“الجحيم المتجمد”.. جليد ومدفعية وتجاذبات تشعل معارك القطب الشمالي

كانت الحرب العالمية الثانية الحرب الأقسى في تاريخ البشرية وأكثر الحروب عنفا، إذ يقدر أنها حصدت أرواح نحو 70 مليون شخص. وقد دارت أقل المعارك شهرة في المنطقة القطبية الشمالية وسط الجليد والثلج والبرد القارس المهدد للحياة، ولا تزال الأبحاث جارية لكشف المزيد عن هذه الأحداث.

وتعتمد سلسلة “حروب لم ترو” التي عرضتها الجزيرة الوثائقية على تحقيقات متطورة وأرشيف يظهر لأول مرة، لتحقق في الدور السري لدول القطب الشمالي في الحرب العالمية الثانية، لتكشف عن أهمية هذه المنطقة المتجمدة في قلب موازين الحرب.

وتتناول هذه الحلقة من السلسلة الحرب التي شنها الاتحاد السوفياتي على فنلندا، وكيف تطورت هذه الحرب التي اعتبرت الفصل الأول من “حرب الشتاء” خلال الحرب العالمية الثانية، وكيف انتقلت من تقدم فنلندي إلى قرب حسم سوفياتي، ثم انتهت بمفاوضات سلام أُجبرت فيها فنلندا على التنازل عن أجزاء من أرضها.

أيام الكساد العظيم.. توتر واضطراب وتصاعد لحركات متطرفة

وُقّعت معاهدة فرساي للسلام عام 1919، أي بعد انتهاء الحرب العالمية الأولى، وكان الهدف منها هو الحيلولة دون اندلاع حروب جديدة، وتمخضت عن تأسيس عصبة الأمم التي تهدف إلى تسوية النزاعات الدولية المحتملة. واعتبرت ألمانيا المسؤول الوحيد عن الحرب، وأجبرت على الامتثال لشروط السلام القاسية التي فرضتها بريطانيا وفرنسا.

يقول المؤرخ البريطاني “جون غليمور”: جرى التفاوض على شروط معاهدة فرساي للسلام بين الأطراف المنتصرة، ولم تكن ألمانيا الخاسرة في الحرب طرفا في المفاوضات، ولهذا أجبرت على تقليص جيشها وقواتها البحرية وتدمير قواتها الجوية.

عدم الاستقرار السياسي في أوروبا أدى إلى ازياد شعبية الحركات المتطرفة مثل الفاشية والنازية والشيوعية

ويرى الأستاذ الجامعي الفنلندي “لاسي لاكسونين” أن الاقتصاد الألماني تعرض لما يسمى حالة “التضخم المفرط”، وربما ازدادت الأسعار 3 أضعاف خلال يوم واحد، ونتيجة لذلك واجه الشعب الألماني معاناة وجوعا شديدين.

وأدى عدم الاستقرار السياسي والكساد العظيم أواخر العشرينيات إلى ازياد شعبية الحركات المتطرفة في أوروبا، مثل الفاشية في إيطاليا، والنازية في ألمانيا، والشيوعية في روسيا، وانتفضت ألمانيا ضد القيود المفروضة عليها، وبدأت بتطوير ترسانتها الحربية.

التفاوض على شروط معاهدة فرساي بين الأطراف المنتصرة واستثناء ألمانيا المهزومة منها

يقول المؤرخ الفنلندي “ميكا كوليو”: بدأت ألمانيا فعليا بتجاهل بنود معاهدة فرساي بعد الحرب العالمية الأولى مباشرة. وعلى سبيل المثال أجروا تجارب على نماذج أولية من طائرة شتوكا، وهي القاذفة الانقضاضية في السويد، وكانت عمليات الغواصات تجري في المياه الإقليمية الفنلندية من خلال شركة هولندية وهمية.

