المسلوب وشهاب.. شيخان أزهريان تركا بصمات خالدة على الغناء المصري
شهدت المدرسة الغنائية المصرية في القرن التاسع عشر تطورا كبيرا، ومن ذلك مدرسة الصهبجية، وهي أولى المدارس الغنائية التي ظهرت وفرضت نفسها، مع أنها كانت بدائية من الناحية الشعرية والموسيقية، وكان مغنوها أميين من عامة الشعب، وكان على رأس هذه المدرسة سعد دبل ومحمد الحصري.
بدا المستوى الثقافي والفني في هذه المدرسة متدنيا، لكن مع تطورها بلغت أعلى درجات الفن الراقي مع محمد عثمان (1855-1900) وعبده الحامولي (1840-1901)، فقد أوصلا الموشح والدور إلى أعلى درجات تطورهما، لا سيما في تراث محمد عثمان وأدواره الخالدة: “كاد في الهوى”، و”عشنا وشفنا”، و”ياما أنت واحشني”، و”أصل الغرام نظرة”، وموشحاته العظيمة “ملا الكاسات” و”أتاني زماني” وغيرهما.
في تلك الأيام (نهاية القرن الثامن عشر)، ظهر قالب كان له أشد الأثر في تطوير الموسيقى العربية وهو القصيدة.[1]
ومن أوائل القصائد المعروفة من الأسطوانات التي بدأ طبعها في مصر عام 1903 قصيدة “أراك عصي الدمع”، وهي من شعر أبي فراس الحمداني، وقد سجّلتها أم كلثوم عام 1928، بعد وفاة معلمها أبي العلا محمد عام 1927.
المسلوب وشهاب.. شيخان أزهريان طوّرا الفن في مصر
إن ما وصلت إليه الموسيقى العربية في بداية القرن العشرين، إنما كان نتيجة التزام العظيمين محمد عثمان وعبده الحامولي بما سبقهما من تراث الملحنين السابقين لهما، منذ بداية النهضة الموسيقية الغنائية في الربع الأول من القرن التاسع عشر، على يد محمد عبد الرحيم المسلوب والشيخ شهاب الدين محمد إسماعيل.
يقول التاريخ إن الشيخين المسلوب وشهاب الدين كوّنا سدا منيعا في وجه التدهور الموسيقي الغنائي في مصر، وهما الشيخ شهاب الدين محمد إسماعيل، والشيخ محمد عبد الرحيم المسلوب، وبفضلهما أخذ الغناء المصري ينهض منذ الربع الأول من القرن التاسع عشر.
ويقول المؤرخ الموسيقي كمال النجمي في كتابه القيّم “تراث الغناء العربي”: الشيخ شهاب الدين هو الذي رسم لمعاصريه صورة من التواشيح الأندلسية، بتأليفه كتابا عظيم الأهمية، اشتُهر باسم “سفينة شهاب”، جمع فيه مئات التواشيح الأندلسية التي كادت أن تندثر، ولم يكن المغنّون والملحنون في أيامه يعرفون عنها شيئا.[2]
أما الشيخ عبد الرحيم المسلوب، فقد سلك طريق غناء الدور الذي وصل في نهاية القرن التاسع عشر إلى ذروة تطوره وكماله الفني مع محمد عثمان وعبده الحامولي، كما أنه كان بارعا جدا في تلحين الموشحات.
نضيف إلى كل ذلك التراث المتوازن الذي حفظ المقامات والإيقاعات في مصر من الاندثار، ويشمل هذا التراث الأغاني الشعبية، ولا سيما في الأفراح والمآتم والعمل والأناشيد الجماعية.
كان تأثير الشيخين الأزهريين كبيرا في مسيرة الموسيقى والغناء بالقرن التاسع عشر، فلم يكن الشيوخ والأزهريون يومئذ بعيدين عن مجال الموسيقى والتلحين والغناء، بل إنهم لعبوا دورا مؤثرا في تطوير الموسيقى الشرقية وتحديثها. ويمكن الحديث عن بعض أبرز شيوخ الطرب في تاريخنا الحديث والمعاصر.
الشيخ محمد عبد الرحيم المسلوب
يعد الشيخ محمد عبد الرحيم المسلوب (1798-1928) شيخ ملحني القرن التاسع عشر، وهو الذي يُنسب إليه إبداع فن الدور الغنائي، وقد لونا سائدا في الغناء، حتى طوّر أسلوبه البدائي محمد عثمان، وذلك الرتل الطويل من الملحنين الذين عملوا فيه تهذيبا، ومنهم داوود حسني، وسيد درويش، وعبده قطر، ومحمد عبد الوهاب، وزكريا أحمد.
