“صلوا للخاطئين”.. عنف مدرسي بمباركة الكنيسة في أيرلندا

كانت الكنسية الكاثوليكية في أيرلندا تلعب دائما دورا محوريا في حياة الناس، وكان تدخلها المباشر في الشأن الاجتماعي -أي في أدق شؤون البشر- قد ترسخ من واقع نص واضح في الدستور الأيرلندي الذي صدر عام 1937. وكثيرا ما كانت لهذا التدخل سلبيات تصل إلى درجة الجرائم. صحيح أن هذا كان في الماضي، لكن آثاره ما زالت قائمة.

فمن المهم دوما فهم ما حدث في الماضي، بغرض فهم الحاضر والعثور على طريقة صحيحة في التعامل معه، لا سيما أنه لا يزال يلقي بثقله بقوة على الحاضر، وهذا تحديدا هو جوهر الفيلم الوثائقي الجديد “صلوا للخاطئين” (Pray for our Sinners) للمخرجة الأيرلندية “سنيد أوشي”، صاحبة الأفلام المقلقة المثيرة للجدل، وأشهرها فيلمها السابق “أم تقدم ابنها للإعدام بالرصاص” (A Mother Brings Her Son to Be Shot) عام 2017.

هذا الفيلم هو أحد الأفلام التي تتجرأ على الاقتراب من “المسكوت عنه”، أي المواضيع التي يفضل الكثيرون -حتى من بين الضحايا- إغفالها، أو تجنب الحديث عنها، خشية رد الفعل، سواء من جانب المجتمع أو المؤسسة الحاكمة أو سلطة الكنيسة. ويخبرنا الفيلم أن ثمة علاقة وثيقة تربط بين المؤسسة السياسية والكنيسة الكاثوليكية في أيرلندا.

ضرب الأطفال.. جرائم مدرسية تحت رعاية قس البلدة

تعود المخرجة إلى بلدتها نافان الواقعة على بعد 50 كم من العاصمة الأيرلندية دبلن، وتتذكر الأجواء التي كانت سائدة هناك، عندما كانت تشب عن الطوق في الثمانينيات ثم في التسعينيات، ثم تعود إلى فترة أبعد، إلى ما كان يحدث في الستينيات والسبعينيات.

فتستدعي إلى الذاكرة من لعبوا دورا مباشرا في حياة البلدة، وأولهم قس البلدة الأب “فاريل”، ففي تلك الحقبة كان الأطفال يضربون في المدارس، وهو عقاب بدني كانت تقره الكنيسة وتحض عليه، وكانت النساء الحوامل من دون زواج يعزلن داخل ملاجئ تابعة للكنيسة، حيث يتعرضن للإهانة والتحقير على أيدي الراهبات، ويرغمن على القيام بأعمال متدنية في نوع من التعذيب، وتعرف هذه الملاجئ باسم “ملاجئ ماغدالينا”.

تمزج المخرجة في فيلمها بين الجانب الشخصي والموضوعي، بين ذكرياتها الشخصية وذكريات عدد من الشخصيات التي تنتمي إلى ذلك الماضي، من نساء كن في مقتبل العمر عندما مررن بتلك التجربة القاسية، وتتوقف أمام حالة امرأتين هما “بيتي” و”إثنا”، وكذلك أمام “نورمان” وهو أحد الأطفال الذين مروا بتجربة الضرب والاعتداء الجسدي في المدرسة بمباركة القس.

“ماري راندال”.. طبيبة تتحدى سلطة الكنيسة

وتظل الشخصية المحورية في الفيلم هي شخصية الطبيبة “ماري راندال”، وتعود مع مخرجة الفيلم إلى المنزل القديم الذي هجرته بعد وفاة زوجها، لتروي أن الطابق العلوي كان مقرا لعيادة زوجها الدكتور “باتريك راندال”، أما الطابق السفلي فقد أصبح مع تطور الأحداث مكانا لإيواء النساء الحوامل من دون زواج، حمايةً لهن من بطش الكنيسة.

وسنعرف أن الطفل “نورمان” قد تعرض للضرب الشديد في المدرسة، مما أدى إلى حدوث شرخ في يده اليمنى، فصحبته أمه إلى الدكتور “راندال”، لكي تطلب منه شهادة طبية وتوصية للمدرس بأن يضرب “نورمان” على يده اليسرى السليمة لا اليد المصابة.

