تصفية الاستعمار الفرنسي.. أثمان التحرر من براثن عاصمة النور

في عام 2020، قدم المخرجان “دافيد-كورن برزوزا” و”باسكال بلانشار”، فيلما وثائقيا بعنوان “إزالة الاستعمار.. الدم والدموع” (Décolonisations: du sang et des larmes)، وقد عرضته الجزيرة مدبلجا في جزأين، تحت عنوان “تصفية الاستعمار”.

تقارب مدة الفيلم ساعتين تقريبا، ويحاول فتح زاوية جديدة من التاريخ، بتلوين كمّ هائل من اللقطات التاريخية الأرشيفية، لكن تركيزه ينصبّ دوما على النقاش حول “الاستعمار” والحرب ضده.

يدّعي العمل الذي بين أيدينا أنه يحدثنا عن عملية “إزالة الاستعمار”، وهي تتخطى مجرد فكرة الاستعمار ومقاومته وأحداث التاريخ الجامدة، إلى مأساة نفسية يحملها الغاصب والمغتصب حتى بعد انتهائها.

مثلما تقول المقاتلة في صفوف ثوار الجزائر زهرة ظريف “لا يمكن كتابة التاريخ بممحاة!”، وتواجهها المستوطنة الفرنسية “دانييل ميشيل” التي فقدت إحدى ساقيها في تفجير “ميلك-بار” الذي نفذته زهرة ورفاقها من الثوار.

العلم الفرنسي مخضبا بدماء مستوطنيه المستعمرين

لذلك لا يحفل الفيلم بالكثير من المؤرخين والقادة العسكريين في المصادر والشهادات، بقدر ما يعتمد على شهادات أبناء الضحايا وأحفادهم، والضباط الفرنسيين والثوار في المستعمرات، لتقديم قصة السنوات الأخيرة من عمر الإمبراطورية الفرنسية.

بلغ عدد شهود الفيلم ومصادره نحو 40 إنسانا، من الذين ما زالوا يحملون ذكريات حية، بإمكانها أن تترك تأثيرا عاطفيا مؤلما على المُشاهد.

أحد طلاب المستعمرات يشير بيده إلى فرنسا على الخريطة، وكانت المدارس لا تعلّم إلا التاريخ الفرنسي

يعتمد الفيلم على فكرة أن عملية إزالة الاستعمار ممكنة، في عمل تاريخ جماعي مشترك، يستطيع الجميع أن يحاولوا فهمه وملاءمته.

فهو يستضيف أناسا من فيتنام والجزائر والسنغال والمغرب ومدغشقر والكاميرون وساحل العاج وجزر الأنتيل المارتينيك ولا ريونيون وغينيا وغوادلوب. ومع ذلك التنوع، تتوحد المأساة وتتشابه، فلم يكن ممكنا إزالة الاستعمار إلا بالدم والدموع.

وكذلك، يعتمد على الصورة الملونة التي تخاطب المزاج الحديث، وكثير من أعمال الغرافيك المعبرة عن خريطة الإمبراطورية، ومن خلال كل ذلك، يكشف عن الجروح التي لا تمحى، والندوب التي لا تندمل، من أثر الاستعمار.

الحرب العالمية.. وعود الإمبراطورية الزائفة للمستعمرات

لقد قاتل أبناء المستعمرات مع فرنسا في حربها العالمية الأولى، آملين بالاستقلال الذي وُعدوا به، ومبادئ “ويلسون” الأربعة عشر.

يذكر الكاتبان “روبرت غيروارث” و”إيريز مانيلا” في كتابهما “حروب الإمبراطوريات” أن أبناء المستعمرات شارك منهم في الحرب العالمية الأولى ما يتخطى نصف مليون من الجنود.

وقد ساهمت المستعمرات في المجهود الحربي أيضا بشكل آخر، من خلال تمويل عجلة الحرب الفرنسية بالموارد، واستكتابات قروض الحروب، التي بلغت 2% من مجمل 30 مليار فرانك أنفقتها باريس على حربها الأولى.

ولكن لم يتحقق شيء بعد الحرب، سوى ازدياد النفوذ الفرنسي على المستعمرات.

ينطلق الفيلم من لحظة الزهو الإمبراطوري الفرنسي بالمستعمرات المنبسطة على كوكب الأرض، فيعرض مشهد معرض باريس عام 1931، وهو معرض سنوي تعرض فيه شعوب المستعمرات وثقافاتها على أنها صورة أو منتج استهلاكي أو سيرك، وما فيها من رمزيات لحيونة الإنسان في مستمعرات فرنسا.

