“الملك المفقود”.. امرأة مأزومة تنقّب في التاريخ لإنصاف ملك مظلوم

في عام 2012، عثرت هاوية تاريخ تدعى “فيليبا لانغلي” على جثة “ريتشارد الثالث” المفقودة، ملك إنجلترا الذي توفي عام 1485.

تبدو القصة محض خيال لا يمكن تصورها، لكنها قصة حقيقة لامرأة بريطانية خرجت من العدم، وهزت الأوساط الأكاديمية بعثورها على بقايا الملك، تحت موقف سيارات بمدينة ليستر وسط إنجلترا.

قصة هذا الاكتشاف المذهل، يرويها فيلم “الملك المفقود” (The Lost King) الذي أُنتج عام 2022، وأخرجه البريطاني “ستيفن فريرز”، الذي أثبت نجاحه في سرد قصص بريطانية ونسوية ذكية ورنّانة، مستندا على أحداث حقيقة.

وقد برز ذلك في عدد من أعماله السينمائية، منها:

  • “الملكة” (The Queen) عام 2006، وقد أبدعت فيه “هيلين ميرين” في أداء دور الملكة “إليزابيث” الثانية.
  • “فيلومينا” (Philomena) عام 2013، ويركز على قصة امرأة بريطانية تشرع في بحث شبه مستحيل عن ابنها، الذي تخلت عنه قبل 50 عاما.
  • “فيكتوريا وعبدول” (Victoria and Abdul) عام 2017، وقد تألقت فيه “جودي دينش” في دور الملكة “فيكتوريا”.

وفي فيلمه “الملك المفقود” المتوفر للمشاهدة عبر منصة “آبل تي في” (Apple TV)، يواصل “فريرز” إظهار براعته في المزج بين الكوميديا والمأساة، معتمدا على وصفته السينمائية الناجحة في تقديم قصص واقعية مليئة بالتحديات الإنسانية، وقدرته على تصوير الشخصيات النسائية بأسلوب دافئ ومفعم بروح الدعابة، مع إبراز عمقها النفسي وقوتها في مواجهة التحديات. وهي سمات أصبحت جزءا لا يتجزأ من بصمته الإخراجية.

في الفيلم، تتألق “سالي هوكينز”، وهي تضفي على أي دور تؤديه وهجا ملفتا، إلى جانب “ستيف كوغان”، الذي يجلب حضورَه المميز إلى الشاشة، ليس فقط من خلال أدائه التمثيلي، بل أيضا بمشاركته في كتابة السيناريو، بالتعاون مع “فيليبا لانغلي”، صاحبة القصة الحقيقية.

بحث عن الذات في حياة تعج بالأزمات

تكافح “فيليبا لانغلي” (الممثلة سالي هوكينز) لعيش حياة لا يبدو فيها أن شيئا يسير في الاتجاه الصحيح، فهي امرأة عادية من إدنبرة، تواجهها أزمات متشابكة في حياتها الشخصية والمهنية، وتعاني من متلازمة التعب المزمن، وهو مرض لا يؤخذ على محمل الجد.

ومع ذلك، فهي تؤدي عملها في وكالة تسويق بكفاءة ودون شكوى، لكن رئيسها يتخذ مرضها وسنها ذريعةً لعدم ترقيتها، ويختار الاستثمار في الموظفين الأصغر سنا، على حساب خبرتها وإمكاناتها.

“سالي هوكينز” في دور “فيليبا لانغلي” تجلس على مقعد أسفل قلعة إدنبرة وتقرأ كتابا عن الملك “ريتشارد الثالث”

على الصعيد الشخصي، تعيش “فيليبا” حياة متقلبة، فهي مطلقة ذات طفلين، تعتني بهم بمساعدة زوجها السابق “جون لانغلي” (الممثل ستيف كوغان)، وهو يواعد امرأة أخرى، مما يزيد إحباطها وشعورها بالتهميش، سواء في مقر عملها أو في بيتها.

