“تل الزعتر خفايا المعركة”.. مجزرة من الحرب الأهلية تغذيها إسرائيل على مشارف بيروت
تظل معركة تل الزعتر بكل تعقيداتها ملفا مغيّبا، بتواطؤ فلسطيني ولبناني وعربي ودولي غير معلن، فمع أن المجازر كانت مروعة فلم يُجر فيها أي تحقيق رسمي من المنظمات الأممية أو الدولية، ولعلّ ذلك يعود إلى شعور شتى الأطراف بالمسؤولية عن مقتل حوالي 5 آلاف مدني، وتقديمهم مثالا صارخا عن دفع المواطنين الأبرياء ثمن نزوات الفرقاء السياسيين.
لهذا كلّه يعد فيلم “تل الزعتر، خفايا المعركة” الذي أنتجته الجزيرة الوثائقية مغامرة حقيقية، تسعى للبحث عن القطع الناقصة من مشهد مركّب مبعثرة أجزاؤه، للوصول إلى القصّة الكاملة لجريمة منسية، وأن تُسائل من عايشوا هذه المعركة، أو أسهموا فيها، بحثا عن أجوبة ظلّت معلقة، ولا شكّ أنهم سيقدّمون تصوراتهم التي تتوافق مع رؤيتهم، أو تبرّر سلوكهم، أو تعفيهم من المسؤولية عمّا حدث من الجرائم.
وهذا ما يزج بالمتفرّج في اللعبة، ويدفعه إلى محاولة التثبت من مصداقية هذه الشهادات بنفسه، ولكنه لا ينجو من الفخ، فقد ينتصر إلى هذا الرأي أو ذاك، بناء على موقفه من جوهر الاختلاف حول طبيعة الوجود الفلسطيني في لبنان، ومن الأدوار التي اضطلعت بها الأطراف الفلسطينية بكل تياراتها، واللبنانية بشتى طوائفها، والسورية والعربية والأمريكية والإسرائيلية.
“تل الزعتر” هو مخيّم تم أنشئ عام 1949 في المنطقة الشرقية من بيروت، وهي ذات أغلبية مارونية، فتجمّع فيه نحو ألفي ساكن، في مساحته التي تمتد على كيلومتر مربع واحد، ثم انتشرت بالقرب منه مخيمات فلسطينية أخرى، وأصبحت بيروت الشرقية محاطة بها.
وبعد 1967 -ولا سيما في أيام الحرب الأهلية- أصبح المخيم مقصدا لفلسطينيّين قادمين من المخيّمات المجاورة، أو لبنانيين مسلمين هاربين من نيران الحرب، حتى بات يضم ما بين 50-60 ألف لاجئ، فاشترك فيه المدنيون مع المقاتلين الفلسطينيين المنتمين إلى شتى الفصائل. ولكثرة ما شهد من الحوادث أضحى معسكرا أكثر من كونه مخيما للاجئين.
فوضى المخيمات.. الديناميت التي أشعلت الحرب الأهلية
ينزّل صقر أبو فخر -وهو مؤرخ وباحث سياسي- مأساة المخيم في سياقه من السياسة اللبنانية الرّسمية تجاه الوجود الفلسطيني على أراضيها، فقد كانت تفتقر إلى رؤية للتعاطي مع هذا الطارئ الناتج عن التهجير القسري للفلسطينيين منذ النكبة، فتكتفي بوضعها تحت إشراف الاستعلامات لا أكثر، وتوكل الإشراف عليها إلى المخافر، بعيدا عن أي معالجة اقتصادية أو اجتماعية أو سياسية.
ولم تشكل في أي وزارة إدارة تعنى بشؤون الفلسطينيين، فتُرك أمرهم إلى الصليب الأحمر ثم إلى الأونروا (وكالة الأمم المتحدة لإغاثة وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين في الشرق الأدنى).
ومع أن أبو فخر لا يفصّل القول في العوامل التي أثرت في مزاج اللبنانيين ونظرتهم لهذه المخيمات، وحوّلتها من التعاطف إلى الضيق والتبرّم، فإن معارف المتفرّج ستستدعي حتما ضرورة توسّع هذه المخيمات طبيعيّا، ولكنّ ذلك سيحدث على حساب مصالح الأهالي.
