“طريقة تعذيب بريطانية للغاية”.. فظائع اقترفها الإنجليز في كينيا ثم ورثها الصهاينة
على مدار ثماني سنوات بين عامي 1952-1960، واجهت بريطانيا انتفاضة في مستعمرتها بكينيا، تلك الانتفاضة التي سُميت فيما بعد انتفاضة “الماو الماو”، وقادها جيش الحرية والأرض الكيني، المشكل من شعوب الكيكويو.
في تلك الأثناء، لم يكن قد مر على فظائع “هتلر” والحرب العالمية الثانية الكثير لينسى الناس، ولكن مع ذلك فقد أبت بريطانيا إلا أن تخطو على أعراف “عالم جديد حر”، كان يفترض أنه تشكل في أعقاب الحرب العالمية الثانية، وبريطانيا أحد مؤسسيه الذين قاتلوا النازية في سبيل الحرية.
لم تكن وسائل بريطانيا في تقويض انتفاضة “الماو ماو” مستحدثة، بل لم تكن سوى امتداد لـ”طريقة تعذيب بريطانية للغاية” مارستها في مختلف مستعمراتها، في الهند وماليزيا وفلسطين، ثم أورثت ذلك الأسلوب لعصابات الهاغاناه فيما بعد.
فيلم “طريقة تعذيب بريطانية للغاية” (A Very British Way of Torture) هو وثائقي للمخرج البريطاني “إدوارد ماكجون”، وقد عُرض عام 2022 على القناة الرابعة البريطانية والجزيرة الإنجليزية، ويفتح فيه أرشيفا كان مخبئا استند إليه صانعو الفيلم، ويحتوي الملفات التي أخفتها المخابرات البريطانية أكثر من 50 عاما، وتتضمن 500 ملف فائق السرية، وهي الوثائق التي تتعلق بنهاية الإمبراطورية.
كشف الأسرار بأمر من المحكمة.. عودة الوثائق إلى الحياة
كان أول من تحدث عن الوثائق المفقودة من تلك المرحلة، هي الباحثة “كارولين إلكنز” في كتابتها “قصة لم تُروَ عن غولاغ بريطانيا في كينيا” الذي نالت عنه جائزة “بوليترز”، فقد قالت إن القوات البريطانية الاستعمارية في مرحلة انسحابها من كينيا دمرت مئات الآلاف من الوثائق، التي توثق تعامل الإدارة الاستعمارية أيام انتفاضة “الماو ماو”، في حملة تطهير شاملة لم يبقَ بعدها سوى بضع مئات من الوثائق.
لم تكن “إلكنز” تعلم أن كثيرا من الوثائق أفلتت من تلك المحرقة، وقد بلغت 26 ألف ظهرت للمحكمة عام 2013، بعد فك السرية عنها وإخراجها من مخبئها السري في أحد الأماكن بمنطقة “هانزلوب” الريفية، في الحادثة التي عرفت باسم “كشف هانزلوب”.
في المشهد الافتتاحي للفيلم، يواجهنا الأستاذ الجامعي المختص بالتاريخ في جامعة وارويك “ديفيد أندرسون”، فيحدثنا عن أهمية ذلك الأرشيف الضخم الذي كُشف عنه بعد طول غياب، فيقول: حينما كنت تذهب لطلب تلك الملفات من “إم آي 6″ و”إم آي 5” (أجهزة استخبارات)، يخبرونك بأنها لا وجود لها من الأساس.
لم تظهر تلك الوثائق إلى العلن تفضلا من المخابرات البريطانية، ولا عملا بمبدأ قانون الكشف عن المعلومات بالتقادم، بل استجابة للضغط في قضية رفعها قدامى محاربي الماو ماو للمحكمة العليا في بريطانيا عام 2013، مطالبين بتعويضات عن التعذيب الذي نالهم.