وفي نفس الوقت كانت الثورة تختمر في المستعمرات، على أيادي قادة ثوريين، منهم علال الفاسي، والحبيب بورقيبة، ومصالي الحاج في فرنسا، و”هو تشي منه” في الهند الصينية.

قادة التحرر في المغرب العربي الكبير، من اليمين: الحبيب بورقيبة، ومصالي الحاج، وعلال الفاسي

يحفل الفيلم بشهادات أبناء المستعمرات، على الحياة التي وجدوا أنفسهم طرفا فيها، وقد كُتبت عليهم العبودية والسياط.

يتحدث الجندي السنغالي “يورو دياو” عن ظروف عمل أشبه بالعبودية، أثناء بناء خط سكة حديد الكونغو – المحيط، الذي افتُتح عام 1934.

كما يتذكر حكيم ومصطفى أمقران أن أباهما عمل في الجزائر، وكان يتقاضى أجره من البطاطس الفاسدة.

تنصل الإمبراطورية من وعودها السخية

استغرقت فرنسا أكثر من 100 عام لبناء إمبراطوريتها مترامية الأطراف، وهي قوة استعمارية انبسط نفوذها على 40 بلدا وإقليما، وحكمت 110 ملايين من الرجال والنساء.

لكن لم يكن ليدوم حالها هكذا بعد تعرضها للغزو النازي في الحرب العالمية الثانية، وانقسام الحكومة الفرنسية على نفسها، بين حكومة “فيشي” التي كانت حكومة الدمية لدى النازيين، وبين حكومة المقاومة التي أعلنها “شارل ديغول” في المنفى.

لقد حشد الجنرال “ديغول” في جيشه المقاوم جنودا للقتال من أجل فرنسا، في الوقت الذي حرموا فيه من حقوق الانتخاب، والمواطنة من الدرجة الأولى.

كان “ديغول” يوزع الوعود بسخاء خلال الحرب، وبعد أن خرجت فرنسا منتصرة منها كان قد حان وقت التغيير، وتحقيق الوعود، لكن بدا أن الإمبراطورية المتداعية تحاول التنصل منها في واقع عالم ما بعد الحرب.

خطاب الجنرال “ديغول” الشهير في برازفيل – الكونغو

لقد خطب “ديغول” في مؤتمر “برازفيل” في الكونغو عام 1944، بحس المسؤولية لدى “المنقذ الأبيض”، في قاعة لم يكن فيها سوى البيض، وتكلم عن سياسة فرنسا الاستعمارية، التي يجب أن تتغير بدءا من نهاية الحرب، إذا أرادت فرنسا أن تحافظ على إمبراطوريتها مترامية الأطراف.

دعا “ديغول” إلى تغيير، ولم يدع إلى “استقلال”، وسرعان ما ألقى ذلك بظلاله على المستعمرات، التي رُغبت في الحرب بجانب فرنسا مقابل استقلالها، لكنها خُدعت.

مذابح السنغال والجزائر.. رد الجميل على الطريقة الفرنسية

كان أول عرفان بالجميل قدمته فرنسا لرفقاء السلاح، هو مذبحة “ثياروي” التي أودت بحياة أكثر من 50 جنديا سنغاليا، وكان معهم والد أحد الشهود في الفيلم، وقد نجا بأعجوبة، وكان جرمهم الوحيد أن طالبوا بأجورهم المتأخرة.

ظلت تلك المذبحة مكنوسة تحت سجادة التاريخ، ولم توثق بالصور، ولم تعترف بها فرنسا إلا في يوليو/ تموز 2024، أي بعد المذبحة بثمانين عاما كاملة.

وكان المخرج السنغالي الشهير “عثمان سمبين” قد قدم فيلما عن المذبحة تحت عنوان “مخيم ثياروي” (Camp de Thiaroye) عام 1988.

جنود سنغاليون قاتلوا دفاعا عن فرنسا

بعد ذلك وقعت مذبحة سطيف في مايو/ أيار 1945، أي بعد انتصار فرنسا في حربها بفضل جنود كان منهم جزائريون.