“أدولف هتلر”.. حقبة التوسع النازي والاستحواذ على المناجم

بدأت ألمانيا تستورد المعادن من أجل الصناعات الحربية المتنامية، وأحضرتها من الدول التابعة للإمبراطورية البريطانية مثل كندا، ونقلت الحديد الخام من السويد عبر مينائي “لوليو” و”نارفيك” في النرويج. وشكل النقص المتزايد في خامات المعادن دافعا لألمانيا وغيرها من الدول العظمى للتنافس على امتلاك رواسب معدنية جديدة.

يقول المؤلف السويدي “لارش غيلنهول”: كان الاتحاد السوفياتي أكثر اهتماما من ألمانيا بمنطقة القطب الشمالي، وكلاهما كانا يقومان باكتشافات وتأسيس المزيد من المنشآت في المنطقة، وما جذبهما إليها هو الموارد الطبيعية الموجودة فيها، فهناك المعادن والغابات، كما أنها قريبة من المحيط الأطلسي.

منجم “نيكلزاك” في فنلندا هو الأكبر من نوعه بأوروبا، في مقاطعة “بيتسامو” اليت أصبحت ذات أهمية استراتيجية

وكان الحديد السويدي أكثر الموارد الطبيعية قيمة في القطب الشمالي، وفي أواخر ثلاثينيات القرن العشرين كانت ألمانيا تحصل على نصف ما لديها من الحديد الخام من شمال السويد. كما كان هناك نقص حاد في جميع مستلزمات صناعة تقنيات الحرب الحديثة، وهذا يشمل في المقام الأول المعادن والخامات والمعادن الثمينة. ثم ازداد الاهتمام بالنيكل، لأنه يجعل الفولاذ أكثر استدامة وأشد متانة ضد الحرارة مثلا، وهذا كان عاملا هاما لصناعة المدرعات على سبيل المثال.

وأظهرت دراسات أن منجم “نيكلزاك” في فنلندا هو الأكبر من نوعه بأوروبا، وفجأة أصبحت لمقاطعة “بيتسامو” أهمية في نظر القوى العظمى.

وبعد صعود “أدولف هتلر” إلى السلطة، بدأ بتوسيع الأراضي الألمانية إلى البلدان المجاورة، ولكن الموقف السياسي بين القوى العظمى لم يحتدم إلا حينما طالبت ألمانيا بالسيطرة على إقليم “السوديت” في تشيكوسلوفاكيا، وكانت بريطانيا العظمى وفرنسا أجبرتا تشيكوسلوفاكيا على التنازل عن هذا الإقليم بموجب معاهدة ميونخ.

ولم يضم النازيون 3 ملايين نسمة إلى الحكم الألماني فحسب، ولكن باحتلالهم لإقليم “السوديت” لم يتركوا لتشيكوسلوفاكيا ما يمكنها للدفاع عن نفسها. ويعتبر المؤرخ البريطاني “جون غليمور” أن معاهدة ميونخ كانت التابوت التي دفنت فيه اتفاقية فيرساي ووضعت نهاية لأحكامها.

واحتدم الموقف بشدة، وطال التوتر دول الشمال، لكن تلك البلدان أعلنت وقوفها على الحياد، وعوّلت على “عصبة الأمم” في منع اندلاع الحرب.

تقسيم الكعكة.. اتفاق سري صادم بين الألمان والسوفيات

يقول الباحث الفنلندي في التاريخ “هنريك تالا”: طوال الفترة الممتدة بين الحربين العالميتين، كان من الواضح أنه لم يكن لدى فنلندا سوى تهديد سياسي واحد هو الاتحاد السوفياتي. وبطبيعة الحال التمست فنلندا من “عصبة الأمم” الحماية ضد هذا التهديد.