“مأساة ريتشارد الثالث”.. مسرحية مدرسية أشعلت الإلهام

وسط هذه الحياة المضجرة والمليئة بالتحديات، تشاهد “فيليبا” مع ابنها عرضا مدرسيا لمسرحية “مأساة ريتشارد الثالث” للمسرحي “ويليام شكسبير”، فتشكل نقطة تحول درامية، وتنقلب حياتها رأسا على عقب، ويوقظ فيها الممثل “هاري لويد” الذي أدى دور الملك انبهارها بالشخصية التاريخية.

تنزعج “فيليبا” من الصورة السلبية المرتبطة بالملك، فقد كان من أكثر الملوك إثارة للجدل في تاريخ بريطانيا، ثم تبدأ وهي في الخمسينيات من عمرها، تراودها رؤى عن الملك الذي رحل منذ أكثر من 5 قرون.

وسرعان ما يصبح هذا الإلهام الغامض مشروعا شغوفا، تسميه “البحث عن ريتشارد”، عازمة على إيجاد رفات الملك، واستعادة الحقيقة التاريخية المشوهة عنه.

“فيليبا لانغلي”، المرأة التي عثرت على الملك ريتشارد الثالث

فجأة تجد “فيليبا” نفسها وقد أُعيد تشكيل حياتها بمعنى وغاية جديدين، وتصبح مهوسة -حرفيا- بذلك الملك.

ومن يومها يبدأ شبح “ريتشارد الثالث” يلاحقها، ويظهر لها دائما في شكل الممثل المسرحي، مرتديا عباءة أرجوانية فضفاضة وتاجا ذهبيا، ويظهر لها في كل مكان، على مقعد في الحديقة! أو على متن قطار! أو في المطبخ.. ويتوسل إليها بعينيه، لمساعدته على اكتشاف حقيقته وتحسين صورته.

الملصق الدعائي لفيلم “الملك المفقود”، وفيه يجالس الملك البطلة لابسا عباءة أرجوانية فضفاضة وتاجا ذهبيا

يبدو قرار إظهار الملك شبحا يرافق “فيليبا” مخاطرة إبداعية من مخرج الفيلم، لكنها مخاطرة آتت ثمارها، فقد ساعدت في تفسير افتتانها الشديد بالملك، ورحلتها الشغوفة لإعادة كتابة التاريخ.

وكانت المشاهد التي تجمع بينهما مليئة بالسحر والطرافة، وتنسجم تماما مع روح الفيلم الكوميدية والتراجيدية.

“ريتشارد الثالث”.. صورة المتعطش للدماء المهوس بالعرش

كان “ريتشارد الثالث” آخر ملوك إنجلترا من “آل يورك”، وقد اشتهر بكونه مغتصبا مستبدا ومتعطشا للدماء، وحكم إنجلترا عامين فقط (1483-1485)، ثم قُتل وهو يحاول الاحتفاظ بعرشه في معركة “بوسورث فيلد” عام 1485، أمام “هنري ثيودور”، الذي أصبح فيما بعد “هنري السابع”.

“فيليبا لانغلي” تقف أمام لوحة الملك “ريتشارد الثالث”

شهّر “آل ثيودور” بالملك “ريتشارد الثالث”، وقد ظلمه “شكسبير” حين منحه معطف الوحش في المسرحية التي تحمل اسمه، وصوّره أحدب شريرا مجنونا بالسلطة، أمر بقتل ابني أخيه الصغيرين للوصول إلى العرش.

لكن المؤرخين وجمعية “ريتشارد الثالث” يرون أن تلك الصورة مشوهة، ويتهمون أسرة “ثيودور” -التي حكمت إنجلترا بعده- بالعمل على شيطنته.

إعادة تأهيل الملك.. بحث عن الإنصاف ولو بعد حين

تشعر “فيليبا” بتقارب مع الملك المفترى عليه، فتلتهم كتب التاريخ، وتقتني كل كتاب يتناول سيرته، وتكرس حياتها للبحث عن رفاته المفقود، وتحسين سمعته السيئة.