كما ستستحضر بعض تجاوزات فصائل المقاومة التي أزعجت فوضاها المسيحيين عامّة، وسيتوقّف خاصّة عند تحالف منظمة التحرير مع الحركة الوطنيّة اللبنانيّة بقيادة كمال جنبلاط، وكانت تعمل على عزل الكتائب، وإنهاء المارونية السياسية المسيطرة على لبنان.
ويكتفي أبو فخر بالإشارة إلى أنّ الحرب الأهلية تفجرت، ودارت معارك مباشرة بين الجيش اللبناني ومنظمة التحرير، وقد صرح الرئيس سليمان فرنجية لقادة الأحزاب المسيحية أنّ الدولة لم تعد قادرة على حمايتهم، وأنّ عليهم أن يعوّلوا على أنفسهم، فأعطى الإشارة بتكوين الميليشيات وتفعيلها، وأعلن رسميّا قيام الحرب الأهلية، وكان تصريحه ذلك إثر ضغط البلدان العربية، بعد أن قصف الجيش اللبناني المخيمات الفلسطينية 1973.
مقتل أعضاء حزب الكتائب المارونية.. حادثة أغضبت المسيحيين
يأخذنا الفيلم إلى الأسباب المباشرة للمعركة، وهي اتهام الفلسطينيين بمحاولة اغتيال الرئيس اللبناني بيار جميّل، وما تبها من صدامات دموية في الوقائع التي تعرف بـ”ـحادثة البوسطة”، ثم إلى الشرارة الكبيرة الأولى في 6 ديسمبر/ كانون الأول 1975، بعد العثور على 4 جثامين لأعضاء من حزب الكتائب المارونية.
أثارت الواقعة ردة فعل عنيفة لدى المسيحيين، ثم فقدت شتى الأطراف المشاركة في الحرب البوصلة، ولم يعد موضوع الصراع الاختلاف في الأفكار والتصورات -وفق مريد الدجاني من جهاز الأمن والمعلومات في حركة فتح- وأضحت الوقائع تسير نحو خوض حرب على الهوية، ويقصد انتقام المسيحيين من كل المسلمين في المخيم، لا سيما بعد أن لجأ إليه كثير من المسلمين اللبنانيين، هروبا من جحيم الحرب.
انتهت المعارك بانهيار أجهزة الدولة، وانشقاقات في الجيش اللبناني، على خلفيات طائفية ومذهبية، وفي هذا السياق فرّ سليمان فرنجية رئيس الجمهورية خارج مقره الرسمي، بعد سقوط قذائف مدفعية عليه.
وينفي إيلي أبو عبود -وكان مقاتلا في ميليشيا النمور الأحرار، ثاني قوة مسيحية بعد الكتائب- وجود أي نية عدائية تجاه الفلسطينيين في البداية، مذكرا باستقبالهم من قبل اللبنانيين المسيحيين.
ولذلك فلعل أطرافا أخرى كانت تدفع إلى المواجهة الفلسطينية – اللبنانية المسيحية، كما يرى الوزير عن حزب الكتائب سجعان قزي، لأنّ حادثة مقتل أعضاء حزب الكتائب في 6 ديسمبر/ كانون الأول 1975 مفتعلة بلا شك، وأمارته على ذلك ردود الفعل السريعة والمؤتمرات والبيانات الجاهزة.
جيوش المعركة.. مزيج الصراعات الطائفية والتحالفات الفكرية
في تلك الأجواء الملتهبة في لبنان، تدخّلت سوريا في المشهد اللبناني، وكان يقدّمها حلفاؤها بصفة الشقيقة الكبرى، وقد اتخذت دور الوساطة بداية، مع انحياز إلى الحركة الوطنية اللبنانية والقيادة الفلسطينية، ولكنها انتهت إلى الانخراط الكامل في القتال.