وُلد الشيخ المسلوب في القاهرة، وتعلَّم قراءة القرآن الكريم وتجويده في الكتاتيب مذ كان يافعا، وقبس فنون الإنشاد الديني وقراءة القصة الشريفة من حلقات الأذكار في الزوايا الصوفية التي كان يتردد إليها، ثم انطلق إلى عالم الغناء الدنيوي، من دون أن يتخلى عن الإنشاد الديني، وتعمق فيه حتى صار أستاذا في فن الدور والموشح والأغنية الخفيفة.
صبح الشيخ المسلوب علما من أعلام الغناء، فتربع على عرش الطرب والتلحين، إلى أن احتل مكانته عبده الحامولي ومحمد عثمان منذ ستينيات القرن التاسع عشر، فطغت شهرتهما على شهرته وعلى جميع مطربي عصره من منافسيه، مثل الشيخ رضوان، والمحروقي الكبير، والشيخ سالم الحصري، وخليل محرم وغيرهم.[3]
من أهم إنجازاته للموسيقى العربية عموما دوره في تطوير فن الدور الغنائي القديم، بحيث يتخلل الأغنية أكثر من مقام موسيقي، مع التزام مقام رئيس ثابت، وتبادل الغناء بين المطرب والمجموعة (الكورس). وعلى هذا الأساس بدأت نهضة الغناء في مصر، وأصبح كل موسيقي يبتكر ويضيف في الغناء.[4]
ولم يبخل الشيخ المسلوب على معاصريه بألحانه، فأخذوا عنه قصائده وأدواره وموشحاته، ولا سيما المطرب الشهير محمد سالم العجوز. ومن بديع أدوراه: “العفو يا سيد الملاح”، و”البدر لاح في سماه”، و”في رياض الجلنار”، و”أنعَمَ وزار زاهي الجبين”، و”أسيل خدك يتعاجب بخاله ويسحر العين”.
“وحياتك كمان يا شيخ المطربين”.. ليلة خالدة من ليالي الإمتاع
كان المسلوب شيخا ملتحيا ظريفا ومغنيا حاذقا، ويصف أحد معاصريه سهرة غنّى فيها، فيقول -حسب رواية الناقد كمال النجمي-[5]: كان الشيخ المسلوب قد تسلْطن وتفتحت شهيته للغناء، فطلب منه السامعون أن يغني الموشح الذي مطلعه:
جلَّ منشي حسنك الفضاح.. يا نحيل الخصر
فغمرته البشاشة وفاض أريحية وطربا، وانطلق يغني في طبقة عالية أبهرت المستمعين، وكانت بطانته -وفيها المشايخ البارعون في الأداء- قد تسلطنت أيضا، ولم يكد الشيخ يختم الموشح حتى دخل في فنون الغناء بلا ترتيب، قائلا لبطانته: هذه ليلة ما رأيت مثلها من قبل ولا رأيتم، فلا يفكرنّ أحد منا في الراحة قبل طلوع الشمس، ومهما طلب المستمعون من موشح أو دور أو قصيدة أو موال، فلا بدَّ من تلبية الطلب.
وعندما أخذ الشيخ المسلوب في غناء “جميل زمانك لك صفا” ماج المستمعون بهجة ومرحا، وخلع الباشوات والبكوات والوجهاء شارات الهيبة والوقار، وهتف الحضور في ضوضاء أسكرها الطرب: “وحياتك كمان يا شيخ المطربين”!
ولما فرغ من هذا الدور، غنى دوره المشهور “أسيل خدك يتعاجب بخاله”، وبطانته تسنده، مال المستمعون من حرارة الوجد والسماع إلى هدوء الإنصات والتأمل، وأقبلوا يرتشفون نغماته في استرخاء من أتخمه الصفو واعتدال المزاج. فما أجمل وألطف وأعجب الشيخ المسلوب وقد تسلطن وأخذه الوجد فغاب عن الوجود، إلا صوتا يغني:
الحب مين يقدر يخفيه.. والحب هتّاك الأسرار
لو كنت معنا -يا بني- في تلك الليلة، لخُيل إليك أن المسلوب عفريت من الجن، يرج الأرض رجا بفخامة صوته وحلاوة أدائه.
إرث المسلوب.. مئة عام من الإبداع والألحان الخالدة
ظل محمد عبد الرحيم المسلوب يلحن ويغني حتى تجاوز الثمانين من عمره، وترك ثروة ضخمة من الأغاني التي لم تُدوَّن، وجل الأدوار والأغاني التي لحنها متداول اليوم، منها أغنية “يا حلو يا مسليني” التي غناها كبار المطربين، ومنهم صباح فخري، وشادي جميل، وصبري مدلل، وقد دُوّنت من صدور الحفظة.
لا يُعرف تاريخ ميلاد الشيخ المسلوب على وجه الدقة، فبعض الكتابات تقول إنه ولد أواخر عهد المماليك، وتحديدا في إمارة البرديسي بك، وإنه عاش إلى عام 1928. وحدد بعضهم عام ميلاده بـ1794، وتاريخ وفاته في 13 يوليو/ تموز 1927.
