“شتيرن”.. شاعر وإرهابي وسفاح قاد جرائم الاحتلال الصهيوني في فلسطين
جسده نحيف وملامحه حادة، على وجهه برودة وسكينة ونظرات تشي بمكر وغموض، رجل ستنظر له من كل الزوايا لتفهمه، هو بطل في حكايته، وعدو في حكاية أعدائه، ولكن هل هو بطل وطني وشاعر رومانسي حالم، أم إرهابي ومخرب وخائن؟ من يكون “أبراهام شتيرن” متعدد الوجوه؟
“تخلص من الفلسطينيين وأخرج البريطانيين من الأرض”
كان “أبراهام شتيرن” يهوديا بولندي الأصل والمنشأ، وقد جاء إلى فلسطين عام 1925 لدراسة الآداب بالجامعة العبرية، أحب الشعر كثيرا وكتب قصائد كثيرة، وهي أهم ما ورثه لابنه الوحيد. هذا الجانب الشاعري الحالم منه يضيف سطرا إلى سيرته بوصفه بطلا ومناضلا ثوريا في عيون مؤيديه، اختار فلسطين للعيش فيها، وأصبح انتماؤه الأول للكيان الإسرائيلي، انتماء وطني حقيقي دفعه لاحقا لكتابة أشعار للوطن وجنوده.
كان “شتيرن” متمردا راغبا في الاستقلال عن الانتداب البريطاني، ففلسطين أرض الميعاد، وهي لليهود وحدهم، هذا محركه الرئيسي الذي دفعه للبحث عن كيان ومؤسسة تتماشى مع أفكاره الثورية والنضالية، لذا قرر الالتحاق لمنظمة “الهاغاناه” ومن بعدها “الأرغون”، لإيمانهم بأن بريطانيا عدوة للصهيونية، كعداوة الفلسطينيين لها. ومن هنا كانت المعادلة واضحة في عينه: إذا أردت تأسيس دولة يهودية في فلسطين، فتخلص من الفلسطينيين، وأخرِج البريطانيين من الأرض.
من هذا المنطق وهب “شتيرن” حياته دفاعا عن بقاء إسرائيل، لكنه لم يحسب حساب الطرق المعاكسة التي سيمضي فيها. وفي بدايات الحرب العالمية الثانية انشق عن جماعة الأرغون، وقرر أنه سيقاتل الإنجليز بلا تراجع، وأسس “جماعة شتيرن” أو “ليحي”، ولتثبت الجماعة أقدامها على الأرض كان عليه أن يؤمّن نفسه بالمال والرجال والسلاح.
وقد دفعه التمرد إلى تصرفات طائشة، منها سرقة البنوك وإثارة القلاقل والشغب، وقتل كثير من البريطانيين في تل أبيب، فتحولت الدفة ضده، وأصبح البطل عدوا في الحكاية، وبات التخلص منه هو الهدف، فبالقضاء عليه ينتهي الجرح الذي يهدد وجود البريطانيين في فلسطين، وقد حدث ذلك وقُتل “شتيرن” كما يصف ابنه “بدم بارد” وهو ابن 34 عاما، وفي عام 1948 صنّفت الحكومة الإسرائيلية عصابة “شتيرن” منظمة إرهابية.
“في الحرب لا مكان للمشاعر، من سيمدنا بالسلاح والمال سنعمل معه”
سعى “أبراهام شتيرن” للاستقلال عن الإنجليز، وكان التحالف مع “هتلر” هو حله الوحيد، وتلك معضلته الكبرى التي تحتم عليه التحالف مع النازي لإنقاذ اليهود، وكانت تلك هي الثغرة التي ألقى الفيلم الضوء عليها، فأربكت الضيوف، سواء ابن “شتيرن”، أو الباحث الإسرائيلي في الحركة الصهيونية “أورن شوارتز”، فكلاهما ينفيان تعاونه مع ألمانيا.
