“أغوجي”.. كتيبة نسائية أفريقية حمت العرش وأرعبت الغزاة الفرنسيين

في الغرب من جمهورية نيجيريا تقع جمهورية بنين، وهي دولة صغيرة الحجم، لكنها احتضنت إحدى أقوى ممالك أفريقيا في التاريخ المعاصر، فقد ازدهرت مملكة “داهومي” في بنين من القرن الـ17 حتى مطلع القرن الـ19، في ظل جيش نسائي.

طوال التاريخ، كانت الحرب حكرا على الرجال، لكن كتيبة “أغوجي” بغرب أفريقيا قد غيرت هذه المعادلة، وتعني كلمة “أغوجي” الإنسان القادر على الحماية، وقد مثلت هذه الكتيبة قوة نسائية مقاتلة مرعبة في مملكة داهومي.

على الساحل الغربي من أفريقيا، نشأت مملكة داهومي الصغيرة القوية (في جمهورية بنين حاليا)، وقد توسعت منذ القرن الـ19 توسعا مطردا في مواجهة مملكتي أسانتي ويوروبا، اللتين تفوقهما حجما.

خريطة نشرت عام 1793 تبين كيف كانت تبدو مملكة داهومي وضواحيها (غيتي)
خريطة نشرت عام 1793 تبين كيف كانت تبدو مملكة داهومي وضواحيها (غيتي)

تنافست القوى الاستعمارية -فرنسا وبريطانيا وألمانيا- على السيطرة عليها، لكونها من آخر ممالك أفريقيا المستقلة. لكن جيش داهومي كان يعتمد اعتمادا كبيرا على قوة “أغوجي”، وهي كتيبة نسائية محاربة.

تولت الكتيبة حراسة القصر وتشكيل خط المواجهة الأمامي للملك، وبسبب قوتهن كن مسؤولات عن إنفاذ القانون وجباية الضرائب، وكان على الرجال أن يحذروا في حضرة أولئك النسوة.

تقول البروفيسور سوزان بلير مؤلفة كتاب “محاربات داهومي داخل وخارج إفريقيا”: كان المرء إذا التقى بقوات أغوجي في الشارع يفر فورا، أو يلقى نفسه في حفرة ما، ويغمض عينيه خوفا.

حظيت محاربات أغوجي بمكانة زوجات الملوك، لذا كانت مواجهتهن مدعاة لإنزال العقوبة، وإذا همّ أحد بلمسهن فقد عرّض نفسه للقتل.

تشكلت الكتيبة من فتيات فقيرات وإماء أُسر بعضهن وهن في ربيعهن العاشر، وأصبح لديهن ولاء مطلق للملك، ففي كل 3 سنوات كان الملك يطلب جزية من زعماء القبائل في داهومي، والجزية هي فتاة قاصر تعمل في قصره، وبذلك يضمن ولاء آبائهن للملك. ولا يستطيع زعماء القبائل المعارضة، فذلك يعني القتل ومصادرة أراضيهم.

أقيمت القصور الملكية في قلب مملكة داهومي، وكانت مجمعا ضخما تدار منه المملكة بأيدي 6 آلاف امرأة، فقد كان ينظر إلى الرجال على أنهم تهديد للملك، فلم يكن يسمح بدخول القصر إلا لقلة منهم، وتولت النساء مهمات الخدمة والحراسة والأعمال الإدارية.

صورة لملك داهومي "بيهانزن" وحارساته عام 1906 (غيتي)
صورة لملك داهومي “بيهانزن” وحارساته عام 1906 (غيتي)

على مدى 200 عام، كانت تجارة الرقيق محورية في اقتصاد داهومي، وكان أهالي غرب أفريقيا يُأسرون ويرسلون إلى المستعمرات الأوروبية في الأمريكتين، وفي القرن الـ18 كان عشرة آلاف إنسان يُصدرون ويستعبدون كل عام، عبر شواطئ داهومي وحدها.

كان للمحاربات دور حاسم في القتال، مع أنهن لسن أغلبية، فقد كن ثلث العدد الكلي للجيش، لكنهن ذوات اختصاص، فمنهن راميات للسهام، وأخريات حملن البنادق، وبعضهن استُخدمن في التجسس.

تلقت المحاربات تدريبات معقدة للغاية، آخرها أن يتجاوزن حاجزا من الأشواك والشجيرات الشائكة وهن يكتمن ألمهمن، وقد كان أكثرهن تحت تأثير صدمات شديدة، فقد شهدن تدمير بيوتهن أثناء الحرب، واقتيد أفراد أسرهن للعبودية، وعشن في منزل جديد ومجتمع جديدة وعائلة جديدة.

القوى الأوروبية تقاسمت قارة أفريقيا في مؤتمر برلين 1884

كان مؤتمر برلين عام 1884 بداية الصراع الأوروبي على أفريقيا، فقد تقاسمت القوى الأوروبية قارة أفريقيا، وبقيت داهومي مستقلة، مع أنها محاطة بمحميات تسيطر عليها تلك القوى.

لم يكن ملوك داهومي بمعزل عن تلك الأطماع، فقد كانوا يدركون نية الأوروبيين -ولا سيما فرنسا- الاستيلاء على سواحلها ومواردها الطبيعية.