وافقت الحكومة البريطانية بداية على تسوية القضية، مقابل 20 مليون جنيه إسترليني، لتجنب نشر الوثائق في المحكمة، ولم ينشر منها سوى جزء بسيط. وفي نفس العام، أعلن وزير الخارجية البريطاني “ويليام هيغ” عن أسفه الشديد لأبناء شعب كينيا ممن تعرضوا للتعذيب، ولكنه كان مجرد اعتذار متعجرف وأبوي، ظل يصر فيه على أن المسؤولية يجب أن تقع على عاتق “الإدارة الاستعمارية” وحدها، لا الحكومة البريطانية ودافعي أموال الضرائب.
ومنذ ذلك الحين، ظلت الوثائق تكشف ويحللها المؤرخون، وبعد مرور عقد على القضية، أراد صانعو فيلم “طريقة بريطانية جدا في التعذيب” أن يلملموا ذلك النثار، ليصنعوا منه ورقة كاملة، تتناول ما حدث وما أُخفي.
مستعمرة الشاي.. آخر ما بقي من الإمبراطورية في أفريقيا
يعتمد المخرج “إدوارد ماكجون” في فيلمه على عدد من المصادر، منها شهادات محاربين سابقين في انتفاضة الماو ماو، وضحايا من الفلاحين اعتُدي عليهم، وأبناء المحاربين، ومستوطنون من البريطانيين البيض، بالإضافة إلى مصادر أكاديمية، منها حديث الأستاذ “ديفيد أندرسون”، و”شاو تايانا” وهي شريكة مؤسسة في متحف بريطانيا الاستعماري، وباحث الدكتوراه في التاريخ الأفريقي “نيلز بويندر”.
وبالإضافة إلى المصادر التي تستخدم في هيئة رؤوس ناطقة لسرد الحكاية، يستخدم “ماكجون” بعض اللقطات الأرشيفية والصور التي التقطت أثناء أحداث الانتفاضة، مع إعادة بناء بعض الأحداث التي يرويها الشهود، في مشاهد تمثيلية لا تستحوذ على وقت كبير من زمن الفيلم، مقارنة بالصور والمقاطع الحقيقية للأحداث.
كذلك يستخدم “ماكجون” الأسلوب السينمائي العتيق منذ بدايات السينما، حينما كانت صورة بلا صوت، فمن ذلك استخدام شاشة سوداء فاصلة بين المشاهد، وكتابة المعلومات التاريخية على تلك المشاهد، لتوضيح خلفية الأحداث جميعها.
تحمل إحدى تلك الشاشات السوداء معلومات تأسيسية في غاية الأهمية. فالشاشة السوداء الأولى تخبرنا عن وضع الإمبراطورية البريطانية في مطلع الخمسينيات، بعد استقلال كبرى مستعمراتها الهند، ثم تلتها عدة دول أخرى، لكن بقيت كينيا كما هي بوابة استعمارية لبريطانيا على قارة أفريقيا، ومستعمرة لزراعة الشاي تغذي الرأسمالية الغربية.
في الشاشة الثانية نعرف أن المستوطنين البيض كانوا يستحوذون على 30 ألف كيلومتر من الأراضي الخصبة الصالحة للزراعة في كينيا حتى عام 1952، وهو عام قيام الانتفاضة، وكان يعمل في تلك الأراضي 100 ألف من السكان المحليين وُطنوا قسرا في تلك المناطق، للعمل فيها لصالح المستوطنين البيض، كما أنهم أجبروا على التخلي عن عاداتهم ولغاتهم، وتعلموا الإنجليزية لمخاطبة السادة.
“لا تستطيع مخاطبة المستوطن الأبيض إلا بكلمة سيدي”
في تلك المستوطنات، كان هناك سادة وعبيد بطبيعة الحال، في الفيلم يحكي بعض من عملوا فيها ودفعهتم تلك الحالة إلى القتال في انتفاضة الماو ماو ما يلي: لم تكن تستطيع مخاطبة المستوطن الأبيض إلا بكلمة “سيدي”، تلك الكلمة إذا لم تنطقها قبل كل حوار بينكما، فكأنك ارتكبت جريمة تستوجب الاعتقال والتعذيب، هناك أناس اعتقلوا وعذبوا من أجل ذلك.
لقد رأى الكينيون كل ذلك، في وقت كانت الدول تتحرر فيه تباعا، فقرروا أن يهبّوا أيضا لانتزاع حريتهم بأيديهم، تلك الأيادي التي سيقطعها حرفيا ضباط بريطانيا أثناء قمع الانتفاضة، بمعونة جنودهم من الكينيين الذين ارتبطت مصالحهم بمصالح الاستعمار.