ويرى أستاذ التاريخ النرويجي “ستيان بونز” أنه عندما رأت النرويج وغيرها من دول الشمال الأوروبي أنه لا تأثير لعقوبات “عصبة الأمم”، بدأت تدريجيا بفقدان الثقة بكون هذه العصبة هي نقطة الارتكاز الوحيدة التي يجب على النرويج وغيرها من دول الشمال الاعتماد عليها فيما يخص سياسات الدول العظمى.

ألمانيا والاتحاد السوفياتي يوقعان في 1939 اتفاقية عدم اعتداء ثنائية الأطراف

وبحلول عام 1939، كان واضحا أن الحرب ستندلع، وكان الاتحاد السوفياتي شديد القلق إزاء حماية حدوده من ألمانيا، وخصوصا في القطب الشمالي ودول البلطيق. يقول الباحث الفنلندي “هنريك تالا”: في أغسطس/ آب 1939، وقّعت ألمانيا والاتحاد السوفياتي اتفاقية عدم اعتداء ثنائية الأطراف، وشكلت الشراكة المفتوحة بين “هتلر” والزعيم السوفياتي “جوزيف ستالين” صدمة سياسية بالنسبة للقوى العظمى.

وربما كان الاتفاق الألماني والسوفياتي أكثر معاهدة أثارت صدمة في التاريخ الأوروبي، لأنها تضمنت بروتوكولا سريا إضافيا، فقد اتفق الطرفان على تحديد مناطق نفوذ سوفياتي وألماني فيما يتعلق بالدول المجاورة. واعتبرت ليتوانيا وجزء من بولندا تابعين لألمانيا، أما مناطق نفوذ “ستالين” فتضمنت بقية بولندا وجزءا من رومانيا وإستونيا ولاتفيا من دول البلطيق، وفنلندا من دول الشمال.

الاتفاق الألماني السوفياتي 1939 حدد مناطق نفوذ كل دولة منهما في أوروبا

ويكشف أستاذ التاريخ الروسي “يوري كيلين” كيف سربت هذه المعلومات، قائلا: كان هناك عميل أمريكي -أو بعبارة أخرى جاسوس- يعمل في السفارة الألمانية بموسكو، سرعان ما أبلغ رؤساءه والرئيس “روزفلت” بأمر توقيع البروتوكول السري إلى جانب الاتفاقية الرسمية، فأصدر “روزفلت” قرارا يقضي بإعلام الفنلنديين بالموضوع، وفي الواقع لم يتضمن البروتوكول أي ذكر مباشر لكون فنلندا تنتمي إلى منطقة النفوذ السوفياتي. ولكن الفنلنديين علموا بوجود تقسيم لمناطق النفوذ.

لم تكن آلة الحرب السوفياتية مستعدة للحرب، وكان الاتحاد السوفياتي بحاجة ماسة لمزيد من الوقت لتشييد مطارات وسكك حديدية جديدة، وكذلك إلى مخزون كاف من العتاد العسكري. وعندما سأل الفنلنديون ألمانيا عن وجود اتفاق كهذا، نفى الألمان ذلك مباشرة.

إعلان الحرب.. لهيب النار يلامس دول الشمال الأوروبي

بعد فترة وجيزة من التوقيع على الاتفاق، غزت ألمانيا بولندا من الغرب، بينما غزاها الاتحاد السوفياتي من الشرق، ونتيجة لهذا أعلنت بريطانيا العظمى وفرنسا الحرب على ألمانيا، الأمر الذي كان إيذانا باندلاع الحرب العالمية الثانية، وسرعان ما اشتعلت ووصل لهيبها إلى القطب الشمالي بسرعة كبيرة.

يقول المؤرخ البريطاني “جون غليمور”: لم يصدق “هتلر” أن بريطانيا ستقطع على نفسها هذا الالتزام بإعلانها، وقد كان مخطئا في هذا الموضوع. وأصبحت بريطانيا وفرنسا في حالة حرب مع ألمانيا النازية والاتحاد السوفياتي، وكانتا بحاجة لكسب بعض الوقت، لذا بحثتا عن طرق لجعلها حربا طويلة الأمد من شأنها أن ترهق ألمانيا اقتصاديا، وتقطع عنها الموارد من غذاء وعتاد.

