“الحراك والمجنون”.. احتجاجات طلابية لإطفاء نار فيتنام التي أسقطت “نيكسون”
حين تسنم الرئيس “ريتشارد نيكسون” كرسيّ الرئيس في المكتب البيضاوي، كان يعلم تمام العلم أن لا صوت يعلو على صوت فيتنام، فحتى ذلك الوقت، كان هناك أكثر من 500 ألف جندي أمريكي في فيتنام، قُتل منهم 31 ألفا، وراح ضحية العدوان الأمريكي أكثر من مليون فيتنامي حتى تلك اللحظة.
كانت تلك الحرب جنونية عبثية في نظر كثير من الأمريكيين، وكان “نيكسون” متيقنا أنها السبب الأهم في الإطاحة بسلفه “ليندون جونسون”. فبسبب حراك السلام المناهض للحرب الذي كان قد بدأ في منتصف الستينيات مع تصاعد جنون الحرب، زاد العنف في الشارع الأمريكي، بالتزامن مع حركة الحقوق المدنية للسود، وكل تلك الأمور اجتمعت معا لتُفقد “جونسون” ثقة الشعب فيه، وكذلك ثقة حزبه الديمقراطي، فلم ينجح في إعادة اقتراعه وترشحه إلى انتخابات الرئاسة عام 1968.
عاش “جونسون” أيامه الأخيرة منبوذا، حتى أنه كان يتجنب زيارة الجامعات خوفا على حياته، فقد حذره جهازه الأمني من أنه ربما يُغتال، وقد كان شبح “كينيدي” يلوح في الأفق دائما.
استغل “نيكسون” تلك الحالة في السياسة الأمريكية عام 1968، ليحقق حلمه بأن يكون رئيسا للولايات المتحدة، بعد محاولة فاشلة في انتخابات عام 1960، خسرها أمام الرئيس “كينيدي” بفارق بسيط. وفي 1968 حقق نجاحا ساحقا، بناءً على وعوده بإنهاء الحرب الجنونية في فيتنام، لكن الطريق لإنهائها لم تكن معبّدة، وكان له شبحه أيضا متمثلا في “جونسون” وكابوسه المتمثل في حراك السلام الذي كان قد بدأ للتو في مرحلة أكثر اتساعا وشمولا.
تلك اللحظة من التاريخ الأمريكي، هي التي يركز عليها هذا الفيلم التابع للسلسلة الوثائقية (American Experience)، من إنتاج شبكة بي بي إس (PBS) الأمريكية، وإخراج “ستيفن تالبوت”، وقد صدر في 2023 بعنوان: “الحراك والمجنون” (The Movement and the “Madman”).
يناقش الفيلم في 80 دقيقة الحرب والسلم وقوة الاحتجاج، من خلال عدد هائل من اللقطات الأرشيفية، تتدافع فيها الأحداث، وقد قُسم الفيلم إلى 4 أجزاء هي فصول العام، واستخدم “تالبوت” في السرد التاريخي وتوثيقه عددا من المصادر، واتخذها أصواتا ناطقة تعلق على الحدث بشهادتها، واستغنى عن أسلوب الرؤوس الناطقة ومزج اللقطات الأرشيفية مع المقابلات، وذلك أسلوب يُتبع كثيرا في الأعمال الوثائقية.
نحتاج إلى أن نقف على هذا العمل إذا أردنا قراءة المشهد الحالي وما يحدث في الجامعات الأمريكية من احتجاجات الطلاب ذوي الضمير اليقظ على ما يحدث في غزة، في وجه سعارٍ يتعامل به البيت الأبيض مع تلك الاحتجاجات، من باب القول والتأثير عليها بالتصريحات التسخيفية والهجومية من طرف الرئيس “بايدن” وإدارته، وباب الفعل ومحاولة التهديد باستخدام قوة الشرطة. فكل ذلك لم يُولد الآن ولا اليوم، بل هو نتاج للـتجربة التاريخية الأمريكية.