تذكر “إِلكنز” في كتابها أن 1.5 مليون كيني مر على الأقل ولو ليوم بشبكة معسكرات الاعتقال البريطانية ذات الحراسة المشددة، التي نشرتها بريطانيا عبر القرى والمدن في كينيا، كل ذلك ممارس بعنف ممنهج أُخفي بمستوى عال من الحرفية.
“لا يمكن تحقيق الاستقلال إلا بالمقاومة المسلحة”
كان الإعلام الدولي قد بدأ يطرح الأسئلة حول ما يحدث في كينيا ومدى بشاعته، فاضطرت بريطانيا إلى الحديث عن الأمر، وصورت انتفاضة الماو ماو على أنها “إرهاب” يهدد المستوطنين والمدنيين في كينيا.
وقد كان هناك “إرهاب” حقا كما أسمته بريطانيا، ويذكر ذلك أحد مقاتلي الماو ماو في الفيلم، مبررا ذلك بأنها “الحرب، هي هكذا الحرب، كما أن هناك من المدنيين من يتعاونون مع المستوطنين البيض، وكان يجب علينا التعامل معهم”.
وفي إحدى حلقات سلسلة “حروب بريطانيا المنسية” التي عرضتها الجزيرة الوثائقية، أكدت إحدى مقاتلات الانتفاضة حتمية ذلك الأمر بقولها: لا يمكن تحقيق الاستقلال إلا بالمقاومة المسلحة، فلا يكذب عليكم أحد، فمنذ القدم وحتى اليوم، لا يتحقق الاستقلال إلا بالمقاومة المسلحة.
ومع كل ذلك، لم يُقتل الكثير من المستوطنين البيض في أعمال عنف الماو ماو، ويقول أحدهم في الفيلم: قُتل 32 من البيض، وآلاف من الكينيين في المقابل، ناهيك عن الجرحى والمعتقلين والمعذبين.
“آرثر يونغ”.. ضابط اختار الجانب المشرق من التاريخ
يستضيف الفيلم ضابطين من الجيش البريطاني الاستعماري، أولهما الضابط “آرثر يونغ” الذي أُوفد إلى كينيا للتحقيق في انتهاكات حقوق الإنسان التي مارسها ضباط الاستعمار، سواء بتنفيذ أعمال العنف المزعومة، أو محاولة التستر عليها.
وقد عرض “يونغ” ما توصل إليه في نهاية المطاف على وزارة الشؤون القانونية في كينيا، لكن التحقيقات أغلقت من دون جدوى، فدفع ذلك “يونغ” لتقديم استقالته من مهمته، بسبب إعاقته عن أداء مهماته من قبل السلطات، وتلك استقالة ظلت مخفية ضمن الوثائق السرية طيلة 50 عاما.
ويعلق الباحث “نيلز بويندر” على تلك الاستقالة، قائلا إنها تكشف تهافت تلك الحجة التي يرددها الناس عن أن أساليب بريطانيا في تلك الوقت كانت معهودة ومتعارفا عليها في الفكر الاستعماري عموما، ولا يمكن الحكم عليها بأحكامنا اليوم. هذا الكلام تقف ضده استقالة “يونغ”.
“ترينس جافهان”.. ضابط متشرب بقيم الاستعمار وغطرسته
الضابط الثاني في الفيلم هو “ترينس جافهان”، وهو ضابط بريطاني مولود في الهند، أي أنه نشأ متشربا قيم الإمبراطورية الاستعمارية وغطرستها، وقد كُلف بإدارة 6 معسكرات اعتقال أيام انتفاضة “الماو ماو”.
يتخذ المخرج “ماكجون” شخصية الضابط “جافهان” رمزا للبطش الاستعماري البريطاني في كينيا، لاجتماع خصلتين فيه؛ وهما الجبروت والإنكار.