الاتحاد السوفياتي يغزو بولندا من الشرق وألمانيا تغزوها من الغرب

لم يعد بمقدور ألمانيا استيراد النيكل من دول الكومونولث، مما شكّل صدمة قاسية لـ”هتلر”، لأن صناعة الأسلحة الألمانية تعتمد على استيراد النيكل وشحنه من كندا. وأصبحت فرنسا وبريطانيا على ثقة بأنهما إذا استطاعتا إيقاف إمدادات الحديد الخام الآتية من المناجم السويدية، فلن تصمد القوة القتالية لألمانيا النازية أكثر من 15 شهرا كحد أقصى.

أما الاتحاد السوفياتي فقد سرّع من وتيرة احتلال بلدان في نطاق نفوذه، وأجبر “ستالين” دول البلطيق على القبول بإنشاء قواعد عسكرية روسية في أراضيها، وبعد ذلك توجهت أنظاره نحو فنلندا.

ومع بداية أكتوبر/ تشرين الأول 1939، ورد اتصال من موسكو باستدعاء السفير الفنلندي لديها لإجراء محادثات/ ولكن فنلندا لم تكن مستعدة للاستسلام للاتحاد السوفياتي. وقد قدم السوفيات لفنلندا مجموعة من المطالب الإقليمية وهددوا البلاد بالحرب، إذ كان “ستالين” متخوفا من هجوم ألماني، وأراد حماية لينينغراد، وخاصة سكة الحديد الهامة التي تربطها بمدينة مورمانسك.

ويقول أستاذ التاريخ الروسي “يوري كيلين”: لم تكن لدى الاتحاد السوفياتي سيطرة على بحر البلطيق، ولذا لم يكن بوسعه منع القوات الألمانية من اجتياح فنلندا، ولم تضمن فنلندا تأمين الحماية لسكة الحديد أو للمناطق الشمالية الشرقية من الاتحاد السوفياتي، ولذا كان من الواجب حماية خط السكة الحديد الواصل إلى مورمانسك بأي طريقة ممكنة.

حشد القوات.. تحرك سري وفشل استخباراتي

يقول المؤرخ الفنلندي “ميكا كوليو”: لم توافق فنلندا على الشروط التي وضعها الاتحاد السوفياتي في منتصف شهر نوفمبر/ تشرين الثاني، وأعلن “مولوتوف” وزير الخارجية الروسي تكليف العسكر بالقضية ونقلها من أيدي السياسيين. ويقدر أن نحو 100 ألف شخص غادروا هلسنكي إلى الريف، ولكن الفنلنديين حسبوا أن الحرب لن تندلع، ولهذا عاد أغلب الأشخاص إلى منازلهم خلال نوفمبر/ تشرين الثاني.

الإعلام السوفياتي يدعي أن فنلندا أطلقت نيران مدفعيتها عبر الحدود ليصبح ذلك مبررا كافيا لغزوها

بدأ تمركز القوات قبل استدعاء الممثلين الفنلنديين إلى موسكو في 5 أكتوبر/ تشرين الثاني 1939، فتجمعت القوات سرا، ولم تتمكن المخابرات الفنلندية من اكتشاف وجودها في شبه جزيرة كولا، مما مثل خطأ فادحا جدا، واكتشفت الاستخبارات الفنلندية 4 أو 5 فرق فقط في كاريليا، أي أن تقديراتهم كانت بمقدار النصف.

وحشدت فنلندا سريعا قواتها العسكرية، وأخلت الأهداف المدنية، وكان القائد العام للقوات المسلحة هو المارشال “كارل غوستاف ماكرهايل”. وبدأت الحرب بحملة دعائية شرسة، فادعى الاتحاد السوفياتي أن فنلندا أطلقت نيران مدفعيتها عبر الحدود، حتى وصلت إلى قرية ماينلا، وحينها لم يعد هناك سبيل للعودة إلى حالة السلام.