من “ديك المُخادع” إلى “الرجل المجنون”.. أقنعة الرئيس
“من أطلانطا، مباشرة وبالألوان، سيواجه ريتشارد نيكسون شخصيا مجموعة من المواطنين، ليتلقوا أجوبتهم على الأسئلة التي تشغلهم”. تلك اللحظة من عام 1968 هي التي يُفتتح بها الفيلم، وهي إحدى اللقطات الأرشيفية من حملة “نيكسون” الرئاسية.
تقدم تلك اللقطة -مع عفويتها وواقعيّتها- بناءً دراميا لشخصية “نيكسون”، وهو من أكثر الرؤساء جدلا في التاريخ الأمريكي، والوحيد الذي استقال ولم يُكمل ولايته الرئاسته. وكلها أشياء تتسق مع لقبه “ديك المُخادع” (Tricky Dick)، الذي اكتسبه منذ بواكير حياته السياسية، حين فاز بمقعد في مجلس الشيوخ الأمريكي عام 1950، مُلاحقا باتهامات عن جرائم حرب، وتمويل لحملته الانتخابية من مصادر فاسدة، ونشر شائعات مُشينة تتعلق بمنافسيه.
وفي حملته الانتخابية عام 1968، تلبس “نيكسون” مرة أخرى قناع “ديك” حين سأله أحد الحضور عن رأيه فيما قول الجنرال “كيرتس لماي” إنه سيستخدم القنبلة النووية لتحقيق النصر في فيتنام، فرد “نيكسون”: لا أرى أنه ينبغي استخدام القنابل النووية في فيتنام أو أي مكان آخر، ولا يُمكننا أن نخاطر بوضع العالم على حافة الهاوية النووية بأي شكل أو أي وسيلة”.
كان هذا وعد حملته الانتخابية، ولكن كانت له خطة سرية أخرى لإنهاء الحرب، خطة أسماها “الرجل المجنون” (The Mad Man).
“أريد خيار التصعيد”.. خطة تفاجئ فريق الأمن القومي
رأى “نيكسون” أن لا وسيلة للخلاص من الحرب التي تورطت فيها أمريكا، إلا أن يُقدم نفسه للسوفيات وللفيتناميين الشمالييّن على أنه “رجل مجنون”، وأنه على استعداد لتصعيد الحرب إلى الدرجة التي تستلزم إلقاء القنبلة النووية وشَيّهم إذا تطلب الأمر، حتى يأتي بـ”هو تشي مِنه” إلى باريس للتفاوض من موقع المهزوم.
ولم تكن مآربُ “نيكسون” قابلة للتحقيق، لولا مهندس حاذق لا خلاق له ولا رحمة في قلبه، يتولى لعبة السياسة الخارجية الأمريكية، وهنا جاء دور “هنري كيسنجر”، وكان حتى عام 1969 من أشهر أساتذة الدبلوماسية والسياسية في الحقل الأكاديمي الأمريكي، حتى عيّنه “نيكسون” مستشارا للأمن القومي.
يورد الفيلم عددا من المصادر من داخل إدارة “نيكسون” حينئذ، لتقديم شهادات تساعدنا على فهم خطة “الرجل المجنون”. ومن تلك المصادر “مورتون هالبرين”، وهو أحد المستشارين العسكرييّن الذين اختارهم “كيسنجر” للعمل معه تحت إمرة “نيكسون”.
يروي “مورتون” أن “نيكسون” و”كيسنجر” أرادا تصعيد الحرب بشدة، فيقول: أراد “نيكسون” ورقة بحثية تكون على مكتبه، شاملة كل الخيارات المطروحة لإنهاء الحرب في فيتنام، فقدمتُ خياري إلى “كيسنجر” بأن علينا أن ننسحب بكل قواتنا! فذهب “كيسنجر” بالورقة إلى الرئيس، فقال له: هذه ورقة خيارات جيدة، ولكن الخيار الذي يهمني كثيرا غير موجود فيها! أنا أريد خيار التصعيد!
يقول “مورتون”: لقد كان خيار التصعيد مفاجئا لي، فقلت لـ”كيسنجر”: لو ذهبت في هذا الاتجاه، فسوف تصبح تلك الحرب “حرب نيكسون”، فذهب وتحدث إليه ثم عاد قائلا: سيكون الرئيس فخورا بتسميتها بهذا الاسم.