حتى أنها تطلق مشروع “البحث عن ريتشارد”، بالتعاون مع جمعية ريتشارد الثالث، وهي منظمة تهتم بتقدم صورة أكثر دقة وإنصافا وتوازنا له. وقد استطاع الفيلم أن يمزج بسلاسة بين شخصيتين متباعدتين في الزمن، لكنهما تشتركان في تجربة سوء الفهم والإقصاء.

كانت “فيليبا” تعاني من المرض والإحباط الشخصي، لكنها وجدت طاقة ودافعا جديدين في مهمتها لإعادة تأهيل صورة “ريتشارد الثالث”، الملك الذي شُوهت سمعته عبر القرون، بناء على الأساطير أكثر من الحقائق.

مشهد من فيلم “الملك المفقود” يجمع “سالي هوكينز”، و”ستيف كوغان”

ومن جماليات الفيلم الاحتفاء برحلة الإنسان في اكتشاف ذاته، مجسدا ما يمكن لمشروعٍ شغوف أن يضفي على الحياة من معنى جديد وأبعاد أعمق، فقد منح هذا السعي حياة “فيليبا” بُعدا آخر، وبذلك أظهر أن الغوص في حقائق الماضي يمنح الحاضر قوة ومعنى.

فالملك “ريتشارد” الذي وصفته الأساطير بالمغتصب القاتل القبيح الأحدب، أصبح في عيون “فيليبا” شخصية تستحق الإنصاف واستعادة الكرامة، كما أن “فيليبا” أيضا تجد ذاتها في تلك الرحلة.

غطرسة العلماء وقلق العائلة.. عقبات الطريق

تنطلق “فيليبا” مدفوعة بحدسها للبحث عن “ريتشارد الثالث”، بلا خلفية أثرية أو أكاديمية، فهي تعتمد على قناعة مطلقة، وتثق في غرائزها لتحقيق إنجاز تاريخي.

لكن تواجهها انتقادات من المحيطين بها الذين يقتنعون بأنها فقدت عقلها، حتى أن المؤرخين والأكاديميين الذين تلقاهم في بحثها عن الحقيقة، لديهم نفس الرأي أيضا.

ولكن “فيليبا” تريد اكتشاف مكان رفات الملك، وقد ظل مكانه مجهولا منذ أكثر من 500 عام. وليس عليها أن تواجه العلماء المتغطرسين فقط، بل تواجه أيضا حقيقة أن ابنيها وزوجها السابق المحب يشعران بقلق متزايد، من أنها ربما تمر بأزمة منتصف العمر، وفقدان الاتزان.

شبح “ريتشارد الثالث” يطارد “فيليبا”

لكنها لا تستسلم، بل تبدأ رحلة شاقة للبحث عن مكان دفن الملك، وتجد دليلا يشير إلى أن رفاته ربما يكون مدفونا تحت موقف سيارات حديث بمدينة ليستر. وهذا المكان هو أرض المعركة التي قُتل فيها.

ومع ما لقيت من سخرية المحيطين بها، وتجاهل المؤسسات الأكاديمية لها، فقد أصرت على متابعة تحقيقها، وسرعان ما بحثت عن رعاة للتنقيب.

جمجمة تحت الموقف.. بقايا ملك دفنه الرهبان على عجل

في زيارتها الأولى لموقف السيارات في ليستر، اجتاحها شعور عميق وغامر، وكأن قوة خفية تهمس بأن تحت قدميها شيئا ذا أهمية استثنائية، حتى أنها رأت في حرف (R) المرسوم على الإسفلت علامة من القدر.

وكأن ذلك الرمز البسيط الذي يعني أن المكان “محجوز” (Reserved)، أصبح دليلا غامضا يقودها نحو اكتشاف الحقيقة، التي لطالما بحثت عنها، وأن رفات الملك يكمن هنا تحت هذا الحرف.