لكن فرنسا وثقت تلك المذبحة بالصور، التي التقطتها أثناء إعدام سكان القرى ميدانيا، من دون أن تكلف نفسها عناء الاستجواب، وقد بلغ عدد الضحايا 45 ألفا، على حسب الرواية الجزائرية.

مدنيون في ريف الجزائر يستسلمون قبل لحظات من إعدامهم

مكياج الإمبراطورية ذات الوجه القبيح

لبست فرنسا بدءا من عام 1946 وجها سرعان ما أثبت زيفه، فقد أعلنت أن إمبراطوريتها الواسعة تساوي جميع رعاياها في المستعمرات، وفقا لمبادئ الثورة الفرنسية الثلاثة، وألا تمييز حادث في تلك البلاد وراء البحار.

وكان ذلك عكس ما يقع على أرض الواقع، لكن الدعاية الفرنسية في الداخل كانت تنشر صورة أخرى عن فرنسا، بصفتها “المنقذ الأبيض” الذي نهض بمهمة تحضير البرابرة والشعوب الهمجية.

كان تلك السياسة الفرنسية تهدف لنهب ثروات الأمم وسرقتها، فللاستعمار وجوه كثيرة.

الدعاية الفرنسية عن إنجازات الإمبراطورية في مستعمراتها

بنت فرنسا في هذه المرحلة مستشفيات كثيرة وجامعات وسكك حديد، ومدارس لم تكن تعلم سوى ثقافة فرنسا وتاريخها ولغتها، وكان التحدث بغير الفرنسية جريمة، ولم يلتحق بها سوى 8% فقط من أبناء المستعمرات.

كان كل ذلك بهدف خدمة البنية التحتية والبيروقراطية، التي تساعد في ترسيخ الاحتلال، وتسهيل امتصاص ثروات المستعمرات لصالح العاصمة المركزية في باريس.

كان كل ذلك يسير بالتوازي مع القمع المعهود من فرنسا، فقد أحرقت القرى في قمع انتفاضة مدغشقر التي ثارت لاستقلالها بين عامي 1947-1949، لقد أودت تلك المذابح بحياة ما يقارب 100 ألف نسمة، وأحرقت قرى بأكملها، واستسلم الثوار على مرأى ومسمع من الكاميرات، كي يكونوا عبرة لمن يجرؤ على مقاومة فرنسا.

الثوار الملغاشيون وقد استسلموا للقمع الفرنسي

ثم تكرر ذلك السيناريو في قمع انتفاضة ساحل العاج مطلع الخمسينيات، وكان أسلوب فرنسا القمعي ناجحا في تلك المرحلة، فاستطاعت أن تقنع الثائر الشيوعي “فيليكس بوانيي” بأن يكون حاكم باريس الدمية.

وقد اتبعت فرنسا ذلك النمط في المغرب العربي، فأبعدت المحامي التونسي الثائر الحبيب بورقيبة إلى المنفى، وأخضعت كل من سولت له نفسه بالحديث عن الاستقلال في المغرب وتونس والجزائر، واستعانت بالشرطة والجيش في عواصم بلدان المغرب.

كما أنها عزلت السلطان محمد الخامس ونفته أيضا، فرد دعاة الاستقلال بالأعمال التفجيرية والثورة في شوارع الدار البيضاء، ولجأت فرنسا للقمع المعهود. ولكن لم يكن ذلك إلا جولة أولى من حرب مريرة، ستندلع فيما بعد بشكل أشد قسوة في الجزائر.

فرنسي سقط على الأرض مجروحا بعد تفجير الدار البيضاء ردا على نفي الملك محمد الخامس

لكن تلك الشوكة الفرنسية، سرعان ما ستنكسر على يد طباخ من الهند الصينية، كان عضوا في الحزب الشيوعي الفرنسي، وسيذكر في كتب التاريخ فيما بعد بآخر أسمائه المستعارة، ألا وهو “هو تشي منه”.

“ستكونون الطرف الذي أنهكته الحرب”.. كسر العجرفة الفرنسية

أشعل “هو تشي منه” حرب الهند الصينية، التي استمرت 8 سنوات بين عامي 1946-1954، بعدما تيقن أنه لن يأخذ شيئا من فرنسا، فهي لا تقدم شيئا عن طريق الدبلوماسية، فقد منحت بلاده استقلالا شكليا، وأحرجته في مفاوضات مضنية.