“الأطفال في فيتنام يموتون”.. دبلوماسية تسبق العاصفة
في فبراير/شباط 1969، التقى ممثلون عن حركة السلام مسؤولي البيت الأبيض وعلى رأسهم “كيسنجر”، وكان هذا اللقاء الأول، ولم يعقبه كثير من اللقاءات، ولكنه سيُحدد مسار العلاقة بين الطرفين، فقد قال ممثلو الحركة إنهم يريدون إنهاء الحرب فقط ولا شيء آخر، فأجابهم “كسينجر” قائلا: إننا في السلطة منذ 6 أسابيع فقط.
فرد عليه الحاخام “أبراهام هيشل”: لكن كما تعلم يا سيدي الوزير، الأطفال في فيتنام يموتون، لذلك كلما أسرعت كان أفضل.
يحدد ذلك المشهد أطُرا تساعدنا على فهم الحراك الأمريكي المؤيد للسلام، فهو يتخطى الأيديولوجيا وتمظهراتها. فقد كانت الحرب في فيتنام معركة ضمير بالأساس، تتخطى سرديات الوطنية والحرية والرأسمالية في مواجهة الشيوعيّة.
ففي ذلك المشهد في البيت الأبيض تواجه يهوديّان هاربان من الهولوكوست، وكان في موقع السلطة “هنري كيسنجر” وكان في موقع السلام وحراكه الحاخام “أبراهام هيشل”، الشهير بإسهاماته في تاريخ احتجاجات الحقوق المدنية وحركات السلام.
ويُذكرنا هذا بمشهد نعمت شفيق، وهي رئيسة جامعة كولومبيا ذات الأصول العربية، فقد قررت أن تتحدى الطلاب المُعتصمين احتجاجا على جرائم الإبادة في فلسطين.
“قد تدفعوننا لإصدار أحكام الإعدام”.. تهديد الحراك السلمي
لقد واجهت إدارة “نيكسون” الاحتجاج الأول في ربيع عام 1969، حين سارت مظاهرة سلميّة من البيت الأبيض إلى مبنى الكونغرس، وكانت تنظمها ربات البيّوت اللائي سئمن إرسال أزواجهن وأولادهن إلى الحرب.
كانت اللقاءات بين ممثلي الحراك السلمي والبيت الأبيض مستمرة، وقد وعد “كيسنيجر” تلك المرة وعودا حسنة، وقال إنه خلال سنة إذا عاد ممثلو التيار السلمي إلى البيت الأبيض من غير أن تكون الحرب قد انتهت، فإنه لن تكون لديه أي حجة أخلاقية لتبرير الموقف، لذلك طلب إعطاءه سنة.
في تلك اللقاءات، كان أحد مساعدي “كيسنجر” -وهو “جون إرلخمان”- يلعب دور الشرطيّ السيّئ، فبينما كان “كسينجر” دبلوماسيا كالعادة ولبقا، كان “إرلخمان” فظا إلى أبعد حد، حتى أنه هدد ممثلي الحراك بأن استمرار احتجاجهم على كل خطوات الحكومة في ملف الحرب، سيدفع الحكومة إلى اتخاذ قرارات تعسفيّة، وبحسه اللاذع قال لهم: “قد تدفعوننا إلى أن نصدر أحكام الإعدام على المخالفات المرورية”.
تل البرغر.. معركة فاصلة في تاريخ الحرب
لم تكن الحرب في الميدان تسمح باستمرار الحرب الباردة ومفاوضاتها كثيرا بين إدارة “نيكسون” وحراك السلام، فمنذ معركة “تل البرغر” في مايو/أيار 1969، بدأ الصدام الشديد.
لقد كان “تل البرغر” وصفا حرفيا أطلقه الجنود على ما أصابهم من فرم وشيّ كقطع اللحم في معركة تل البرغر، وكانت المعركة نقطة فاصلة بسبب ما أذيع في التلفاز على لسان الرقيب “كين تيبر”، فقد وصف ما أصابه وزملاءه من وحشية على يد الجنود الفيتنامييّن، للسيطرة على رقعة ليست مهمة في مصير المعركة، لقد وصف حياتهم بأنها “عديمة القيمة” لدى الإدارة الأمريكية، وأن الحرب محض “عبث”.
