عن ميول لديه تُقدم مصالحه الشخصية على الموقف الأخلاقي المطلوب منه اتخاذه لكونه إنسانا قبل أن يكون عالِما.
يدخل “هوفمان” القرية متسللا، فيسأل سكانها أولا عن المترجمة، ثم يمضي للبحث عن التحف الأثرية، ويأخذ كل ما تقع عليه عينيه من أغراض، ثم يشرع بالهروب، وحين يكتشف الضابط حركته يساومه بين الصمت على جريمته أو تقديمه كخائن دخل إلى مناطق العدو من دون إذن عسكري. يقبل الشاب بالمساومة ويمضي مع الحملة في مسيرتها المرعبة.

يجسد الفيلم الأساليب التي اتبعها الجيش الألماني لإبادة السكان المحليين، فيصور بدقة كيف قتلوا وأعدموا رجالها أولا، ثم تركوا نساءها وأطفالها يموتون عطشا، بعد أن أغلقوا عنهم كل مصادر المياه، وأما الناجون من الإبادة من بقية القرى، فقد أقاموا لهم معسكرات اعتقال جماعية تركوهم فيها حتى يموتوا من الجوع والعطش.
نبش القبور.. عودة إلى أفريقيا لإثبات النظرية
يتابع الفيلم مسيرة التخاذل والمواقف الانتهازية، فبعد عودته من أفريقيا يكاشف أستاذه بالحقائق العلمية التي توصل إليها، وأنها تؤكد مساواة البشر بيولوجيا، وأن لا فرق في مقاسات جماجم الأفارقة عن الأوروبيين البيض. لكن أستاذه يسخر من استنتاجاته، لأنها تتجاهل حقائق استعمارية تتعمد تغليب نظرية التفوق العرقي، لأنها توفر لهم المسوغات السياسية لاستعمار بقية الشعوب ونهب ثرواتها.
ثم يطلب منه إذا أراد الاستمرار في عمله باحثا في علم الأجناس أن يرجع إلى المنطقة، ويجد أدلة أكثر متانة من تلك التي توصل إليها خلال فترة قصيرة. ولأنه لم يفقد بعد كل ما عنده من قيم، فقد اشترط على أستاذه كتابة الحقائق التي سيتوصل إليها، وأن يعرضها في محاضراته حين يعود إلى برلين.
في العودة الثانية لأفريقيا تحاط تحركاته بحماية مباشرة من الجيش، وهي تكشف لنا جوانب أخرى من السلوك الهمجي للمستعمر الألماني في أفريقيا.

أثناء إخراجه جماجم الموتى من تحت التراب، يطلب منه الضابط تولي أمر قطعها عن هياكلها العظمية بنفسه، ولم يتوقف انحداره عند هذا الحد، بل وصل إلى حد القتل، عندما أردى بسلاحه رجلا أفريقيا هاجم المجموعة، وحاول منع هروبه من المقبرة التي نبش قبورها.
مخيم الإرسالية.. رجال إلى السكك وجماجم إلى المختبرات
يقوده هربه إلى مخيم تديره إرسالية مسيحية ألمانية، يخبره القس المشرف عليه أن المرأة التي يبحث عنها موجودة فيه، وأنها هي نفس الفتاة التي أُجبرت في طفولتها على تعلم اللغة الألمانية في ذات المكان.
أثناء وجوده رأى كيف يدخل الجيش إلى المخيم بحرية، ويأخذ ضباطه ما يحتاجونه من الرجال الأفارقة للعمل في بناء سكك الحديد، ويكتشف أن راعي الإرسالية قد باع للجيش هؤلاء الرجال الذين يموت قسم كبير منهم بسبب التعب، وأن الغرف التي تعمل فيها المترجمة مع بقية نساء تجري فيها عملية سلخ شنيعة لجثث الموتى من الرجال.
يدخل “هوفمان” من دون علمها، ليراها وهي تقشط فروة رأس رجل مات للتو، ويرى إلى جانبها عاملة تنظف الجماجم بالماء الساخن، لتنقل إلى الجامعات والمعاهد العلمية الألمانية لقياسها، والتأكيد بتعمد مقصود على أن أحجامها هي أصغر من أحجام جماجم البيض، وبذلك تتأكد نظريتهم العرقية التي تبيح لهم السيطرة وقتل الشعوب في كل مكان من العالم.
“لقد كتبتها يوم كنت شابا”.. أستاذ جامعي متواطئ مع المستعمر
يصل المسار الأخير للفيلم إلى قاعة دراسية يظهر فيها العالِم “هوفمان” وهو يُحاضر أمام طلبته الألمان عن جوانب من نظرية التفوق العرقي، يشير ضمنا إلى صحتها، وكما كان شابا معترضا عليها يرفع أحد الطلبة سبابته، ويعرض أمامه صفحات من كتاب قديم له دحض فيه تلك النظرية.

يأخذ الأستاذ الكتاب منه ويشرع في تمزيق الصفحات التي ذكرها الطالب، وهو يتمتم بجملة مؤلمة: لقد كتبتها يوم كنت شابا، أي يوم كان عنده ضمير حي، أما اليوم فهو أستاذ بفعل موقفه الأخلاقي المتخاذل الذي يجبره على التوافق مع توجهات مؤسسة علمية، تخدم مصالح السلطات وتسوغ لها ممارساتها الاستعمارية الشنيعة.