لكن المؤرخ “إيلان بابيه” يثبت أن “شتيرن” كان يدرك وضع اليهود في أوروبا وأمر الهولوكوست والمذابح التي تعرضوا لها وغيرها من أمور التحريض النازي ضد اليهود، وهذا يضع “شتيرن” في دائرة الشك والإدانة، فهو بهذا لم يكن مخلصا لليهود تماما، لأنه سعى للتعاون مع عدوهم الأكبر “هتلر”، لكن هذا يبرر بشكل ما تصريحه في استجوابات منظمة “الهاغاناه” له، إذ يقول: “في الحرب لا مكان للمشاعر، من سيمدنا بالسلاح والمال سنعمل معه”.
تقاطع المصالح وتناقضها مع مبادئه اليهودية، يكشف لنا شيئا من الطريقة أو اللعبة السياسية التي يفكر بها “شتيرن”، وهي لعبة تقوم على مبدأ واضح في ساحة السياسة: “عدو عدوي هو صديقي”، وهي حيلة غالبا ما تنجح في اجتذاب الماكرين وكسب أكبر قدر من المصالح، حتى لو تعارضت مع المبادئ، أو “المشاعر” على حد وصفه.
وهكذا يضعنا “إيلان بابيه” في الفيلم أمام تلك الفرضية التي تفتح طاقة من النور، لنفهم تلك العتمة المظلمة في خطة “شتيرن” بالتحالف مع النازيين، ولم يتوقف الأمر على الألمان فحسب، بل إنه فتح بابا للتواصل مع الفاشيين الإيطاليين، وعقد بعدها “اتفاقية القدس”.
كانت المصلحة المشتركة في تلك الاتفاقية هي الاعتراف المتبادل بين الطرفين بكونهما قيادات ذات سيادة، فالفاشية الإيطالية و”شتيرن” لهما الحق والسيادة في فلسطين، لكن الملفت في بنود الاتفاقية هو إلزام إيطاليا باستخدام القوة العسكرية، لحل مشكلة الشتات اليهودي، مما يعني أن جزءا من خطة “شتيرن” هي رغبته في إجبار كل اليهود على القدوم إلى فلسطين.
دير ياسين.. مذبحة تخدم أتباع “شتيرن” وأعداءه
حتى الآن بات مصطلح “موسم الصيد” يطلق على اليساريين والليبراليين في إسرائيل، وهو يعود إلى تلك الفترة التي اشتعل فيها فتيل الصراع، وأعلنت “الهاغاناه” حملاتها لتقويض “الأرغون” من جهة، وجماعة “شتيرن” من جهة أخرى، وهنا تشكلت خطوط الأعداء في المعركة الداخلية، فقد كان “شتيرن” عدوا يشكل خطرا على القضية الصهيونية بأكملها، في حين أنه هو على الجبهة الأخرى مناضل يسعى للاستقلال.
يدفعنا المشهد إلى تأمل طبيعة الصراع من جهة، ووجود جهتين متناقضتين تسعيان للاستقلال عن بريطانيا، “شتيرن” من جهة، والفلسطينيين من جهة.
يلخص ابن “شتيرن” في الفيلم الفرق بين مقاومة “شتيرن” ومقاومة الحركات العربية -مثل حماس وفتح وغيرها- بقوله إن جماعة “شتيرن” لم تسعَ إلى قتل الأبرياء عن عمد، وإن هذا ما يفعله العرب فقط، وهي السردية الاستعمارية التي تقلب الحق باطلا، وتجد تعريفات مختلفة للفعل نفسه، بتزييفه بالوقائع أو بالتفسيرات السطحية المشوهة والمغلوطة.
لهذا ينقلنا الفيلم -ببراعة في السرد- إلى محطة “مذبحة دير ياسين” في 9 أبريل/ نيسان 1948، فقد قتلت فيها عصابة شتيرن الأبرياء من الفلسطينيين دون ذنب، ولم يعترفوا بخطئهم في تلك المذبحة، بل رأوها مكسبا كبيرا، وعلى إثرها هُجّر كثير من الفلسطينيين وأُقصوا من أرضهم.