وتصف المؤرخة الأمريكية “كارولين أيزنبرغ” رد فعل “نيكسون” حين شاهد هذا التقرير بقولها: كيف لأشخاص مثل هؤلاء أن يظهروا على شاشة التلفاز؟ كيف سمحنا بحدوث ذلك؟ لقد كان “نيكسون” يعلم أن تلك الحادثة لن تمر بردا وسلاما.
“لم أكن لأقبل أن أقف في موقع المتفرج”
كان “جون ليبي” أحد الطلاب المُتظاهرين بسبب الضمير وانعدام أخلاقية الحرب، وهو يقول: لقد وُلدت لأسرة من الطبقة العاملة، في إحدى مدن ماساتشوستس التي نتشارك فيها جميعا نفس الخلفية الطبقية، وكان لديّ شعور من خلال تربيتي في الطبقة المتوسطة الدنيا ومن والدي، بأنني أريد أن أفعل شيئا من شأنه أن يُقنع الأشخاص الذين كانوا مثل والدي بالانقلاب على الحرب.
شارك والد “جون” في الحرب العالمية الثانية مع الجنرال “باتون”، وساعد في تحرير اليهود من معسكرات الاعتقال، لذلك كانت فكرة الضمير مهمة جدا لديه.
يقول “جون”: عندما فكرتُ في فيتنام، لم أرغب في القول “لقد انتهيت للتو من الكلية، حبيبتي هيا بنا لنبحث عن الحياة”. لا، بل أردت أن أفعل ما بوسعي، لأنهي الحرب في فيتنام، ولم أكن لأقبل أبدا أن أقف في موقع المتفرج.
“لا ترسلوا أولادنا للموت هناك”.. سر قوة الحراك
يفتح لنا الفيلم زاوية للنظر في سر قوة حراك السلام في الستينيات، فقد لعب الضمير والأخلاق دورا كبيرا في مناهضة الحرب، لكن كانت هناك عوامل أخرى أسهمت في تقوية الحراك، فقد كان حراكا ضد انعدام أخلاقية الحرب عموما، ولكن أيضا من أجل “لا ترسلوا أولادنا للموت هناك”، فلقد كانت أسر كثيرة تفقد أبناءها الشباب في تلك الحرب العبثية، وتلك قضية تمس المسيّسين وغيرهم من الناس، على اتساع أطيافهم.
وبهذا استقطب الحراك في الستينيات أطيافا كثيرة من المجتمع، منها تيار حركة الحقوق المدنية للسود، والنقابات العمالية اليسارية، حتى أنه كان يُتهم بأنه حراك “شيوعي” ومؤامرة من موسكو.
كما استقطب بعض الساسة الأمريكيين من أعضاء الكونغرس، كمجموعة أعضاء مجلس الشيوخ التي كانت تُسمى حينذاك “سيناتورز الكويكرز”، و”الكويكرز” جماعة دينية مسيحية في أمريكا، وكذلك ساسة أقوياء منهم عمدة نيويورك “جون لندساي” والسيناتور “جورج ماكجفرن”.
ناهيك عن ربات البيوت وطلاب الجامعات وقساوسة الكنائس، وكان كل ذلك متزامنا مع ثقافة الستينيات الاحتجاجية على القيم السياسية التقليدية والحرب، وقد مثّلها تيار “الهيبيز” وموسيقى “البيتلز”.
“أعطوا السلام فرصة”.. الموسيقى تصهر جميع الأطياف
لقد كان الظرف التاريخي مواتيا وضاغطا جدا لنجاح الشارع في فرض كلمته آنذاك، وكان للموسيقى وأهلها دور في تحشيد الشارع ومؤازرته، وربما لم يحضر حدث من التاريخ الأمريكي في الأغاني حضور الحرب في فيتنام.