هذا ما تثبته المقابلة التلفزيونية التي أجريت معه عام 2002، ويتضمن الفيلم لقطات أرشيفية منها، يروي فيها “جافهان” بطولاته في قمع انتفاضة إرهابيي الماو ماو. وحينما يواجهه المذيع بالجرائم التي ارتكبت، ينكر -وهو يرغي ويزبد- أن يكون أي إنسان قُتل تحت إمرته.
يتحدث أحد ضحايا القمع في الفيلم عن “جافهان” قائلا: لقد كان حضوره في المكان يصيبك بالرعب إلى أخمص قدميك، ففي أي عرض عسكري لم يكن يمكنك أن تنظر في عينيه، وإذا فعلت ذلك فاعلم أنك ستضرب حتى تكسّر عظامك.
“الأعراق غير المتحضرة تحسب التساهل خوفا”.. عذر أقبح من ذنب
لم يكن التعذيب في كينيا، وليد اللحظة أو ردة فعل تجاه ثوار مسلحين، بل كان نهجا بريطانيا معتادا، اتبع عشرات المرات في مستعمرات شتى؛ في ثورة “السيبوي” عام 1857 في الهند، وفي مذبحة “أمريتسار” التي فتح فيها الجيش النيران على السيخ الهنود المحتجين سلميا فقتل منهم ألف إنسان، وأصاب ألفا ونصفا، كما أنها شاركت بأغلبية الجنود في تحالف الجيوش الإمبريالية في قمع ثورة “الملاكمين” بالصين، في مطلع القرن العشرين.
كذلك كان الأمر في إجهاض الثورة العربية الكبرى في فلسطين ما بين 1936-1939. وبالتوازي مع الماو ماو، كان يجري قمع آخر منذ عام 1948 في ماليزيا، فيما عرف باسم “الطوارئ المالايوية”، وقد عرضته الجزيرة الوثائقية في إحدى حلقات سلسلة “حروب بريطانيا المنسية”.
في عام 1896، نشر الرائد “تشارلز إدوارد كالويل” -الذي أصبح لواء وفارسا فيما بعد- كتابه “الحروب الصغيرة.. مبادئ وممارسات”، وقد كتب فيه فصولا توضح الأساليب التي يمكن اتخاذها في التعامل مع الثورات، وكان يقصد من ذلك تحديدا دروسا استخلصها من تجربته في الهند، ثم أخذت بريطانيا تستخدمها فيما بعد في كل مكان، في كينيا وماليزيا وفلسطين.
يقول “كالويل”: الأعراق غير المتحضرة تفهم التساهل معها على أنه خوف، لذلك لا بد من محاسبتها على كل شاردة وواردة وتدجينها، وإلا فإنها ستثور من جديد.
يتحدث المؤرخ “ديفيد أندرسون” في الفيلم عن طريقة “الوهم” التي ابتكرها البريطانيون في التعذيب في “الماو ماو”، وقد شارك فيها الجنود الأفارقة والضباط البريطانيون، وكانت تهدف لسَوم المعتقل سوء العذاب، حتى ينفصل عن شعوره بالواقع من شدة الألم، ويبدأ في الاعتراف.
وقد اعتمد البريطانيون أيضا طريقة السجون الخارجية التي اتبعوها في قرى فلسطين، فحجزوا الفلاحين في القرى الكينية في أقفاص يبنونها هم أنفسهم، ويحتجزون فيها محاطين بسلك شائك لمدة 24 ساعة للاعتراف.
كذلك كان الاغتصاب جزءا من يوميات التعذيب البريطاني. فتحكي إحدى الضحايا في الفيلم قصة اغتصابها أمام أخيها، وضربها بشكل جعلها لا تستطيع السير حتى اليوم، وهي الآن في الثمانين من العمر. ويحكي آخر أنهم قطعوا إصبعه وفقؤوا عينيه. وكان من طرق العذاب تكسير الزجاج واستخدام شظاياه في حَلق رؤوس المساجين، فتصبح رؤوسهم مشرحة بالزجاج.
ومن خلال الكينيين الموالين للمستوطنين، كانت القوة البريطانية تحرق كامل القرية وتبيدها عن بكرة أبيها، كما يوضح فيلم “انتفاضة ماو ماو” من سلسلة حروب بريطانيا المنسية.
