“عودة مشتاق”.. ذكريات السكان الفرنسيين في فلسطين قبل الاحتلال
يافا هي عروس البحر المتوسط، وتقع على ساحله الشرقي، وكانت حاضرةَ فلسطين وميناءها الرئيسي في نهايات القرن الـ19 وبداية القرن الـ20، أي في أواخر حكم الإمبراطورية العثمانية وخلال فترة الانتداب البريطاني على فلسطين، وكانت القلب الاقتصادي والثقافي النابض للمنطقة، ومهوى أفئدة العرب والأجانب من مختلف أنحاء القارة الأوروبية على السواء.
وضمن سلسلة عالم الجزيرة، عرضت قناة الجزيرة الوثائقية على شاشتها فيلما شائقا بعنوان “عَوْدةُ مشتاق”؛ يسجل شهادات بعض الفرنسيين الذي عاشوا في يافا وعلى أرض فلسطين، قبل أن تجتاحها عصابات الصهاينة، وتُغيِّر ملامحَها العربية الفلسطينية، وتطردَ منها أهلها. ونحن هنا نسجل هذه المذكرات كما وردت على ألسنة أصحابها.
“وُلد أبي في يافا”.. ذكريات فرنسية على أرض فلسطين
كتب الدكتور “باتريس بورو” من بيت لحم إلى والدته في فرنسا، يوم الثلاثاء 13 أكتوبر/تشرين أول 1928: أمي العزيزة، لقد وصلتُ أخيرا، فبعد مُكثنا أسبوعا في الإسكندرية، شعرتُ بالضجر، ثم وصلنا إلى يافا يوم الأحد في التاسعة ليلا، ولم أستطع مغادرة السفينة إلا في صباح اليوم التالي، فمرفأ يافا بدائي للغاية، لذا اضطررنا لاستخدام القارب لنقلنا من السفينة إلى اليابسة، لكن الأمتعة وصلت الجمارك بحالة جيدة، وقد تحفَّظ الضباط الإنجليز على بندقيتي، لحين استصدار ترخيص حيازة سلاح ناري.
وُلد أبي في يافا بفلسطين، وقد عاش والده وجده هناك أيضا، وكنا نتنقل بحريّة في كل فلسطين حتى عام 1948
وقد انتقلتُ من يافا إلى بيت لحم بسيارة، وكلّفني ذلك جنيها واحدا، وعندما وصلت استقبلني الناس بحرارة، وأوصلني المشرف إلى مكان سكني، بيت جميل وواسع، نوافذه كبيرة ذات إطلالة طبيعية خلّابة، وأرضيته مكسوّة ببلاط كبير. مع خالص محبتي، باتريس.
تقول “جاكلين” ابنة الدكتور “باتريس”: قبل أن يقيم في يافا، كان والدي جرّاحا في بيت لحم، وعاش فيها بين 1928-1930.
وتتحدث “سوزان بوست”، وهي من أصدقاء “باتريس”، فتقول: وُلد أبي في يافا بفلسطين، وقد عاش والده وجده هناك أيضا، ودرس في مدرسة “أُخُوَّة اليسوعية” في يافا، وكذلك أخواته، وبعضهن وُلدن في فلسطين إبان الحكم العثماني، فقد عاش أربعة أجيال من أسرتي في فلسطين، وقد أقنع أبي والدَه أن يأتي إلى فلسطين كذلك، واشتغلا في بناء الأديرة، فأكثر الأديرة في فلسطين بناها أبي وجدّي.
ويسرد “لوسيان شامبونوا” -وهو صديق “باتريس”- بعض الذكريات قائلا: كنا نتنقل بحريّة في كل فلسطين حتى عام 1948، نزور الناصرة وبحيرة طبريا، ونستمتع بشواطئ يافا، ونذهب إلى الصحراء شرقيّ نهر الأردن.
ويكتب “باتريس” إلى والدته: الخميس 28 فبراير/ شباط 1929، ذهبت إلى القدس اليوم، وكان الجو مشمسا والسماء صافية، وقد دُعيَ جميع الفرنسيين للترحيب بالقنصل الجديد “دومال”.