الدكتورة ماري راندال التي تصدت مع زوجها لتجاوزات الكنيسة

هذا كل شيء، فالخوف كان يسيطر على الجميع، ولم يكن أحد يستطيع الاعتراض على سياسة العقاب البدني التي تباركها الكنيسة، لكن الطبيب “راندال” ينتفض ويقرر التصدي لما يحدث من تجاوزات خطيرة بحق الأطفال، ويذهب إلى المدرسة ويبدي اعتراضه الشديد على العقاب البدني، بيد أنه يقابل باستخفاف من جانب المدرس، ثم من جانب القس المشرف على المدرسة.

عائلة الطبيب.. صرخة في وجه الكنيسة تصل إلى لندن

يقرر د. “باتريك راندال” التوجه إلى الصحافة والتليفزيون، لكن هذه الوسائل في أيرلندا لم تكن تسمح بتحدي النظام السائد (منظومة التعليم مثلا)، وكان الأهالي في ذلك الوقت أيضا يخشون التعبير عن مشاعرهم أو إبداء أي نقد أو اعتراض على ما كانت الكنيسة تصوره باعتباره خضوعا لوسوسة الشيطان، ومخالفة صريحة لتعاليم السيد المسيح.

يضطر الطبيب للتوجه إلى الصحافة والتليفزيون في لندن، فترحب بنشر التفاصيل وإثارة القضية، وحينها يعاقب “نورمان” ويطرد من المدرسة ويحرم من التعليم، مما يرغمه على البحث عن عمل، فيعمل في أعمال دنيا وينتهي عاملا في ورشة، ويفقد فرصته في الحصول على قسط من التعليم الحقيقي الذي يؤهله ليتبوأ مكانة أفضل في المجتمع.

تقرير صحفي عن العقاب البدني في المدارس الأيرلندية

ومن جهة أخرى، يتجمع عدد من رجال البلدة يتقدمهم القس عند الجسر الذي يربط الطريق الرئيسي بالبلدة، ينتظرون أن تمر شاحنة تنقل الصحف التي تنشر تفاصيل ما يحدث في المدارس من عقاب جسدي في عموم أيرلندا، ويقطعون الطريق عليها ويستولون على نسخ الصحف ويلقون بها في النهر حتى لا تصل إلى عموم الناس.

ويتطور الأمر فتفتح د. ماري منزلها لإيواء النساء المطاردات من قبل الكنيسة بأطفالهن غير الشرعيين، ومن بين هؤلاء النسوة “إثنا” التي تروي أن استخدام وسائل منع الحمل كان محظورا بقرار الكنيسة في ذلك الوقت، وأنها كانت في عامها التاسع عشر عندما حملت وأنجبت طفلتها “لوسي”، بعد أن رفضت الذهاب إلى ملجأ النساء الحوامل. ولكن بعد ولادتها للطفلة بأيام قليلة أخذوها منها، ووضعوها في ملجأ في مدينة دبلن، حيث عرضت هناك للتبني، وخاض د. “راندال” مع زوجته “ماري” كفاحا مريرا من أجل استعادتها.

كنوز الأرشيف.. صور وبرامج وصحف تصنع المصداقية

نستمع إلى هذه التفاصيل كلها بينما نشاهد كثيرا من المقاطع المصورة والصور الثابتة وأوراق الصحف ومقاطع من برامج التليفزيون تعود إلى تلك الفترة، كلها من الأرشيف.

وهو ما اقتضى من المخرجة وفريق فيلمها القيام بالأبحاث الشاقة، إلى أن عثروا على تلك المواد المدهشة التي تضفي على الفيلم مصداقية وتغني عن التعليق الصوتي الذي يستخدم في الفيلم بحرص شديد من جانب المخرجة، لتأكيد الطابع الشخصي أو الرؤية الشخصية على فيلمها، بوصفها من المنتمين إلى المنطقة بتقاليدها وماضيها.

ومن جهة أخرى تحتفظ “ماري” -كما يظهر في الفيلم- بكثير من صحف الفترة، ويحتفظ “نورمان” بمذكرات تفصيلية بدأ تدوينها منذ أن كان في العشرين من عمره، توثق بالتواريخ كل ما تعرض له.