الطباخ الشاب “هو تشي منه” الذي قهر فرنسا، والولايات المتحدة فيما بعد

وبعد عودته أعلن “هو تشي” في أحد خطاباته الشهيرة: “إذا تحتمت علينا الحرب فسنحارب، ستقتلون عشرة منا، سنقتل واحدا منكم، وهكذا حتى النهاية، ستكونون أنتم الطرف الذي أنهكته الحرب”.

هكذا شن “هو تشي” حرب العصابات على فرنسا، فكان النمر يقاتل فيلا، ولا يسعه إلا أن يضرب ويهرب، وذلك الأسلوب هو الذي سيجرّع فرنسا أكبر خسائرها بعد الحرب العالمية الثانية.

وعلى هذا المشهد تعلق المقاوِمة الفيتنامية “شيوان فونغ” قائلة: عندما قرر “هو تشي” تحرير البلاد والعباد، بدت دعوته لنا بلسما يداوي جروح القلب، فقد أيقظ الرجل فينا شعور الوطنية، وكأنه سيل اختزن طويلا وراء سد.

“هو تشي” في مفاوضات باريس التي أحرجته ودفعته إلى الحرب

لقد طورت فرنسا في حرب الهند الصينية أسلوبها الأشد بشاعة، ألا وهو قنابل النابالم التي لا تبقي ولا تذر، وستستعمله فيما بعد في قمع مستعمراتها.

كانت تلك الأفعال هي التي هاجمها الفيلسوف الفرنسي “جان بول سارتر” ورفيقته الكاتبة “سيمون دو بوفوار”، وشبّهاها بأفعال ألمانيا النازية.

ضرب الضحية بالضحية.. جرائم لا تنسى وانتصار ساحق

استعملت فرنسا في حرب فيتنام أسلوبها المعهود، فاستعانت بجنود من مستعمراتها من المغرب والسنغال، وكان أشهر من قاتلوا في حرب الهند الصينية الجنرال المغربي “محمد أوفقير”، ونال عددا من النياشين لجسارته في المعارك.

لقد كان هذا أسلوب تجييش الضحية ضد الضحية، فجنود السنغال والمغرب كانوا يقاتلون جنود فيتنام، وكلاهما تستعمره فرنسا، وقد نجح هذا الأسلوب في تقليل الضحايا من الجنود الفرنسيين البيض في تلك الحرب الوحشية، التي سيقاوم الشعب الفيتنامي كل ويلاتها، إلى أن ينتزع انتصاره بلا منة ولا منحة فرنسية، وذلك في معركة “ديان بيان فو”.

جنود فرنسيون يرفعون الأعلام البيضاء معلنين استسلامهم لمقاتلي فيتنام

يقول أحد الجنود الفيتناميين في الفيلم: هل أكنّ بغضا للفرنسيين؟ كلا، فقد كان قتالنا ضد أعداء وإمبرياليين، وليس ضد شعب فرنسا.

لقد مرغ الشعب الفيتنامي -وهو فقير ضعيف التسليح- أنف فرنسا في التراب. تقول المقاتلة الجزائرية زهرة ظريف: كان علينا نحن أيضا أن نلقن فرنسا درسا لا ينسى.

ثورة التحرير الجزائرية.. مستنقع تفرغت له فرنسا فأغرقها

في نوفمبر/ تشرين الثاني 1954، شنت جبهة التحرير الوطني الجزائرية هجومها الأول على القوات الفرنسية، وذلك في ليلة عيد القديسين، فاندلعت بذلك حرب أبت فرنسا طيلة وقوعها أن تعترف باندلاعها.

صورة للعلم الجزائري يحلق فوق “ثوار جبهة التحرير الوطني”

لقد جعلت حرب الجزائر فرنسا منبوذة إقليميا، بسبب جرائمها والإبادة المتكررة التي ارتكبتها، وأشهرها المذابح التي ردت بها على هجوم الثوار، فيما عرف باسم معركة “فيليب فيل”، فقد أدينت فرنسا على مرأى ومسمع من الجميع في مبنى الأمم المتحدة.

يروي المناضل الجزائري جودي التومي أنه لم يسترد كرامته، إلا بعد أن مزق بطاقة هويته الفرنسية، وانضم إلى الحرب. وقد قال له جده: أما وقد قررت صعود الجبال، فلست أريد عسكر فرنسا يجرجرونك في القرية مثل البهيمة، مت كما يموت الرجال.

يقول التومي: لم يخطر ببالي قط أن أستسلم إذا ما حاق بي الخطر، احتفظت دوما برصاصة لنفسي.