كانت المحصلة ما يزيد عن 52 يوما من محاصرة المخيم من قبل الجيش السوري والقوات المارونية اللبنانية التي تضم حزب الكتائب بزعامة بيار الجميّل، وميليشيا النمور الأحرار التابعة لحزب الوطنيين الأحرار بزعامة كميل شمعون، وميليشيا جيش تحرير زغرتا بزعامة طوني فرنجية، وميليشيا حراس الأرز، وتيار المردة، والشبيبة اللبنانية، وجيش لبنان.
وكان في الطرف المقابل القوى اللبنانية واليسارية المدافعة عن المخيّم، فمنها قوى الحركة الوطنية اللبنانية، والحزب التقدمي الاشتراكي، والحزب الشيوعي اللبناني، ومنظمة العمل الشيوعي، والحزب القومي الاجتماعي السوري، وحركة الناصريين المستقلين “المرابطون”، وتنظيمات يسارية أخرى، فضلا عن فصائل منظمة التحرير، بما فيها تلك الموالية لسوريا أو العراق.
وفي السابع من أغسطس/ آب 1976، وفي خضم هذا المشهد العبثي المفتقد للمنطق، كان المدنيون والمقاتلون يغادرون المخيّم برعاية قوة الردع العربية والصليب الأحمر، وفقا للاتفاق بين القوات اللبنانية والمقاتلين الفلسطينيين.
في تلك الأثناء نقضت القوات المارونية اللبنانية اتفاقها، وغدرت بالفلسطينيين، فأطلقت النار على العزّل وهم يغادرون المخيم، ودخل آخرون إليه، فقنصوا من صادفوا في طريقهم، وهاجم بعض آخر المفترقات، لقتل من يشتبه في كونه من الفدائيين أو اختطافه.
الاتفاقية السورية الإسرائيلية.. تطبيع تحت الطاولة لاقتسام النفوذ
يكشف الفيلم صفحات سرّية تظهر التحالف الإسرائيلي السوري من هذا الملف، فيلتقي “إيتمار رابينوفيتش”، وكان مستشار “إسحاق رابين” ورئيس الوفد الإسرائيلي المفاوض مع سوريا عام 1973، لما تولى وزير الخارجية الأمريكي “هنري كيسنجر” رعاية المفاوضات السورية الإسرائيلية، لتوقيع تفاهم فك الاشتباك 1974.
ويقول إن الرئيس السوري حافظ الأسد فكّر في عقد صفقة جديدة مع الإسرائيليين، لخلق بيئة تساعده على بسط نفوذه في لبنان، وتكشف تفاصيل الاتفاقية المهينة أمرين؛ الأول كونها تطبيعا مع محتل الأرض السورية ضد بلد شقيق، والثاني أنها تكشف رضوخا مذلا.
فقد حظرت بنودُ تقاسم النفوذ على القوات السورية، أن تتجاوز في لبنان الخط الأحمر (40 كلم على الحدود)، ومنعتها من إدخال صواريخ أرض جو أو استخدام قوات الجو لضرب أهداف في لبنان، هذا فضلا عن تعهّدها بإبقاء جبهة الجولان ساكنة، ومنحت بالمقابل الجيش الإسرائيلي حرية التصرف في لبنان.
“سنمنحكم السلاح ولكن لن يقاتل الإسرائيليون نيابة عنكم”
كان للمسيحيين حليف آخر في هذه المعركة، ففي لقاء كميل شمعون وبيار الجميّل بالإسرائيليين في بارجة حربية طلبا للدعم، قال “إسحاق رابين”: “سنساعدكم لتساعدوا أنفسكم، سنوفر لكم السلاح، ولكن لن يقاتل الجنود الإسرائيليون نيابة عنكم”. ثم منحهما السلاح المغتنم من المصريين والسوريين في حرب 1973.
تساعدنا هذه الورقة الخفية من الملفّ وشهادة رضوان غنوم -وهو جندي سوري من قوات الصاعقة- على فهم سر بقاء الحرب مشتعلة في لبنان، وتفجرها بطريقة مفاجئة، بعد كل اتفاق على وقف إطلاق النّار، فقد كانت سوريا تستخدم الفلسطينيين الغاضبين على عرفات، للتحكم في إيقاع الحرب.