بدأت محاولات فرنسا عن طريق سفيرها “جون ماري بايول”، فقد سعى للقاء الملك لعقد صفقات معه، لكن محاربات داهومي وقفن له بالمرصاد، واستخدمن معه حيلا نفسية، واستدعينه في لقاء، وأعدمن أمامه جواسيس، وملأن القصر بلوحات آكلي لحوم البشر.

بعد أسابيع من الانتظار، مُنح “بايول” -وقد اعتراه السخط- فرصة لمقابلة الملك، سعيا لعقد معاهدة تمنح فرنسا حق استخدام موانئ داهومي، لكن الملك كان مريضا فوكّل أكبر أبنائه بلقائه، فرفض عرض السفير، وسجنه مدة شهرين حتى أذن الملك برحيله.

صورة مرسومة لنساء "أغوجي" في إحدى المعارك عام 1875 من كتاب 'Illustrated Travels'
صورة مرسومة لنساء “أغوجي” في إحدى المعارك عام 1875 من كتاب ‘Illustrated Travels’ (غيتي)

اضطر “بايول” لتوقيع معاهدة رسمية، تمنح مملكة داهومي سيطرة تامة على موانئها ومواردها، لكنه شعر بإهانة كبيرة، وأضمر نية الانتقام، وبات تدمير داهومي شغله الشاغل.

ضغط “بايول” على البرلمان الفرنسي لتمويل غزو واسع النطاق، وأطلق حملة صحفية لقلب الرأي العام على داهومي، واتهمهم بأكل لحوم البشر وإلقاء القرابين البشرية في المياه.

ثم مات ملك داهومي، وأبقى القصر موته سرا، وبات ابنه الأوفر حظا لخلافته، وبعد أسابيع نُصب ملكا على العرش، وسمى نفسه الملك “بيهانزن”، وسارع لفرض سلطته.

مع أن فرنسا كانت لديها معاهدة مع داهومي، فإن وجودها العسكري كان محدودا في “بورتو نوفو” على سواحل داهومي، تمثل بـ360 جنديا سنغاليا.

كتيبة أغوجي تولت حراسة القصر وتشكيل خط المواجهة الأمامي للملك (غيتي)

في إحدى الصباحات، اعتقلت فرنسا بعض مسؤولي الملك، فكان ذلك سببا كافيا لإعلان الحرب. وقد أمر الملك “بيهانزن” بالهجوم على القرى التي يسيطر عليها الفرنسيون حول “بورتو نوفو”، ووكّل كتيبة “أغوجي” بالتجسس عليهم، ثم مهاجمتهم.

جمعت محاربات “أغوجي” معلومات حول أماكن الأسلحة وخطط أعدائهن، ثم قتلن المتعاونين مع الفرنسيين، وأضرمن النار في حقولهم، وجئن برأس أحد زعماء القبائل المتعاونة إلى الملك.

في مارس 1890، أعد الملك “بيهانزن” جيشه لحرب شاملة مع الفرنسيين، فتمركزت القوات الفرنسية السنغالية خارج ميناء كوتونو (بنين)، مواجِهةً آلاف المحاربين الداهوميين من كتيبة “أغوجي” النسائية، ومع أنها كانت متفوقة عدديا فقد كانت فرص النجاة ضئيلة، فالفرنسيون مسلحون ببنادق حديثة.

ومع حلول الظلام، لقيت مئات المحاربات الداهوميات مصرعهن، وتعيّن على الكتيبة أن تعيد تنظيم صفوفها بعد الهزيمة، ومع أن الملك قد خسر المعركة فإن سياسة الأرض المحروقة وحرب العصابات التي شنها على المتحالفين مع فرنسا أجبرتها على اتفاقية سلام.

ثم تحالف الملك مع ألمانيا غريمة فرنسا، فمنحته مدافع وبنادق، مقابل سفن محملة بالرقيق.

الكتيبة تشكلت من فتيات فقيرات وإماء أُسر بعضهن وهن في ربيعهن العاشر، وأصبح لديهن ولاء مطلق للملك (غيتي)

في مارس 1892، هاجمت قوات الملك زورقا حربيا فرنسيا، فاتخذتها فرنسا ذريعة لإعلان الحرب، وبعد شهرين وصل الجنرال الفرنسي “ألفريد أميديدوتس” إلى الساحل مع 2200 جندي فرنسي وأفريقي. لكن جيش داهومي فاقه بخمسة أضعاف.

عند الفجر اشتبكت قوات الاستعمار الفرنسي مع الجيش الداهومي، وعلى رأسه كتيبة النخبة “أغوجي”. وأدت الحرب إلى تراجع الداهوميين تدريجيا نحو عاصمتهم أبومي، وتقدم الجيش الفرنسي 40 كيلومترا، بعد شهرين من القتال المرير.

لم يستطع الجيش الداهومي قلب الطاولة بعد عدة أشهر، وتكبد خسائر فادحة، واقتربت فرنسا من احتلال العاصمة، وقُتل أغلب محاربات “أغوجي”. ثم أمر الملك بحرق العاصمة ومجمع القصور، حتى لا تقع في أيدي أعدائه.

خسرت داهومي، وأمست المملكة مستعمرة فرنسية، واعتُقل الملك “بيهانزن”، ونُفي إلى جزيرة مارتنيك، فكان آخر ملوك داهومي المستقلين، ونجت قلة قليلة من أفراد كتيبة “أغوجي”.


إعلان