وتقول “سابين نوفيل”، وهي من مواليد القدس: كان اسم القنصل العام “جاك دومال”، وعمّي هو من بنى قنصلية القدس، فقد عاش والدي في فلسطين، وكان نائب القنصل من 1922 حتى 1936، ثم عاد إليها قنصلا عاما في 1946. وأنا ولدتُ في القدس، وكذلك معظم إخوتي، وكان والدي مرتبطا بفلسطين، فقد عاش فيها 20 عاما، وتزوج في كنيسة القديسة “آنّا”، وكانت وصيته أن يدفن في القدس.
صدام العرب واليهود.. بداية الكفاح ضد المشروع الصهيوني
يتحدث “باتريس” عن مناوشات الفلسطينيين واليهود قائلا: الخميس 7 مارس/ آذار 1929، ذهبنا في رحلة إلى عدة قرى مع راهبتين، وكانت رحلة ممتعة مليئة بالمرح، ولكن منذ رسالتي الماضية حدثت اضطرابات بين الفلسطينيين واليهود، ولم تكن خطيرة بالنسبة لنا، وقد بدأت في القدس بعد صلاة الجمعة، واجتاحت عدة مستعمرات يهودية، لكن الإنجليز أعادوا الهدوء بوسائل عنيفة.
وقد ورد الحديث عن هذه المناوشات في رسالة من القنصل العام الفرنسي في القدس إلى وزارة الخارجية، قال فيها: ستكون للاضطرابات التي حدثت هنا في فلسطين تداعيات خطيرة، ويمكن إرجاع الصراع بين العرب واليهود إلى أزمان سابقة، وهو يكمن في الصهيونية ذاتها، وفي الوعد الذي قطعته وزارة الخارجية البريطانية بإقامة وطن قومي لليهود في فلسطين، مما يعني أن صاحب الأرض يقاتل ضد مهاجرين يهددون بسلب أرضه. وبينما كانت الصهيونية تتطور، شعر العرب بأنهم مهدَّدون، وشعر الفلاح البسيط أن اليهودي المهاجر هو العدو الحقيقي الذي سيسلبه أرضه.
“باتريس بورو”.. طبيب وُلد بين يديه كثير من أهل يافا
تتحدث “جاكلين” عن والدها قائلة: كان والدي “باتريس بورو” الطبيب الأول بمستشفى يافا، والمسؤول الأول بوحدة الجراحة. وكان المستشفى كبيرا وبه نحو 100 سرير، وكان الزبائن عربا من فلسطين ويافا والمناطق المجاورة، وأنا وُلدت في ذلك المستشفى في أكتوبر/ تشرين الأول 1933، وستة من أشقائي ولدوا في يافا كذلك.
سكنّا في حي العجمي الكبير، وكانت تحيطنا أشجار البرتقال، رمز يافا
وتقول أختها “ماري”: كان والدي مشهورا في يافا، فقد وُلِد عدد كبير من الناس على يديه، وقد أثّرت حياتنا في فلسطين فينا بقوة، وهي جزء أساسي منا، فأنا أتذكر الموسيقى العربية التي جعلت طفولتي جميلة. ومن شرفة منزلنا كنت أستطيع رؤية بضعة منازل قديمة، وعلى بُعد عشرات الأمتار كنت أستطيع رؤية البحر.
وتحكي “سوزان بوست” عن يافا وعرب فلسطين قائلة: كان آل “بورو” أفضل أصدقائنا، وكنا نشاركهم النزهات لأماكن مختلفة، ونذهب إلى دير اللطرون، وكانت يافا الميناء الرئيسي لفلسطين، وكانت مدينة كبيرة، ولم تكن تل أبيب سوى شارعٍ فيها.
وتتحدث عن الحياة الثقافية والأدبية بقولها: كنا نستمتع بالحفلات التنكرية، وكانت هنالك صالونات ثقافية، ولطالما كانوا يقولون عن الفلسطينيين إنهم بدائيون متوحشون، ولكنهم ليسوا كذلك، بل كان لهم أدبهم وثقافتهم، يتحدثون الفرنسية والإنجليزية بطلاقة، ويشاركون في الصالونات الأدبية، وكنتُ مشاركة في النادي الإنجليزي، وكنت صديقة لابنة المندوب السامي الإنجليزي.