هذا ما تؤكّده اعترافات بلال حسن، وهو المسؤول العسكري لتنظيم الصاعقة في مخيّم تل الزعتر، وكان مكلفا لدى المخابرات السورية بكتابة تقرير يومي، مداره أن الفلسطينيين يقصفون المسيحيين، ولكنّه يخرج الاتهام مخرجا نبيلا.
فالاقتتال بين فصيل الصاعقة وأتباع سوريا والفتحاويين ورسائله السرية مع القوات السورية، إنما يعود إلى تقديره بأن لا جدوى من رفع السلاح، ومن معارك ستنتهي بخسائر كبيرة في أرواح اللاجئين الفلسطينيين، لا سيما وقد راح أخوه ضحيتها قبل مدة، ومن هذا المنطلق كان يدعو إلى التعامل بواقعية مع الحصار.
“المزيد من الشهداء لجذب الانتباه”
كانت حصيلة المجزرة ثقيلة جدّا كما أسلفنا، فقد ارتكب رجال الميليشيات وأنصارهم مجزرة لم يُقرّ أحد إلى اليوم بالمسؤولية عنها، كما لم يُعرف بعدُ مصير آلاف المدنيين الذين فُقدوا فيها، ولم تُدرس أبعادها السياسية والعسكرية والإنسانية، ولم تعالج قضايا مخيمات اللجوء في لبنان إلى اليوم بالعمق الضروري.
وفي الآن نفسه، لم تقيّم سياسة عرفات في التعامل مع البلدان المستضيفة، فقد انخرط في الحرب الأهلية اللبنانية لأنه كان يرى الطرف المسلم نصيرا للقضية الفلسطينية، أما الطرف المسيحي فكان متردّدا في تحمل تبعات الوجود الفلسطيني على الأرض اللبنانية، وسريعا ما تحوّل ذلك إلى رفض معلن.
وكثيرا ما تشير التحاليل السياسية إلى أنّ إسقاط مخيم تل الزعتر كان نتيجة لصراع الإرادات، بين حافظ الأسد من جهة، وياسر عرفات من جهة ثانية.
ويقول الصحفي البريطاني “روبرت فيسك” في كتابه “ويلات وطن.. صراعات الشرق الأوسط وحرب لبنان” إنّ ياسر عرفات أمر سكان المخيم بعدم الاستسلام، مع إدراكه أنه سيسقط، “لأنه كان يريد المزيد من الشهداء لكي يجذب الانتباه”.
معالجة الفيلم.. هنات في استقصاء شتى أبعاد المجزرة
خاض فيلم “تل الزعتر خفايا المعركة” بشجاعة في قضايا معقّدة وتجرأ على موضوع مسكوت عنه، ولكن من الناحية الفنية يمكننا أن نتساءل إلى أي حدّ يوافق شروط الدراسة الوثائقية، وإلى أي حدّ عبّر عن وجهة نظر المخرج الفكرية أو الجمالية؟
يظل الفيلم أقرب إلى عمل استقصائي يكشف الأسرار الدفينة والوقائع المغيّبة، فيركّز على كشف الأسرار المغمورة، ويقدّم قاعدة بيانات أكثر مما يتّجه إلى التحليل، ليدرس مسؤولية كل الأطراف، ولا يعرض الحقيقة كلّها.
فمع أنه منحنا تفسيرا مقنعا لعمل سوريا على تأجيج الحرب كلّما خمدت نارها بأطماعها في لبنان، وبتحالفها السري مع إسرائيل، فقد أعرض عن أخطاء منظمة التحرير التي تسقط سريعا في انتهاك سيادة الدول المضيفة لها، ولعل وقائع أيلول الأسود، وانخراطها في الحرب اللبنانية خير دليل على ذلك. كما صمت عن أسباب الحرب الأهلية اللبنانية التي لا تمثّل مجزرة مخيّم تل الزعتر سوى تفصيلة من تفصيلاتها.