وفي نفس السياق، يقول المراسل الحربي النرويجي “بال ريفسدال”: عبارة “الحقيقة هي أولى ضحايا الحرب”، كانت حقيقية في الحرب العالمية الثانية، كما كانت في الحرب العالمية الأولى، وفي وقتنا الحاضر، لأن جميع الأطراف سيكذبون، إن لم تسر مجريات الحرب في صالحهم.

بينما يقول المؤرخ الفنلندي “ميكا كوليو”: أظهرت دراسة لاحقة أن نطاق المدفعية الفنلندية في تلك المنطقة لم يكن كافيا لإطلاق تلك القذائف المزعومة، ولهذا يمكننا الآن الجزم أن الأمر -آنذاك- كان افتراء واضحا.

جيش المراسلين.. موسم الهجرة إلى الشمال المشتعل بالحرب

في اليوم الأول من الحرب قُصفت هلسنكي بالقذائف، مما أدى إلى مقتل 91 مدنيا في تلك الغارة. ويكشف الروسي “يوري كيلين” أستاذ التاريخ أنه كان من المفترض أن تحقق الحرب أهدافها خلال 3 أسابيع، ويكون ذلك مع حلول عيد ميلاد “ستالين” الستين في 21 ديسمبر/ كانون الثاني، وتكون فنلندا احتلت بحلول ذلك الوقت، لذا هاجم الجيش السوفياتي فنلندا على امتداد الحدود الشرقية بأكملها، وكان هناك تباين كبير في حجم القوات المتناحرة التي بدأت القتال على امتداد منطقة يزيد طولها عن ألف كيلومتر خلال شتاء كان الأقسى. ولعدم وجود أحداث حربية كبيرة أخرى في أوروبا، توجه آلاف المراسلين الأجانب إلى مناطق القتال.

الفنلنديون يحققون أقصى استفادة من القيمة الدعائية للمعركة من خلال المراسلين الدوليين

وسرعان ما انتشرت أخبار الحرب في أرجاء العالم، وفي الأول من ديسمبر/ كانون الثاني نشرت الصحف في باريس ولندن أن القوات السوفياتية اجتازت الحدود الشرقية لفنلندا، ولم تظهر أي صحيفة بريطانية تفهما لأهداف روسيا في فنلندا، بل صورت روسيا على أنها المعتدية، بينما قدمت فنلندا على أنها الضحية الضعيفة.

وكان الرأي السائد في أوروبا هو أنه ليس لدى فنلندا فرصة تذكر في الصمود لفترة طويلة، وكانت التقارير عن الوضع في فنلندا والتقدم المحرز في مجريات الحرب متوافقة إلى حد كبير مع المعلومات التي يقدمها الفنلنديون لوسائل الإعلام العالمية.

“الجحيم المتجمد”.. معركة ساحقة ولعبة إعلامية ذكية

اعتمد هجوم الجيش الأحمر على عدد كبير من الجنود، بهدف تقسيم فنلندا من المنتصف، عبر شن هجوم سريع على طول شبكة الطرق، لكن في المقابل أتقن الفنلنديون فن حرب العصابات، واستغلوا تضاريس بلادهم بكفاءة.

وساعدت بيئة القطب الشمالي في صد الأعداد الكبيرة من الجنود المهاجمين، وذلك بعدد قليل من الرجال، وكانت الحرب في القطب الشمالي غريبة جدا، وكانت أشبه بقصة من كتب الحكايات، ويمكننا القول إن معارك الأيام الأولى من الحرب دارت في أجواء الثلوج والعواصف الباردة، وكانت تفاصيل بيئة القتال فريدة من نوعها، لذلك كان من الصعب على الأوروبيين فهمها.