ويشكك بعض الباحثين في دقة هذه التواريخ، لا سيما تاريخ الميلاد، لكنهم متفقون جميعا على طول عمره، وأنه عاش قرنا من الزمان على الأقل.[6]
الشيخ محمد شهاب الدين المصري
تلقى الشيخ محمد شهاب الدين إسماعيل عمر المصري (1795-1857) تعليما دينيا في الأزهر، ودرس الحساب والهندسة، كما تعلَّم أصول الموسيقى وأتقن قواعدها بجهد خاص دون معلم، وقد عمل في بداية حياته وزانا في الأسواق (قبانيا)، ثم دخل المحكمة الشرعية تلميذا للتعلم، ومال إلى الأدب ونظم الشعر.
وقد ساعد الشيخ حسن العطار في تحرير القسم العربي من جريدة “الوقائع المصرية”، ثم خلفه في الإشراف عليها، وكان يتقاضى عن عمله 750 قرشا، كما تولى تصحيح ما يُطبع من كتب في مطبعة بولاق. وقد مدح حاكم مصر عباس باشا بقصائده، فقرّبه إليه، وجعل له في كل قصر من قصوره حجرة، تقديرا لمكانته وحُبا منه في مجالسته ومنادمته.
له ديوان شعر باسم “ديوان محمد شهاب”، وقد طبع بمطبعة السيد محمد جاهين بمصر بالقاهرة 1909، وله قصائد نشرتها صحف عصره، ولا سيما “الوقائع المصرية”.
وله أيضا كتب ومؤلفات، منها: “سفينة الملك ونفيسة الفلك”، وهو في الموسيقى والموشحات والأدوار وما كانت تتغنى به العامة، وقد طبعته المطبعة الجامعة بشارع عابدين بمصر 1891، وله “رسالة في التوحيد”، ذكرها الزركلي في الأعلام.
ويتعيّن القول إن بين كتاب شهاب الدين وكتاب محمد كامل الخلعي “الموسيقى الشرقية” 80 عاما لم يصدر خلالها كتابٌ في الغناء والموسيقى إلا كتاب “الغناء والموسيقى عند العرب” للعلامة أحمد تيمور.
وفي العقود الثلاثة الأخيرة من القرن العشرين، صدرت كتبٌ قليلة منها كتاب أحمد شفيق أبو عوف “أضواء على الموسيقى العربية”، وترجمة كتاب المستشرق البريطاني هنري فارمر “تاريخ الموسيقى العربية”، وكتاب أحمد أبو الخضر منسي “الأغاني والموسيقى الشرقية”، إضافة إلى 4 كتب صدرت للكاتب كمال النجمي، بجانب كتابه عن التراث القديم في جزأين وعنوانه “يوميات المغنين والجواري”.
“سفينة شهاب”.. عودة الفن إلى سحر العصر العباسي
حدثت نهضة غنائية موسيقية على يد الشاعر الموسيقي الشيخ شهاب الدين محمد بن إسماعيل، فقد عكف الملحنون والمغنون على كتابه الرائد “سفينة الملك ونفيسة الفلك”، ينهلون منه ما استطاعوا، حتى أنهم أسموه “سفينة شهاب”، وقد ردت تلك النهضة الغناء في مصر إلى طريقة العصر العباسي الأول، وكان ذلك بمنزلة بداية الكلاسيكية الحديثة في الغناء والشعر معا، بعد التحرر من الغناء على أساليب الشعر العثماني.
وبدأ التركيز على فن “الدور” الذي كان موجودا في الكتب القديمة، ككتاب “الأغاني” لأبي الفرج الأصبهاني، لكن الشيخ المسلوب وزميليه عثمان والحامولي أدخلوا عليه كثيرا من التغير المواكب للعصر آنذاك، فزاده جمالا.
وبعد أن ترك هؤلاء الثلاثة الميدان بوفاتهم، ظهر ملحنون جدد أمثال سيد درويش، فأدخل على فن “الدور” لمساته الطريفة، فجمع فيه بين الطرب والتعبير معا، بعد أن كان التركيز فيه فقط على اللون الطربي.
المراجع:
[1] سليم سحاب، أثر التراث في الموسيقى المصرية، موقع “شؤون عربية” الإلكتروني، 7 مارس 2020.
[2] كمال النجمي، تراث الغناء العربي: بين الموصلي وزرياب.. وأم كلثوم وعبد الوهاب، دار الشروق، القاهرة، 1993.
[3] نعمات أحمد فؤاد، أم كلثوم وعصر من الفن، الهيئة المصرية للكتاب، القاهرة، 1983.
[4] زياد عساف، المنسي في الغناء العربي جـ 2، الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة، 2017، ص 306.
[5] كمال النجمي، سحر الغناء العربي، كتاب الهلال، القاهرة، 1972.
[6] عادل السنهوري، الشيخ المسلوب.. الأزهري نقيب الموسيقيين، موقع “اليوم السابع” الإلكتروني، 26 مايو 2020.