“عشنا حياة الملوك”.. ذكريات دافئة في مدينة المآذن والبرتقال
يحتفظ “جيل بورو” بذكريات رائعة عن فلسطين، فيقول: ولدتُ في يافا، على الجانب الشرقي للمتوسط في فلسطين، وتحتفظ ذاكرتي بطفولة سعيدة، فقد عشنا- نحن أبناء الدكتور “باتريس”- حياة الملوك تقريبا، فكنا نستمتع بالضياء ودفء الشمس طوال تسعة شهور في السنة تقريبا. وفي 1930 لم تكن تل أبيب سوى حيّ من بضعة منازل، لكنها توسّعت بسرعة، وكانت يافا هي المركز الإداري للبلدية، لا تل أبيب.
يكتب “باتريس” إلى أمه: أمي العزيزة، ذهبنا كثيرا في رحلات سباحة إلى الشاطئ الطويل جنوب يافا، وهو يمتد إلى غزة، وقد استمتعنا هذا الأسبوع بوصول “شامبينوا”، وقد غادر مساء إلى بيت لحم ليقوم بمهامه الجديدة. ثم ذهبنا الأحد الماضي في أول رحلة صيدٍ إلى منطقة أبو غوش في القدس، واصطحبنا معنا “شامبينوا” مع ضابط إنجليزي أعاره بندقية، والتقطنا مجموعة من الصور آمل أن تكون جميلة.
ويقول “لوسيان شامبونوا” عن طفولته: ولدت في بيت لحم، وقد تلقى والدي من زميله الدكتور “بورو” أن شاغرا سيتوفر في بيت لحم، فعمل هناك من 1931 إلى 1952، وعشت طفولتي وشبابي في هذه البيئة العربية الفلسطينية، وقادني هذا إلى المشاركة في مسابقة الشرق في وزارة الخارجية الفرنسية، فأصبحت المستشار الأول للسفارة الفرنسية لدى الفاتيكان.
ثم يقول: هنالك خيط دقيق يصل بين طفولتي في بيت لحم وخياراتي المهنية عندما كبرت، ولديّ أنا ووالدي وإخوتي ذكريات مفعمة بالسعادة والمرح عن هذه الأرض الجميلة ذات الطبيعة المتنوعة والمناظر الريفية الخلابة، فقد أحببنا هذه البيئة الفلسطينية بلا شك، وهذا الشعور الرائع بالحرية.
تصف “جاكلين” و”ماري” و”سوزان” مكان سكنهم بالقول: في يافا، سكنّا في حي العجمي الكبير، وتحديدا على تلّة العرقتنجي، في شقةٍ نموذجية، وتُجاوِرُنا عائلة الغرغور الفلسطينية في الشقة المقابلة، وكان لهم ابن يدعى توفيق على ما أظن، وكانت تحتنا عائلة طالاماس، وفي المقابل منزل عائلة بيروتي. كانت تحيط بنا أشجار البرتقال، رمز يافا، فقد زرعتها الراهباتُ حول الأديرة، وكانت مصدر سعادتنا في نزهات الآحاد.
وكان منزلنا يسمى الطيّانة، وهو لعائلة فلسطينية كبيرة، أحببت هذا المنزل الفلسطيني النموذجي، فهو مبنيّ على أقواس وله شرفة واسعة بحجم شقة، وكانت توجد كنيستان في يافا؛ كنيسة القديس بيير، والقديس أنطون، وأبنية بروتستانتية، وهنالك عدد من المآذن، واحدةٌ منها أراها من نافذة غرفتي، كنت أحب صوت المؤذن، وأستمتع بوجودي بين هذا الخليط من الناس.
احتجاجات العرب.. مظاهرات لإخماد شرارة الاحتلال الصهيوني
يكتب “باتريس” إلى والدته: خرجنا إلى غداء في منزل عائلة “روك” في عيد الميلاد، وإلى حفلةٍ تنكرية في فندق الملك داود بالقدس ليلة رأس السنة، كان الجو باردا والثلوج تتساقط على تلال القدس، ونحن جميعا نبعث إليك محبتنا، فلربما فكَّرتِ بنا بعدما قرأتِ في الصحف عن الاضطرابات هنا، لقد بقي حيُّنا هادئا.
ويقول: حدث كل الصخب في ساحة الساعة الكبيرة والشوارع المحيطة، ولقد سُدَّت الشوارع بالأسلاك الشائكة، وخرج المتظاهرون في كل يافا وحاول الإنجليز إيقافهم، ثم أطلقوا عليهم النار بعد أن هوجموا بالحجارة والزجاجات، وأنا أمضيت يوما كاملا في المستشفى أعالج المصابين وأجري عمليات جراحية، وقد عاد الهدوء الآن.