جنود روس يموتون في فنلندا من شدة البرد بسبب إرهاقهم وجوعهم وعدم توفر وسائل التدفئة

يتحدث المستكشف الفنلندي “باتريك ديغرمان” عن ظروف الشمال الفنلندي خلال موسم الشتاء قائلا: يسود الظلام خلال فصل الشتاء في شمال فنلندا، في الواقع يكون هناك بعض النور خلال النهار، فتشرق الشمس بضع ساعات فقط، ثم يحل الظلام مرة أخرى لعدة ساعات، وبالتالي كانت فترة الأيام الأولى للمعارك مظلمة جدا.

ويقول المؤرخ الفنلندي “ميكا كوليو”: تعرض الجيش الأحمر لهزيمة نكراء على طول بلدة كوسامو، فلاذ بالفرار عابرا جليد بحيرة “كيانتا غارفي”، ولحق الفنلنديون بإحدى تلك الفرق الهاربة، ونصبوا رشاشاتهم على الشاحنات، وأردوا جنود الجيش الأحمر، وتركوا جثثهم مرمية على الثلج.

ويتحدث المستكشف “باتريك ديغرمان” عن أوضاع الجنود بقوله: كانت الأوضاع مروعة، وكان الجندي يشعر بإرهاق شديد، فيستلقي، وسرعان ما يغط بالنوم ليتجمد جسده بعد فترة. واستمرت درجات الحرارة في الانخفاض، ولم يتوفر الطعام، ولكن الجنود لم يجرؤوا على ترك مخابئهم.

الإبقاء على جثث الجيش الأحمر ملقاة في الشوارع بعد إزالة جثث الفنلنديين أمام الصحفيين والمراسلين

وقد حظيت هذه الأهداف باهتمام كبير في وسائل الإعلام، مما عزز صورة الجيش الأحمر. يقول المؤرخ الفنلندي “ميكا كوليو”: أراد الفنلنديون تحقيق أقصى استفادة من القيمة الدعائية التي اكتسبتها هذه المعركة، فأحضروا مراسلين دوليين بأسرع وقت ممكن إلى ساحة المعركة مستخدمين مصطلح “الجحيم المتجمد”.

وقد وُجهت كذلك انتقادات للحملة الدعائية الفنلندية خلال حرب الشتاء، ذلك أن الفنلنديين اصطحبوا -بالفعل- مراسلي وسائل الإعلام الأجنبية إلى أرض المعارك بعد انتهائها، ولكن بعد إبعاد جثث جميع الجنود الفنلنديين الذين قتلوا في المعركة، ولم يتركوا سوى جثث الجيش الأحمر. ورد في أحد التحاليل في صحيفة “نيويورك تايمز” أنه من المرجح أن يستخلص “هتلر” استنتاجاته الخاصة من فشل الاتحاد السوفياتي في حربه على فنلندا.

جيوش المتطوعين.. جيران فنلندا يحمون سماءها ومستقبلهم

طلبت فنلندا مساعدة دولية بعد اندلاع الحرب مباشرة، فبدأت المساعدات المادية والعينية بالتدفق من بلدان مختلفة، ولكن لم تكن دول الشمال الأخرى مستعدة لإرسال قواتها لمساعدة فنلندا. فلماذا لم تدع السويد والنرويج جارتهما فنلندا؟

يجيب المؤرخ السويدي “لارش غيلنهول” قائلا: كانت السويد دولة محايدة، أي أنه لم يكن بوسعنا كدولة التدخل والاشتراك في القتال ولكننا -في الحقيقة- لم نكن بلدا محايدا، إذ قدمت الحكومة السويدية بعض العتاد، وهو عبارة عن أكثر من 40 مليون طلقة لكافة أنواع الأسلحة الصغيرة، وسُلمت في شهر واحد.