فقد صهرت الموسيقى أطياف تيار السلام كلها في بوتقة واحدة، فكانت تُغنى القصيدة الشعرية الاحتجاجية التي كتبها أحد العبيد في نهايات القرن الـ19، واستُخدمت في حركة الحقوق المدنية للسود، وهي أغنية “يجب ألا نُزاح” (We shall not be moved)، وكانت هذه المرة في الاحتجاج من أجل فيتنام.
وأما الأغنية الأكثر تأثيرا، فهي تلك التي غناها “جون لينون” في كل مكان، في الساحات وفي الجلسات الخاصة، وحفظها الجميع بأعراقهم ومختلف أفكارهم، فكانوا يرددون “أعطوا السلام فرصة” (Give peace a chance).
في ذلك الوقت تأسس كثير من الحركات التي سُميّت على اسم المسيرات الكبرى التي كانت تُجهزها، فمنها حراك “وقف الحرب في فيتنام”، الذي نظم مسيرات في عموم البلاد في أكتوبر/ تشرين الأول ونوفمبر/ تشرين الثاني من عام 1969.
حراك أكتوبر.. أكبر مظاهرة في تاريخ الولايات المتحدة
نجحت حركة “الوقف” في تنظيم الاحتجاجات الطلابية، فبسبب الحملات المنظمة والمنشورات الدعائية، كان يوم 15 تشرين الأول/ أكتوبر يوما مزدحما في الولايات المتحدة، فقد نزل إلى الشوارع حوالي مليوني شخص في 200 مدينة مختلفة.
وقد شاركت جامعات منها “بيثال” و”هارفارد” و”ماساشوستس” في “أيقنة” الاحتجاج بكثير من الأفعال التي تحضر مشاهدها في الفيلم، مثل “جرس جامعة بيثال” الذي كان يُقرع مرة من أجل كل قتيل سقط في فيتنام، وكان يظل يُقرع أياما إلى أن تنتهي لائحة أسماء القتلى.
لقد كان حراك أكتوبر قويا وشعبيا، وأثبت قوة حركة الاحتجاج، حتى أن أحد مُعلقي الأخبار الذين غطوا المظاهرات كان يقول: حينما تُذكر كلمة متظاهر، تحضر إلى الذهن صورة شخص طويل الشعر في لحيته حبات من الخرز، لكن اليوم بدت الحشودُ التي سارت وهتفت بالخطابات المناهضة للحرب أشبهَ بعيّنة عشوائية اختارها مكتب الإحصاء السكاني.
كان للتحالفات التي نظمتها أطياف حراك السلام أثرها، فبينما كان أحد الطقوس الاحتجاجية كقراءة أسماء الجنود القتلى أمام مبنى الكونغرس يؤدي بصاحبه إلى الاعتقال من الشرطة، كان “السيناتورز الكويكرز” يستغلون حصانتهم البرلمانية، ليُكملوا تلك المهمة بدلا من الشخص الذي اعتُقل.
وفي التحالف مع الشيوعيين التروتسكيين، تأسست حركة جديدة في قلب الحراك هي “موبي” (MOBE)، وقد دعت إلى المسيرة الكبرى التالية في نوفمبر/ تشرين الثاني 1969، وغطتها وسائل الإعلام، وكانت أكبر مظاهرة في يوم واحد في التاريخ الأمريكي. وقد استدعى “نيكسون” فرقة من الجيش للتعامل معها، فكانت تلك واحدة من وسائله المتعددة لمحاولة احتواء الحراك.
“عليك أن تضعنا جميعا في السجن إذن”.. حرب السخرية والابتزاز
كان مبدأ “نيكسون” أن يخفف رعب المسيرات بالسخرية منها والتأثير عليها كلاميا، حتى في اجتماعاته الداخلية، ففي إحدى المسيرات التي طوقت البيت الأبيض، كان المتظاهرون يضيئون الشموع، فعلق “نيكسون” لجهازه قائلا: ألا يمكننا أن نأمر بعض المروحيات بالتحليق، فتطفئ أضواء تلك الشموع المزعجة؟
لقد ضغطت إدارة “نيكسون” ضغوطا كثيرة على الحراك، وقد كان الضغط في بعض الأحيان يتضمن ابتزازا بالتعريض بالحياة الشخصية للأفراد.