يقول المؤرخ “إيلان بابيه” إن الجيوش العربية دخلت فلسطين لوقف التطهير العرقي، لكن “شتيرن” وجماعته رأوا الأمر تدميرا للدولة اليهودية، وهو نفس الشيء الذي يمكن أن نقيس به ممارسات جماعة “شتيرن” في الاغتيالات السياسية، وقد اعتبرت إرهابا وعملا ثوريا في آن واحد، ولكن مَن يحدد البوصلة التي تقاس بها الوطنية والخيانة؟
“تدّعي الصهيونية أنها تتحدث نيابة عن كل الشعب اليهودي”
في الحكايات ينشغل الراوي بوجهة النظر التي يسرد بها الأحداث، فهل يختار الحياد أم الوقوف مع طرف على حساب آخر؟ من البطل ومن العدو؟ وأين يرسم طريق الخير وعلى عكسه طريق الشر؟ ويقف الفيلم على حياد يكشف منه حقيقة الأشياء، لكن ما يلفت الأنظار أن اللسان الصهيوني لا يعترف بصوت آخر غير صوته، فلديه أحكام مطلقة لا رجعة فيها، ويعرف أنه على صواب، ولا يبذل جهدا للوقوف على عتبات الطرف الآخر.
ويختصر الباحث في الحركات الصهيونية “توم سواريز” تلك الفكرة في جملة يذكرها في ختام الفيلم يقول فيها: “تدّعي الصهيونية أنها تتحدث نيابة عن كل الشعب اليهودي، بغض النظر عما إذا كانوا متفقين معهم أم لا، إنها حركة قومية من ذلك النوع اليميني العنصري، لذلك يطلقون على اليهود من غير الصهاينة: كارهي أنفسهم.
وهذا يقودنا أيضا إلى إسقاط الصهيونية لنفس النظرية التي أطلقها النازيون على الألمان المناهضين للفاشية، بأنهم كارهون لأنفسهم وعرقهم. والأمر لا يخلو من سلسلة متكررة متشابكة من كراهية الآخر المختلف، وفرض الصوت الواحد دون غيره من أصوات، دوائر من الكراهية تمرر وتتوارث بأشكال مختلفة، وتولد مزيدا من العنصرية، وتكشف مزيدا من الأقنعة المزيفة للبطل الواحد.
“هذه الدولة بُنيت بالدم والعَرق وكثير من الضحايا”
كل هذا يقودنا للسؤال الأكبر الذي لا تزال الإنسانية عالقة أمامه بلا فهم أو إجابة: كيف لأشخاص عانوا من العنصرية والإبادة والقهر، أن يفعلوا نفس الممارسة بأياديهم في شعب آخر، ويسلبوهم أرضهم وأرواحهم بدم بارد، وكأنهم لم يذوقوا يوما القهر والاعتداء ذاته؟
وكأن الفلسطينيين بات عليهم أن يدفعوا ثمن الممارسات النازية غير الإنسانية على اليهود، وتلك المقارنة لا تصل بنا إلى شيء، بقدر ما تفتح الباب لفهم جذور الاعتداء والتواطؤ الجمعي على انتهاك واستباحة أرض فلسطين.
يقول “يائير شتيرن”: هذه الدولة بنيت بالدم والعَرَق وكثير من الضحايا، ولكن دور “ليحي” كان الأول والأكثر نشاطا وتطرفا للحركة السرية التي بدأت القتال ضد المحتل الأجنبي.
معادلة معقدة جدا لمحتل يقاتل محتلا آخر على نفس الأرض، في حين يقف الفلسطيني أمام كل هذا التوحش، وبسهولة يُقتل ويخوّن ويُنسى في هامش الحكاية الكبرى.
ويتركنا فيلم “شتيرن” أمام سؤال عميق عن جدوى الأخلاق في عالم لا ينتصر للإنسانية، وعن المعنى الحقيقي والعميق للدولة التي بنت أساسها على أفكار كالتي تبناها “شتيرن” وغيره من سياسيين هم في أصولهم قتلة، لكن المجتمع اعتبرهم بمرور الوقت مناضلين.