ومن بين الوثائق التي يتضمنها الفيلم لقطات للتدريبات الرياضية لأطفال المدارس، ولقطت أخرى لفتيات الكنيسة أي لبنات الأمهات (الخاطئات) اللاتي انتزعتهن الكنيسة قسرا من أمهاتهن وكانت تعرضهن للتبني.

“نورمان”.. ذكريات مطموسة من حقبة سوداء

يقف “نورمان” أمام مبنى مدرسته القديمة التي يحمل عنها ذكريات سيئة، ويقول في غضب إنه فشل في الحصول على أي وثيقة تثبت أي شيء له صلة بعلاقته بالمدرسة، فحتى الوثائق التي تتعلق بالميلاد غائبة.

تتقاطع قصص الشخصيات المختلفة التي نراها في الفيلم مع لقطات كثيرة وثائقية، وينتقل فيما بينها بسلاسة ورقّة، من دون أن نفقد القدرة على المتابعة. كما تتميز الحوارات بين المخرجة وشخصيات فيلمها بالحرارة والبساطة والدفء. ولا شك أنها نجحت في إقامة علاقة إنسانية ودية معها، واكتسبت بالتالي ثقة الجميع، وأقنعتهم بالحديث عما ظل طويلا من المسكوت عنه، وكان كثيرون يخشون فتحه من جديد.

مخرجة الفيلم سنيد أوشي

ويروي “نورمان” للمخرجة أن 17 شخصا من أقارب أمه قضوا نحبهم جراء وباء الأنفلونزا الإسبانية، وأن الفقر كان منتشرا، ولم يكن مسموحا له بالجلوس بجوار المدفأة.

وفي أحد المشاهد تصحبه المخرجة إلى المنزل القديم الذي ولد ونشأ فيه، وعلى الجهة الأخرى من الشارع يهبط رجل من سيارة يحييه، فيتعرف فيه على صديق قديم من ذلك الزمان، فيقف الرجل أمام منزله ويشير قائلا لـ”نورمان”: كنا نعيش هنا، 17 شخصا داخل هذا المنزل. فيجيبه “نورمان”: أما نحن فكنا 12 فردا فقط.

ملاجئ الإهمال.. عقاب الأطفال على خطايا الأمهات

تزور المخرجة أحد الملاجئ التي كان يقيم فيها الأطفال، ونعلم أنه في بعض الملاجئ كان يموت كثير من الأطفال بسبب سوء الرعاية وغياب الاهتمام، لندرة المتقدمين لتبني هؤلاء الأطفال.

كما يشير الفيلم إلى وجود إهمال متعمد نتيجة النظرة الأخلاقية إلى “أطفال الخطيئة” من جانب الراهبات المشرفات على الملجأ، وأن تركهم يموتون كان أيضا نوعا من العقاب للأمهات. ويقول الفيلم إن جثث الأطفال الموتى دُفنت تحت أرض الملاجئ والأديرة، لكن لم يفتح أحد تحقيقا في الموضوع حتى اليوم.

الفتيات والتربية الكاثوليكية في المدارس التابعة لسيطرة الكنيسة

وتروي “بيتي” قصتها بتأثر شديد لا تستطيع معه مقاومة البكاء بين آونة وأخرى، فتقول إنها كانت ابنة 18 أو 19 عاما عندما أصبحا حاملا، ولجأت أثناء الحمل إلى الدكتورة “ماري راندال”.

وبعد الولادة ذهبت طواعية إلى القس الأب “فاريل” تطلب معاونته، فأخذها في سيارته إلى بلدة تبعد ساعتين، حيث أودعها مع ابنتها ملجأ تابعا للكنيسة نرى صورا له. وتقول إنه لم يكن مسموحا للأمهات بإرضاع أبنائهن بأنفسهن حتى لا ينشأ أي تقارب أو صلة حقيقية تربط بين الأم والطفل.

أصحبت “إثنا” الآن امرأة متقدمة في العمر، وتقيم في مزرعة لتربية الأبقار مع الرجل الذي تزوجته، ولكنها ما زالت تحمل ندوبا من الماضي الأليم، حينما كان كل شيء محظورا على المرأة، وكانت وظيفة النساء -كما تقول د. “ماري”- هي إنجاب الأطفال فقط، أما الذكور فكان مسموحا لهم بكل شيء.