وقد جاء في خطاب من القنصل الفرنسي لوزارة الخارجية: كانت هنالك اضطرابات مستمرة في يافا بين العرب واليهود، وامتدت إلى عموم فلسطين، فالعرب لم يكونوا سعداء وهم يرون اليهود يسرقون أرضهم لإنشاء دولتهم التي وعدهم بها الإنجليز، لقد حاول العرب محاربة خطط الإنجليز واليهود منذ ما قبل 1922.
وقد احتجت اللجنة التنفيذية للعرب الفلسطينيين -مسلمين ومسيحيين- على خطاب ألقاه السيد “تشرشل” في 14 يونيو/ حزيران 1921، أكد فيه على ضرورة إبقاء حامية بريطانية في فلسطين، لإرغام السكان على قبول السياسة الصهيونية الحالية، وهم يرون أرضهم تتحول تدريجيا إلى دولة صهيونية.
الإضراب العام.. ثورة على السياسات البريطانية
توالت الخطابات التي تَنقلُ للخارجية الفرنسية الأوضاعَ في فلسطين مع تزايد أعداد المهاجرين اليهود، والسياسة القمعية التي تنتهجها سلطات الانتداب البريطاني ضد العرب، ومنها اعتقال قادة المظاهرات والإضرابات التي وصلت ذروتها في 1936.
وقد أبلغت اللجنة التنفيذية للعرب الفلسطينيين المفوضَ السامي البريطاني أن الأمة العربية لن تقبل بأن يؤسس اليهود وطنا قوميا في فلسطين، وأنها أعلنت إضرابا عاما لن تكسره إلا أن تغيّر بريطانيا سياستها وتوقف هجرة اليهود.
وتحدثت “دينيس” و”روزماري زيمرمان” قائلتين: وصلنا إلى القدس في 1938، ونظمنا استقبالا كبيرا لـ”ديغول” في فندق الملك داود، وطلب “ديغول” من والدي الحضور، وكلّفه ليكون ممثلا لفرنسا الحرة في القدس، وقُدّم للمفوض السامي البريطاني، وعملا معا فترةً. وكان “ديغول” أتى إلى القدس ليتفقد قوات فرنسا الحرّة في فلسطين، وزار معسكرا قرب اللد، وتفقد المستشفيات الفرنسية في يافا والقدس وبيت لحم.
تفجير فندق داود.. الصهاينة يُحرِجون رُعاتِهم
يتحدث “لوسيان شامبينوا” عن تفجير فندق الملك داود قائلا: في 1946 كانت بوادر الاضطرابات واضحة، وبالكاد نجوت وإخوتي من هجوم دمّر جناحا من فندق الملك داود، فقد اعتادت والدتي أخذنا إلى الحلاق في هذا الفندق، وما أنقذنا أن أمي كانت في عجلة من أمرها في ذلك اليوم، فلم تتوقف عند دكّان الحلّاق، وقررت أن تعود بنا إلى بيت لحم، وما هي إلا خطوات من الفندق حتى سمعنا الانفجار. وكان لهذا الانفجار دويٌّ كبير على المستوى الدولي، وشكلت طروحات تقسيم فلسطين بدايات الاضطرابات الحقيقية وحرب 1948.
تتحدث “سابين نوفيل” عن قرار التقسيم قائلة: عندما صادقت الأمم المتحدة على قرار تقسيم فلسطين في 1947 رفضها الفلسطينيون، وفضلوا أن يقاتلوا ضد الصهيونية في تلك المرحلة. وأدان الاتحاد المسيحي بشدة خطة تقسيم فلسطين، إذ تُعد انتهاكا لقدسية هذه الأرض المقدسة، واغتصابا للحقوق الطبيعية للعرب، ووقف تجمُّع العرب المسيحيين بجميع طوائفهم بجانب أشقائهم المسلمين، لمقاومة اغتصاب حقوقهم والتعدي على أراضيهم، ودعا جميعَ أصحاب النفوذ والسلطة لبذل قصارى جهدهم لاستعدادة السلام في الأرض المقدسة.