أما أستاذ التاريخ النرويجي “ستيان بونز” فيقول: خلال حرب الشتاء، دار نقاش على أعلى المستويات السياسية في النرويج، حول ما إذا كان لدى الاتحاد السوفياتي أي نيات عدوانية تجاه بلادنا.

أكثر من 8 آلاف متطوع سويدي وألف متطوع دانماركي و800 متطوع نرويجي يساندون فنلندا

كانت الحرب مستعرة في القطب الشمالي على الجبهة الممتدة لمسافة طويلة، مما حشد المزيد من الدعم الدولي لفنلندا خلال ذلك الشتاء، واستقطب البلد أعدادا من المتطوعين.

يقول المؤرخ السويدي “لارش غيلنهول”: تأثر عامة الناس في دول الشمال الأخرى بشدة بالغزو السوفياتي، وكان أغلب المتطوعين القادمين إلى فنلندا هم من هذه الدول، وأكبر القوات عددا كان من السويد، فقد نال الموافقة أكثر من 8 آلاف متطوع سويدي، بالإضافة إلى ألف متطوع دانماركي، و800 متطوع نرويجي، وأظن أن الدافع الرئيسي لهم هو أنهم إن لم يتطوعوا، فسيواجهون قريبا المشكلة نفسها في بلادهم.

كما قدمت طائرات مقاتلة سويدية وطيارون متطوعون إلى فنلندا، فتولوا مسؤولية الدفاع الجوي كجزء من القوات الجوية الفنلندية. وبعد أولى طلعات القوات الجوية السويدية بدأت قوات الجيش الأحمر بقصف بلدة بايالا السويدية على الحدود بين فنلندا والسويد عام 1940.

دعم الحلفاء.. مخاوف وأطماع تتصدى لها دول الشمال

رغم انتصاراتها على أكثر من جبهة، فإن فنلندا كانت في مأزق وترزح تحت ضغط القوات السوفياتية، وبعد أن كرر الفنلنديون طلبهم في الحصول على الدعم الدولي في معركتهم، سرعان ما تقدمت فرنسا وبريطانيا بخطط لإرسال قوات إلى فنلندا.

ويرى المؤرخ البريطاني “جون غليمور” أن رئيس الوزراء الفرنسي “إدوارد دالاديه” بذل كل ما بوسعه لدعم فنلندا في حربها ضد الاتحاد السوفياتي، وكانت لديه خطة تقتضي بتنفيذ إنزال جوي في بلدة “بيتسامو” الفنلندية والانضمام للقوات الفنلندية هناك، قبل شن هجوم مشترك نحو الشرق وسكة مورمانسك الحديدية.

صورة لإحدى مراحل بناء سكة حديد السويد الواصلة بين مدينتي لوليو ونارفيك

كانت المشكلة الحقيقية بالنسبة للفرنسيين هي عدم امتلاكهم الموارد لتنفيذ خطتهم. ولذا كان عليهم بيع الفكرة للبريطانيين كي يستفيدوا من مواردهم، لكن البريطانيين كانوا أكثر إصرارا على غزو بلدة من غزو “بيتسامو”.

ولتنفيذ المهمة كان على “دالاديه” والأدميرال الأول للبحرية البريطانية “ونستون تشرشل” أن ينالا موافقة الدول المجاورة لفنلندا، وسارت الشكوك في أن الهدف الحقيقي للخطة كان الاستيلاء على المناجم في السويد، لذا فإن ستوكهولم وأوسلو أعلنتا بشكل صارم رفضهما العملية، وصرحتا بعدم رغبتهما في تنفيذها، وأنه إن حاول أحدهما فعلها فإنهما ستتصديان له بالقوات المسلحة، بحسب الباحث الفنلندي في التاريخ “هنريك تالا”.