“أندي فاريل”.. خدمات جليلة وشخصية متزمتة

نطلع على كل هذه المعلومات مدعومة بالصور واللقطات الوثائقية من تلك الفترة، بما في ذلك التجمعات الدينية (الصلوات الجماعية) في ساحة البلدة أو في الحديقة الشاسعة التابعة للكنيسة، وهنا تبرز شخصية القس الأب “أندي فاريل” الذي يصفه أحد المدافعين عنه في الفيلم بأنه كان يتمتع بجاذبية خاصة، وكان رجلا طيبا قدم خدمات جليلة للبلدة، منها إنشاء مصرف للإقراض ومساعدة الفقراء، وغير ذلك. ويصفه آخر بأنه كان وسيما ونشيطا، شبيها في مظهره بـ”جون كنيدي”.

ونحن نراه في مقطع وثائقي، يلقي خطبة حماسية يتحدث خلالها عن الكاثوليكية، بوصفها مذهبا دينيا “اشتراكيا” يعمل من أجل نصرة الفقراء، وهو ما يعكس موقفا تقدميا فيما يتعلق بالشأن الاجتماعي العام، لكنه كان كاثوليكيا متزمتا فيما يتعلق بالنظر إلى المرأة أو إلى العلاقة بين الرجل والمرأة، وكان من المدافعين بشدة عن استمرار العقاب البدني في المدارس.

التساند النسائي رغبة في تجاوز الماضي

وتروي “ماري” أنه كان يزورها وزوجها في منزلهما، لكن الدكتور “راندال” أبدى ذات مرة -بعد أن تفاقمت الأمور- اعتراضه الشديد على العقاب البدني، الأمر الذي أثار غضب القس، فغادر المنزل ولم يعد للزيارة قط.

وتعلق بقولها إن انتقاد الكنيسة في ذلك الوقت كان أمرا غير معتاد. ولكن “ماري” الشجاعة وزوجها جمعا عشرين طفلا وطفلة من أطفال المدارس في منزلهما، وجاءت كاميرات التليفزيون البريطاني وصورت شهادات مباشرة منهم عما تعرضوا له من ضرب. ونحن نرى من خلال لقطات الأرشيف عددا من تلك الشهادات المباشرة التي يرويها الأطفال.

ندوب الماضي.. شواهد التاريخ المسكوت عنه في أيرلندا

توقف العقاب البدني في مدارس أيرلندا عام 1982، وهو ما تحقق بعد نضال طويل وشاق، وبعد التحاق أيرلندا بعضوية الاتحاد الأوروبي، تحققت أشياء أخرى كثيرة في مجال الحريات العامة، لكن الآثار ما زالت باقية.

ولعل من أشهر الأفلام الروائية التي ظهرت عن موضوع فصل الأبناء عن الأمهات فيلم “فيلومينا” (Philomena) للمخرج الأيرلندي “ستيفن فريرز” (2013)، ويصور مأساة أم أنجبت ابنها “أنتوني” من علاقة غير شرعية، ثم ألحقت بأحد ملاجئ الكنيسة، وانتزعت الراهبات منها ابنها، وأرسلوه إلى أمريكا وعرض هناك للتبني، فتعود بعد 50 عاما من هذا الحدث، للبحث عن ابنها، أولا في أديرة أيرلندا دون جدوى، ثم في أمريكا.

الكنيسة ما زالت تهيمن على 91% من المدارس في أيرلندا

ينتهي فيلم “صلوا للخاطئين” بمعلومات تظهر على الشاشة تفيد بأن الكنيسة الكاثوليكية ما زالت تشرف على 91% من المدارس في أيرلندا، وأن 9 آلاف طفل ماتوا في ملاجئ الكنيسة، بينما لم يعرف مصير آلاف آخرين حتى اليوم، وأن الأمم المتحدة طالبت الحكومة الأيرلندية بفتح تحقيق في موضوع التبني غير القانوني الذي كان يقع بمعرفة الكنيسة، أي بعد انتزاع الأطفال من أمهاتهم.

كما طالب تقريرٌ مستقل صدر في 2022، الحكومةَ الأيرلندية بإنشاء لجنة للعدالة الانتقالية، للكشف عما حدث من تجاوزات في القرن العشرين.


إعلان