موقف السيارات الذي عثر فيه على رفات الملك ريتشارد الثالث

أثناء الحفر يظهر هيكل عظمي، فيه جمجمة مشقوقة وعمود فقري مُنحنٍ، وقد حل ذلك لغزا عمره 500 عام حول المثوى الأخير لآخر ملك إنجليزي قُتل في معركة، ويبدو أنه دُفن من دون وضع شاهد أو علامة مميزة، خوفا من الرجال الذين قتلوه في المعركة، فقد دفنه الرهبان على عجل، عاريا مجهول الهوية، بلا لفافة ولا زينة شخصية من أي نوع، في مساحة ضيقة للغاية.

وسام الإمبراطورية.. ثمرة اكتشاف يغير الروايات التاريخية

مع أن “فيليبا لانغلي” ليست عالمة آثار ولا مؤرخة، فإن اكتشافها لقبر الملك “ريتشارد” من أهم الاكتشافات الأثرية في التاريخ الإنجليزي الحديث، وهي تحمل اليوم وسام الإمبراطورية البريطانية، بعد تكريم الملكة “إليزابيث” إياها عام 2015، لخدماتها للمملكة المتحدة.

إيجاد رفات الملك حل لغزا عمره 500 عام حول المثوى الأخير لآخر ملك إنجليزي قُتل في معركة

وقد كشف العلماء الذين فحصوا رفات الملك عن وجود جروح عميقة، أصابت جسد الملك “ريتشارد”، وأنه لقي مصرعه بطريقة وحشية، فقد ضُرب ضربات قاتلة بالسيوف وأسلحة أخرى.

كما أظهرت التحاليل وجود 11 جرحا مميتا في الجمجمة والحوض. وأكدت الروايات التاريخية أنه توفي راجلا، بعدما فقد حصانه وخوذته خلال المعركة.

رد الاعتبار.. مراسم دفن تليق بالمكانة التاريخية

قررت بريطانيا منح الملك “ريتشارد الثالث” مراسم دفن تليق بمكانته التاريخية، فصُنع نعشه من خشب السنديان على يد النجار الكندي “مايكل إبسنون”، وهو من أقارب الملك البعيدين وأحد أفراد سلالته. كما أثبتت حقيقة رفاته بمساعدة فحوص الحمض النووي.

رفات الملك ريتشارد الثالث في نعش من خشب السنديان صنع على يد النجار الكندي “مايكل إبسنون”

وفي مشهد استثنائي، شهدت إنجلترا نقل رفاته في موكب جنائزي ملكي، أعاد إليه بعضا من هيبته المفقودة. وقد جاب الموكب طريق رحلته الأخيرة، مرورا ببلدة ليستر وموقع معركة “بوسوورث” الشهيرة، قبل أن يُسجّى في كاتدرائية ليستر، لإعادة دفنه بعد وفاته بأكثر من 530 عاما.

يقدم فيلم “الملك المفقود” رسالة ملهمة عن القوة الكامنة في الإيمان بالذات، والقدرة على تغيير السرديات الراسخة. إنه عمل سينمائي يلامس القلوب ويثير الفكر، ويثبت مرة أخرى قدرة السينما على أن تكون مرآة للحقيقة والخيال معا.

شهدت إنجلترا نقل رفات الملك “ريتشارد الثالث”، آخر ملوك أسرة “يورك” في موكب جنائزي ملكي

ليس الفيلم مجرد فيلم عن اكتشاف أثري، بل قصة إنسانية عن التحدي والإصرار، من خلال شخصية “فيليبا لانغلي”. ويظهر الفيلم ما يمكن أن يحدثه الشغف والرؤية الشخصية، حتى في وجه الأنظمة الراسخة والتحيزات التاريخية.

إنه دعوة للتأمل في علاقتنا مع التاريخ، واحتفاء بقدرة الإنسان على اكتشاف ذاته، من خلال السعي لتحقيق العدالة، سواء كانت تاريخية أو شخصية.


إعلان