مفاوضات السلام.. ضربة تخيب آمال الفرنسيين والإنجليز

يقول الباحث الفنلندي في التاريخ “هنريك تالا”: كان من المقرر أن تبدأ العملية العسكرية منتصف مارس/ آذار 1940 على أن تكون فنلندا قد تقدمت بالفعل بطلب مساعدة رسمية يفيد برغبتها بتنفيذ مثل هذه العمليات، وارتأت لندن وباريس أن تنفيذ العمليات متوقف على طلب فنلندا للمساعدة بشكل عام ورسمي، ذلك أنه لم يكن بوسع بريطانيا وفرنسا مهاجمة دول محايدة مثل النرويج والسويد.

فنلندا تستجيب للمطالب السوفياتية التي فرضها ستالين، وتخيب آمال بريطانيا وفرنسا

وحين وصلت معلومات عن مثل هذه الخطط إلى مسامع “ستالين” وافق على إجراء مفاوضات سلام مع فنلندا، ولهذا لم تقدم فنلندا طلبا رسميا نهائيا للمساعدة بخصوص إرسال قوات إليها، وبدأت بدلا من ذلك مفاوضات للسلام مع موسكو.

كان “ستالين” على دراية تامة وكاملة بخطط بريطانيا وفرنسا، وصولا إلى الأرقام الدقيقة لتفاصيلها، ولهذا السبب كان لهذه الخطط تأثير حاسم على سعيه الحثيث لمفاوضات السلام مع فنلندا، في وقت كانت حرب الشمال تتجه فيه نحو تحقيق السوفيات للنصر.

وقامت ألمانيا بتشجيع فنلندا على المضي قدما في مفاوضات السلام مع الاتحاد السوفياتي، ولعبت السويد دور الوسيط في المفاوضات، ولمحت إلى قطع المساعدات عن فنلندا إن لم تمتثل لمطالب السوفيات. وفي نهاية المطاف امتثلت فنلندا للمطالب السوفياتية، مخيبة بذلك آمال بريطانيا وفرنسا.

وبعد نهاية حرب الشتاء، كسب الاتحاد السوفياتي السيطرة على الأراضي التي يريدها من سواحل خليج فنلندا والقطب الشمالي وعلى طول خط الحدود، وتركت القوات السوفياتية بلدة بيتسامو التي غزتها في أوائل أيام الحرب، تاركة منجم النيكل للفنلنديين.

“من سيصل أولا؟”.. حادثة تجر النرويج إلى مستنقع الحرب

حل السلام في منطقة القطب الشمالي ولكن لفترة وجيزة فقط، ففي الفترة الأخيرة من حرب الشتاء وقعت حادثة في الساحل النرويجي أعادت دول الشمال إلى مستنقع الحرب العالمية. وتلقت المخابرات البريطانية معلومات بأن ناقلة ألمانية كانت تنقل جنودا أسرى بريطانيين داخل المياه الإقليمية النرويجية.

بريطانيا تحرر 300 سجين بريطاني كانوا على متن ناقلة “ألتمارك” الألمانية

يقول مدير متحف “نارفيك” الحربي النرويجي “أولف آيريك تورغشين”: في 16 فبراير/ شباط 1940 أجبرت ناقلة “ألتمارك” على دخول مضيق “يوسينغ فيورك” أثناء بحثها عن مأوى، لينتهك البريطانيون حياد المياه النرويجية ويدخلوا المضيق ويصعدوا على متن السفينة.

وقد تسبب هذا في خلق معضلة سياسية كبيرة بالنسبة للنرويج، وذلك أن ألمانيا وبريطانيا لم تعودا تريان أن النرويج قادرة على المحافظة على حيادها. وبالنسبة للألمان بدا واضحا أن التركيز من الآن منصب على النرويج وبات السؤال المطروح: من سيصل إلى هناك أولا؟

واكتشف البريطانيون وجود 300 سجين بريطاني على متن تلك السفينة وتمكنوا من تحريرهم، وقد كانت تلك الحادثة تعني جر النرويج إلى الحرب العالمية الثانية.


إعلان