وقد حدث بعض ذلك في عشاء جمع بين “جون إرلخمان” ومجموعة من مناهضي الحرب، منهم “ماري ماكجروري” الحائزة على جائزة بوليتزر للصحافة، وكانت ملتزمة بمناهضة الحرب، فقال لهم “إرلخمان” مشيرا إلى عمودها الذي كان قد نُشر في 400 صحيفة حول العالم في ذلك الوقت: عليكِ أن تُلغي هذا العمود يا “ماري”، فهذا يعد خيانة، ناهيك عن أنه يقوض قوانا وقدرتنا على العمل، وإذا لم تفعلي، فسنضعك في السجن.
لقد كان يمزح مزاحا ثقيلا، فقاطعه أحد الحاضرين: سيتعيّن عليك في النهاية أن تضعنا جميعا في السجن إذن. فرد قائلا: لا مشكلة، سوف نبني جدرانا أعلى فأعلى.
كان مزاح “إرلخمان” الثقيل ابتزازا واضحا، وواحدا من وسائل “نيكسون” للضغط على الحراك، وكان لـ”نيكسون” ذاته أسلوبه في التأثير على الحراك والتسخيف منه، فقد خرج في أحد الخطابات ذات مرة بينما كان الشارع مشتعلا ليقول: نعلم جيدا أن هناك حراكا مناهضا للحرب، يتصاعد كل يوم تستمر فيه الحرب، ولكن على أي حال، لن أتأثر بتلك الاحتجاجات بأي شكل.
نداء الأغلبية الصامتة.. أسلوب شعبوي يثير الفوضى في الشارع
بعد الاحتجاجات الكبرى في سان فرانسيسكو خرج “نيكسون” مرة أخرى على الناس، فقال: رأيت اللافتات وقد كُتب عليها “نخسر في فيتنام، أعيدوا الأبناء إلى الوطن” وأنا باسمي رئيسا للولايات المتحدة لا يُمكن أن أترك سياسة الأمة كلها تتقرر وفقا لما تريده الاحتجاجات في الشارع.
في ذلك الخطاب استخدم “نيكسون” أسلوبا شعبويا معهودا في السياسة الأمريكية، حين ناشد “الأغلبية الصامتة الوطنية” بأن تخرج إلى الشوارع، لتُخبر مناهضي الحرب أنهم ليسوا إلا أقلية، وقد خرجوا ونجح “نيكسون” في تحويل الشوارع والساحات إلى مواجهة عنيفة تصلح لمقدمات حرب أهلية، وحوّل الاحتجاجات من خلاف على الحرب، إلى خلاف على الوطنية!
على جبهة أخرى، كان جهاز الرئيس يتصرف بتحاذق، حين خلق للرئيس وقراراته بشأن الحرب شعبية مزيفة، فكانت تُلتقط صور له وعلى مكتبه خطابات وبرقيات من “الأغلبية الصامتة”، وإنما كان كثير منها مدبرا من الداخل من المخابرات، كما اعترف بذلك أحد العاملين في إدارة “نيكسون”.
وكان نائب الرئيس يومئذ “سبيرو أغنيو” يخرج في مواجهات المؤتمرات الصحفية، فيواصل السخرية والتحقير قائلا: إني أتساءل، لو لم تكن هناك كاميرات للتليفزيون لتصوير المسيرات والمظاهرات، كم كان ليبلغ عدد الذين يشاركون أو ينزلون إلى الشوارع، إذا علموا أنه لن يكون هناك من يسجل تصرفاتهم الغريبة لعرضها في البرنامج الإخباري التالي؟
وفي خطابات أخرى وصف المُحتجين بأنهم “ثرثارون سلبيون”، لا تعبر آراؤهم عن أمريكا الحقيقية وما تريده الجماهير.