إعدام بلا استجواب.. طريقة فرنسا المفضلة في إبادة الجزائريين

كان الضغط على فرنسا يزداد في تلك الحقبة الزمنية، فقد أعلن مؤتمر باندونغ بإندونيسيا أنه سيدعم التحرر في أي مستعمرة في العالم، وهو مؤتمر ضم دول حركة عدم الانحياز، بقيادة الرئيس الإندونيسي “أحمد سوكارنو”، ورئيس وزراء الهند “جواهر لال نهرو”، والرئيس المصري جمال عبد الناصر.

ولكي تركز فرنسا على جبهة الجزائر، فقد منحت المغرب وتونس استقلالهما عام 1956، ورأت أن الحاجة الملحة هي الإبقاء على الجزائر، نظرا لكمّ المستعمرين الفرنسيين فيها.

جمال عبد الناصر يصل إلى باندونغ – إندونيسيا

قنابل النابالم.. مكافأة من السماء لشعب يطلب الاستقلال

كان “أوم نيوبي” -وهو زعيم اتحاد شعوب الكاميرون- صوتا ومثالا من الشعوب الأفريقية، التي حاولت فرنسا أن تستنقذ وجودها فيها، من خلال تغيير النظام بنظام دمية، وانتخابات ديمقراطية تشرف عليها باريس، ولا تنتج إلا أنظمة الحكم العميلة التي تدين بولائها لفرنسا.

استهدفت فرنسا الزعيم الكاميروني “نيوبي” بعد أن خطب في الأمم المتحدة، مطالبا باستقلال بلاده، وقد استعانت باللعبة التقليدية، فطاردته بقوات كاميرونية من النظام العميل.

لقد استغلت فرنسا ما اكتسبته من خبرة القمع في فيتنام والجزائر ومدغشقر، وكررته في الكاميرون أيضا، فاستخدمت تلك الأساليب العقابية لسكان القرى والقبائل، ومحت قرى بأكملها بقنابل النابالم، ذلك السائل الهلامي الذي لا يترك جسدا إلا أذابه.

جثة “روبن أوم نيوبي” التي مرغها قاتلوه في الطين وسحلوها بعد مصرعه

وكان كل ذلك من أجل قتل “نيوبي”، وقد استطاعت في النهاية أن ترديه في الأدغال عام 1957، من دون أن يبكيه أحد.

وقد جعل النظام المستبد الذي حكم الكاميرون سيرة “نيوبي” محرمة على الألسنة، كما يذكر المفكر “أشيل مبيمبي” في الفيلم، لكي يتناسى الشعب شخصه وفكرته.

“لم ينظر لي أحد بتلك الكراهية من قبل ولا من بعد”

يحكي “جان بيير غيدرو” حادثة شارك فيها، حين كان ضابطا فرنسيا في الجزائر، فقد سلّم جنوده امرأة، وأعطاهم حرية التصرف معها، وحين عاد إلى الكتيبة مساء وجدها ممددة عارية على الرصيف.

نظرت المرأة إلى عينيه نظرة حاقدة، وقد وصفها قائلا: لم ينظر لي أحد بتلك الكراهية من قبل ولا من بعد، لقد أدمنّا -نحن الفرنسيين- على توليد الحقد من قلب الحاقد أكثر فأكثر.

الجنرال “ديغول” في خطابه الشهير للمستوطنين الفرنسيين في الجزائر

لقد عزلت فرنسا ما يقارب مليوني جزائري في مخيمات بالصحراء ليلاقوا الجوع والبرد، في مسعاها لتمشيط البلاد من مقاتلي جبهة التحرير، التي خسرت نصف مقاتليها في عام 1958.

وفي المقابل، أعلن المستوطنون الفرنسيون أنهم سيحملون السلاح أيضا، وبذلك أصبحت خطابات “ديغول” عن “سلام الشجعان” هشيما تذروه الرياح.

“اقبلوا ما تعرضه فرنسا عليكم”.. صراخ اليائسين

قام “ديغول” عام 1958 بجولات مكوكية في مستعمرات فرنسا الأفريقية، داعيا إلى ائتلاف من الدول، يتحالف مع فرنسا في اتحاد فرنسي أفريقي تحت سلطتها، وقد وُوجه “ديغول” بتصلب من الشعوب الجائعة للحرية والكرامة، كما قال الرئيس الغيني “سيكو توري”.