معسكر “هولا”.. قفص المذبحة التي فجرت الانتفاضة
كان في معسكرات الاعتقال الاستعمارية 80 ألفا من المعتقلين خلال سنوات الانتفاضة الثماني، وكان منها معسكر “هولا” الذي كان يعيش فيه المعتقلون أسوأ أساليب التعامل، من عمل وضرب وسخرة طيلة اليوم، إلى أن قرروا في أحد الأيام الانتفاضة على ذلك الوضع.
أضرب المعتقلون عن الطعام الرديء، ثم قرروا الرد على جلاديهم باستخدام أدوات العمل، وقد انتهت تلك الحركة الاحتجاجية بمذبحة قتل فيها 11 عاملا، وأصيب عشرات من الجرحى، كان أحدهم والد أحد الشهود في الفيلم. جرت تلك المذبحة عام 1959، ومنها بدأت تنكشف فضائح ما يحدث في كينيا على مدار 8 سنوات، وكانت حكومة بريطانيا تدعي جهلها.
في عام 1960، وبعد 15 ألف جثة دفنت في مقابر جماعية تارة، أو دفنتها عائلاتها تارة أخرى، أعلن “هارولد ماكميلان” في واحد من أكثر الخطابات العنصرية الأبوية للإنسان الأبيض في التاريخ، أن “كينيا” يمكنها أن تصبح مستقلة الآن، فلقد تغيّر الوعي الأفريقي الوطني وتقدم إلى الإمام، وتلك هي رياح التغيير التي على الإمبراطورية أن لا تقف أمامها.
ميراث التعذيب.. هدية بريطانيا لورثتها من المستعمرين
زالت بريطانيا، لكن آثار طريقتها البريطانية جدا في التعذيب لم تزل. ففي كتابه “الاستعمار البريطاني وإجهاض الثورة العربية الكبرى 1936-1939” يناقش الكاتب “ماثيو هيوز” في سياق مقارن أفاعيل بريطانية في إخماد الثورات المتكررة من الهند إلى إيرلندا وفلسطين وكينيا وماليزيا، فتلك الطريقة ذات جذور في الأكاديمية العسكرية البريطانية، وقد أورثتها المتعاونين معها في كل مستعمرة.
ففي فلسطين، كان اليهود تواقين للعمل مع بريطانيا منذ اندلاع الثورة الكبرى لدحر التهديد الوجودي الذي يمثله الفلسطينيون، واكتساب السلاح والتدريب المحترف، لذا شُكلت الفرق الليلية الخاصة البريطانية-اليهودية، بقيادة الضابط الصهيوني “أورد وينجت” لكنها كانت محدودة زمانيا في الشهور الأخيرة من عام 1938، ومكانيا في منطقة الجليل، وبنيويا حيث لم تحتوِ سوى ثلاثة فصائل.
لكن قوات الشرطة الرديفة، أدت دورا أكثر أهمية في إنجاح حملة القمع على مستوى البلاد، بانتشارها الكثيف واليومي طوال الثورة، فكانت تجليا للتعاون الميداني بين القوات البريطانية واليهود، وكان ذلك مناقضا للسياسة الرسمية القائلة بعدم دعم المستوطنين حتى لا تثار حفيظة العرب.
فقد منح القائدُ العام للجيوش البريطانية في فلسطين “أرشيبالد ويفلد” في عام 1937 المندوبَ السامي إذنا بتوظيف مزيد من مأموري الشرطة للوحدات الخاصة من اليهود، ورأى أنهم سيكونون في غاية السرور بتقديم المساعدة، وطلب أن يسلحوا ويدربهم الجيش.
الفرق الليلية اليهودية.. بذرة سلاح الاغتيالات السياسية
كانت قوات الأمن البريطانية جاهزة لمد يد العون للقوات اليهودية شبه النظامية، لعلمها أنها لا تستهدف إلا الفلسطينيين، وعندما احتاج خبير أسلحة من الهاغاناه لتجريب نموذج أوّلي لمدفع هاون، توجه إلى الشرطة البريطانية، لإجراء الفحوصات والتجارب والقياسات.