“خطاف البطة”.. عملية تسعى لتكرار الكارثة النووية
“تمخض الجمل فولد فأرا”. كان هذا تصور أصحاب حراك السلام في الستينيات، فقد استمرت نارها سنوات بعد عام 1969 العنيف، وتضاعف أرقام القتلى بمرور الأيام، حتى سُحبت القوات الأمريكية في عام 1973. لكن المذكرات والتاريخ أثبتا أن الحراك كان مؤثرا، أو أنه على الأقل منع كارثة نووية أخرى مدمرة كهيروشيما وناكازاكي.
كانت عملية “خُطاف البطة” (Duck Hook) هي عصا “نيكسون” السحرية التي أراد أن تخلصه من الحرب، وقد خُطط لتنفيذها عام 1969. وكانت تهدف إلى التنكيل بالشعب الفيتنامي، من خلال الضرب بالأسلحة النووية، ثم الصلاة من أجل أن يقبل الفيتناميون الشماليون بشروط “نيكسون” للتفاوض.
وقد اعترف “نيكسون” في مذكراته بتأثير الحراك عليه، على عكس ما كان يُظهره في خطاباته العامة، بل إنه دائما ما كان يخشى من أن يؤثر الحراك على صورته عند الفيتناميين الشماليين والسوفيات، الذين يُحتمل أن يروه رئيسا لا شعبية له، بل رئيسا يضع مجتمعه على شفا حرب أهلية مُحتملة. وما حدث بعد 1969 هو أن الحراك دفع “نيكسون” الذي أراد أن يراه أعداؤه مجنونا، إلى أن يكون مجنونا حقا.
غزو كمبوديا.. جنون يدفن الدستور ويشعل الجامعات
بلغ جنون “نيكسون” ذروته في أيار/ مايو 1970. ففي نهاية أبريل/ نيسان، ألقى “نيكسون” في الأمة خطابا يخبرهم بأن الجيش الأمريكي غزا كمبوديا، لكونها ملاذا آمنا لقيادة “الفيت كونغ”، وبهذا القرار توسعت حرب فيتنام، في حين كان كثيرون يظنونها في طريقها للانحسار.
اندلع الحراك مرة أخرى في الجامعات الأمريكية فاتح مايو/ أيار، وفي جامعة كينت بولاية أوهايو، نُظمت مسيرة دُفن فيها الدستور الأمريكي، احتجاجا على إدارة “نيكسون” التي شنت حربا لم يقرها الكونغرس الأمريكي، مما يعد انتهاكا دستوريا.
وفي الرابع من مايو/ أيار، اشتعلت الأحداث في مدينة كينت بين الشرطة والمتظاهرين، ووقعت مذبحة جامعة كينت التي قُتل فيها 4 طلاب وجُرح العشرات برصاص الحرس الوطني، وبأوامر من “نيكسون” شخصيا. ويرى كثير من المؤرخين أن تلك الحادثة هي بداية انزلاق “نيكسون” للأسلوب السلطوي، الذي انتهى بفضيحة “ووترغيت”، والإطاحة به.
“الحراك والمجنون”.. بوادر تاريخ يعيد نفسه مرة أخرى
يتحدث “فرانك جويس” -وهو أحد طلاب الاعتصام في الستينيات- قائلا: حينما أتحدث لأحد شباب اليوم الناشطين، فإن إحدى النقاط التي أهتم بطرحها دوما هي أنكم لن تعرفوا لحظة التأثير الحقيقي لما تفعلونه! قد لا تعرفونه خلال أسبوع ولا شهر ولا سنة، ولا حتى عقد كامل من الزمن، لكن سيكون لكم تأثير، تأثير مهم وليس على هامش ما يحدث.
وربما يكتب الطلاب المُعتصمون في ساحات الجامعات الأمريكية الآن من أجل وقف الحرب في غزة تاريخا لا يعلمونه، ولن يعلموه الآن، مع أن بوادر ذلك بدأت تظهر في الشراسة التي يعامل بها البيت الأبيض الاحتجاجات، وموقف الإدارة من “نتنياهو” الذي بدأ يجفو.
فالرئيس “جو بايدن” يُدرك جيدا أنه مُقبل على انتخابات رئاسية، وربما يطيح هذا الحراك به مثلما أطاح بسلفيه القدامى، “جونسون” و”نيكسون”!