ونتيجة فشل تلك الجولات، علم “ديغول” أن مجد الإمبراطورية غارب، فوجّه كلمات غاضبة في السنغال أرغى فيها وأزبد، حين واجه المحتجين بلافتات الحرية والاستقلال قائلا: إذا كنتم تريدون الاستقلال فلكم ما أردتم، وإذا عجزتم عن تحمل مشاقه، فاقبلوا ما تعرضه فرنسا عليكم؛ اتحاد فرنسي أفريقي.

خطاب الرئيس “سيكو توري” الذي أحرج “ديغول”

وبعد ذلك الخطاب، عقدت باريس استفتاء في أفريقيا، لجأت فيه للتزوير وإخفاء المعارضين، لكن غينيا “سيكو توري” أعلنت رفضها الدخول إلى اتحاد فرنسي أفريقي، فنالت استقلالها عام 1958، وكان ذلك مثل سقوط مكعب الدومينو في مستعمرات فرنسا الأفريقية.

مفارقة الجزائر.. ثورة شرسة واستيطان يرفض المغادرة

أدرك “ديغول” أن عليه أن ينسحب من المستعمرات، ويشكل علاقة جديدة معها، وقد أعلن بعجرفة أن تلك المستعمرات في كل الأحوال ستحتاج لأن تخطب ودّ فرنسا، لمساعدتها في مرحلة ما بعد الاستعمار والبناء.

لقد أراد “ديغول” أن تكون أفريقيا الفرانكوفونية منطقة امتياز فرنسية حصرية، لا تحددها الاتفاقيات الندية بين الدول.

خطاب “ديغول” الذي يرسي سياسة مرحلة ما بعد الاستعمار

ولكن الانسحاب من الجزائر لم يكن يسيرا كالانسحاب من أفريقيا، فقد كان المستوطنون في الجزائر يشعرون أنهم لا أرض لهم يعودون إليها في فرنسا، فبدؤوا ينشئون منظمة مسلحة سرية عام 1961.

بدأت المنظمة سلسلة من العمليات الإرهابية داخل فرنسا ذاتها، فوقع “ديغول” بين حجري رحى؛ مستوطني فرنسا الرافضين مغادرة الجزائر، وثوار جبهة التحرير الوطنية.

ضحايا جزائريون في مذبحة باريس سنة 1961

ثار الجزائريون في باريس للضغط على “ديغول”، لتعجيل خروجه من الجزائر، وقد ردت عليهم الشرطة الفرنسية بمجزرة باريس، التي ألقيت فيها جثثهم في نهر السين.

وكان ذلك بمنزلة وداع فرنسي، يليق بسنوات من القمع في الجزائر، ثم انتهت بعقد اتفاقيات “إيفيان” سنة 1962.

مجازر لإنقاذ آخر حطام الإمبراطورية

عملت فرنسا على تغيير الخطاب في مستعمراتها القليلة الباقية بعد الجزائر، لإدارة حطام إمبراطوريتها، فجلبت المهاجرين من غوادالوب ومن لا ريونيون ومن غويانا، ثم وعدتهم بأرض السمن والعسل.

ولكنهم استفاقوا فورا على وقع كونهم أصبحوا أيادي عاملة رخيصة، تحت رحمة شعب لا يكن لهم سوى البغض، ويعاملهم بالعنصرية والفوقية.

جدارية تخلد ضحايا غوادالوب

وبينما كانت المعارضة في لا ريونيون تناضل للاستقلال كغيرها من الدول، أمر “ديغول” باعتقال قائد الحزب الشيوعي هناك “بول فيرجيس”، وتقويض كل مساعي الاستقلال.

تقول ابنته “فرانسوا” عن مطاردته: تعوّدنا على دهم الشرطة فجرا، وقد هُددت أمي، وتعقبتنا الشرطة ونحن نذهب للمدرسة، وسُلّط قمع هائل على المعارضة.

وقد تكررت تلك المذابح الفرنسية المعهودة في جيبوتي، حين طالبت باستقلالها، وكذلك في غوادالوب حين طالب العمال برفع أجورهم في أواخر الستينيات.

ولم تعترف فرنسا بتلك المذبحة إلا بعد عشرات السنوات، وقد ظلت مانعةً الحديث عنها، وكنستها تحت سجاد التاريخ طيلة هذا الوقت.


إعلان