وقد حمل اليهود عن قوات الأمن عبء وظيفة “خفر الدرك” في الأماكن الواقعة تحت حظر التجول، وتدربت فرقة الخفر تلك بالبزات العسكرية البريطانية، وحملت السلاح علانية في منطقة الناصرة، وكانت القوات البريطانية تسلم كلا منهم بندقية وخمسين طلقة، كما أن الجيش ترك للقوات اليهودية إمكانية السيطرة على السلاح الذين يخلفونه وراءهم في المعسكرات بعد الرحيل.
وعوضا عن الجنود العرب الذين تسربوا من الشرطة البريطانية في فلسطين، جاء اليهود ليحلوا محلهم، فدُربوا بطريقة نظامية. وقد أصبح ذلك الفريق من الشرطة -في النهاية- سلاح الاغتيالات السياسية التي استخدمها الصهاينة ضد البريطانيين والعرب على حد سواء فيما بعد، وكان من هؤلاء “موشيه دايان”.
لقد كانت الفرق الليلية -كما يذكر “ماتيو هيوز”- متأثرة بأسلوب القمع البريطاني المعروف بالرعب الضارب، وأنزلته على الأعداء عشوائيا من غير أن تفرق بين ثوري ومدني، فأبادت فصائل ثورية عن بكرة أبيها، ولم تُبق منهم أسرى ولا مساجين، وكانت “آلات قتل جيدة التشحيم” لا ترعوي عن القتل خارج القانون أو داخله.
جيل التأسيس الإسرائيلي.. أفضل تلامذة الجيش البريطاني
تعلم المقاتلون اليهود المنتسبون إلى الفرق الليلية الخاصة سبل استخدام العنف من البريطانيين، وكانوا معجبين بالطريقة التي يمارسها العسكريون البريطانيون، وكان “إيغال آلون” -وزير الخارجية الإسرائيلي فيما بعد- يخرج فيما يشبه رحلات صيد للعرب مع ضابط بريطاني، وقد شاهده وهو يعدم 3 سجناء أحضرهم له اليهود، من دون أي محاكمة.
وسرعان ما اتبع أبناء الفرق الليلية مذهب معلميهم البريطانيين، ويذكر “هيوز” أن الفرق الليلية أعدمت ثُمن رجال قرية “كفر مصر”، لتجبر الأهالي على تسليم البنادق غير المرخصة، مطبقين العقوبة المفضلة لدى الجيش البريطاني في قمع القرى الفلسطينية آنذاك، وهي عقوبة “العشر”، أي إعدام رجل من كل عشرة، للضغط على الأهالي.
يذكر كذلك أحد جنود الفرق الليلية الإسرائيليين أنهم قتلوا 20 عربيا، كانوا قد هبوا لإطفاء حريق أشعلته إحدى الفرق الليلية بالبنزين.
كما يذكر “تسيفي برينر” -وهو أحد قادة الجيش الإسرائيلي فيما بعد- أنه تعلم من أبيه الروحي “وينجت”، ففي إحدى المرات خرج إلى أهالي قرية الدنة، وفتح أفواههم ثم أمر الجنود الإنكليز بحشو أفواههم بتراب متشرب بالنفط المنسكب من أنبوب اتُّهم أهالي القرية بتحطيمه.
كان “وينجت” يحلو له تعذيب العرب أمام اليهود، ففي إحدى المرات رسم دائرة من النار، ثم أمر القرويين أن يقفوا في منتصفها ويعترفوا بالمسؤول عن كسر خط النفط. وفي مرة أخرى أمر ضابطا يهوديا بأن يقتل قرويا، وحينما تردد اليهودي نهره “وينجت” حتى نفذ الأمر، وكان القتل من أجل العبرة حتى يعترف أبناء القرية.
وهناك حوادث أخرى كثيرة يتضمنها عمل “هيوز” البحثي الضخم الذي يقع في 600 صفحة، ويتضمن فصولا عن تعلم اليهود من أساتذتهم في الجيش البريطاني وسائل تعذيب المعتقلين، لانتزاع الاعترافات، فقد كانوا يجعلونهم يمارسون التطبيقات العملية بأيديهم على أسرى ومعتقلين من العرب.