“أُفرغت يافا من العرب عن بكرة أبيها خلال أيام”
يتذكر “جيل” و”ماري بورو” أن تلك الأوقات كانت أوقاتا عصيبة، فيقولان: عشنا حظر التجوال في 1947-1948، وطلينا زجاج البيت حتى لا تظهر الإنارة الداخلية ليلا، وكنا نسمع الانفجارات وإطلاق النار بشكل دائم، فهناك قتال بين العرب والصهاينة، لكن الاضطرابات لم تبدأ فجأة، بل كانت تتزايد تدريجيا، وفي أحد الأيام كانت هنالك طائرة صغيرة تلقي منشورات ورقية فوق أسطح منازل يافا، تطلب من العرب المغادرة، لأن اليهود يريدون استردادها، وقد خضعت طريق يافا – تل أبيب لمزيد من التأمين، لكن اليهود هدَّدوا بتفجير الطريق.
أما “سوزان” و”جاكلين”، فقالتا: قبل 15 مايو/ أيار، كان اليهود يهددون كل ما هو عربي لنسفه وتفجيره، فرفعنا أعلام فرنسا فوق منازلنا، لكنها لم تسلم من التهديد، فقد كانت بعض الصحف الفلسطينية قد استأجرت مكاتب في المباني التي نسكنها. ولم تفعل بريطانيا أي شيء لكبح جماح اليهود، بل كانوا يتنصلون من كل مسؤولياتهم مع بداية 1948.
وقد انسحب الإنجليز في 14 مايو/ أيار، وقبلها بيوم رأينا جميع الموظفين العرب يخرجون من مكاتبهم وأماكن عملهم ويعودون إلى بيوتهم، وخلال 48 ساعة غادروا يافا بلا رجعة، وكان الناس مذعورين من فكرة إمكانية ذبحهم في أي لحظة هنا، وتركوا ديارهم وهم على أمل أن يعودوا خلال أيام أو أسابيع على الأكثر. لقد أُفرغت يافا من العرب عن بكرة أبيها خلال أيام، ولم يبق إلا القليل، مثل المرضى في المستشفيات.
وداعا يافا.. وداعا لآخر اسم عربي في المدينة
بعد أكثر من 60 عاما، التقت “ماري بورو” بتوفيق غرغور، وتبادلا أطراف الحديث عن ذكريات الطفولة في يافا، والمنزل الذي سكنته العائلتان، وقال توفيق: لم نُحضِر الكثيرَ من أشيائنا، ومنها الصور، كنا نظن أننا عائدون خلال بضعة أيام. فعلى شهادة ميلادي مكتوب اسم الدكتور “بورو”، أخبرتني والدتي أننا كلما احتجنا طبيبا كان يأتينا الدكتور “بورو”.
أيها الفلسطينيون: هل تسمعونني؟ أنا لم أعد أسمع أي شيء عن فلسطين
وتتذكر “جاكلين” تلك الأيام بحسرة، فتقول: كان في يافا حوالي 100 ألف نسمة في ذلك الحين، وفي أيام قليلة لم يبق فيها سوى 5 آلاف فقط، وهُجِّر منها أكثر من 90 ألف عربي، وجاء يهودٌ من كل أنحاء أوروبا احتلوا بيوت العرب واستوطنوا فيها، حتى إنهم سرقوا أثاث العرب واستخدموه.
وتتحدث “ماري” بحزن قائلة: أصبحنا في حالة حرب، سمعنا عن مجازر اقترفها اليهود بحق أصحاب الأرض، قرر والدي أن ينقلنا إلى مكان أكثر أمنا، فانتقلنا إلى المستشفى الفرنسي في يافا. تغيرت المعالم شيئا فشيئا، وأصبحنا نرى الأسماء واللافتات العبرية، لقد اختفت الأسماء العربية والوجوه العربية، وبتنا نرى وجوها غريبة؛ رومانية وبلغارية وبولندية تحتل المكان، لقد أصبحت فلسطين بلدا محتلا، احتلها اليهود.
وتغمر وجهَ “سوزان” البالغ قرنا من الزمان علاماتُ الأسى العميق، حين تقول: مرض والدي عندما رأى يافا تزدحم بالمحتلين الغرباء، لقد طُرِد جيراننا الفلسطينيون من منازلهم إلى غير رجعة، ولم تعد كلمة فلسطين متداوَلة، لماذا اختفى هذا الاسم الجميل؟ كنا نعرف كل فلسطين، نذهب إلى الناصرة وبحيرة الحولة وإلى كل مكان في فلسطين، واليوم اختفى كل الفلسطينيين الذين كنت أعرفهم. أيها الفلسطينيون: هل تسمعونني؟ أنا لم أعد أسمع أي شيء عن فلسطين.