“إسرائيل فلسطين على التلفزيون السويدي”.. 30 عاما من التقلبات في عرض القضية

فيلم وثائقي بالغ الأهمية، من أهم الوثائقيات المنجزة حديثا، يكشف محطات عالمية وتحولات تاريخية وسياسية واجتماعية، ارتبطت بالصراع الإقليمي الأكبر والأطول في منطقة الشرق الأوسط والعالم.

إنه فيلم “إسرائيل فلسطين على التلفزيون السويدي 1958-1989” (Israel Palestina on Swedish TV 1958-1989)، وقد أخرجه السويدي “غوران هوغو أولسون”، وعُرض في أكتوبر/ تشرين الأول 2024، ويبلغ زمن عرضه 3 ساعات ونصفا تقريبا، وقد عمل عليه المخرج 5 سنوات متتالية، وجمعه من آلاف الساعات المصورة.

يطلعنا الفيلم على كيفية اشتغال وسائل الإعلام والصحافة في بلد متقدم ومحايد وديمقراطي مثل السويد. كما يعرض مستوى الفهم والاستيعاب والمهنية لتطورات القضية، والصورة والمعلومات والوقائع التي كانت تنقل للجمهور، ومدى مصداقيتها ودورها في تشكيل وعي الجماهير.

عصارة من آلاف الساعات المصورة

يتكون الفيلم من قسمين وخاتمة، ويتألف من مئات اللقطات المأخوذة من عشرات التقارير المبثوثة حول الصراع الفلسطيني الإسرائيلي على التلفزيون السويدي (SVT)، وقد بلغت 5 آلاف ساعة من المواد الأرشيفية، تغطي 3 عقود تقريبا، من 1958 إلى 1989.

الملصق الدعائي لفيلم “إسرائيل فلسطين على التلفزيون السويدي 1958 – 1989”

التقارير المعروضة حصريا بالتلفزيون السويدي من إسرائيل وفلسطين فريدة من نوعها، نظرا لوجود المراسلين الدائم في المنطقة، وتوثيقهم لكل شيء تقريبا، من الحياة اليومية إلى الأزمات الدولية.

وتحضر وجوه كثيرة مألوفة تنتمي إلى جانبي الصراع، منها ياسر عرفات، وغسان كنفاني، وأنور السادات، و”أبا إيبان”، و”غولدا مائير”، و”هنري كيسنجر”، و”ديفيد بن غوريون”، و”جيمي كارتر”، و”أرييل شارون”.

بواخر اليهود.. دولة ناشئة على أرض العرب البدو

يبدأ الفيلم بافتتاحية مفادها أن المواد الأرشيفية لا تخبرنا بالضرورة عما حدث في الواقع، لكنها تقول الكثير حول الكيفية. من هنا، لا يزعم الفيلم إخبارنا بحقيقة الصراع الإسرائيلي الفلسطيني، بل يتمحور حول كيفية تقديم هذا الصراع للجمهور السويدي، من جانب الإعلام الرسمي.

تأسس التليفزيون السويدي نهاية عام 1957، وظل في قبضة الدولة حتى عام 1989، وكانت مهمته أن يكون محايدا في كل التقارير التي يقدمها إجمالا، وأن يكون المحتوى التحريري من إنتاج وتقديم سويديين فحسب. وفي ربيع عام 1958، بثَّ التليفزيون برنامجين احتفالا بالذكرى العاشرة لتأسيس دولة إسرائيل، وكانت تلك بداية تناوله للموضوع والتعريف به.

فتيات يلتحقن بالتجنيد في جيش الاحتلال فور وصولهن إلى فلسطين

كانت أولى المواد عن إسرائيل ونشأتها دولةً، والخلفيات والظروف الدولية المحيطة والمؤدية إلى ذلك، واستعراض شتى التفاصيل المعروفة، منذ بزوغ الحركة الصهيونية، ووعد بلفور، وحتى اندلاع حرب 1948، من دون أي جديد تقريبا.

هذا إذا ما استثنينا بعض المواد الجديدة المصورة، لا سيما وصول اليهود بالبواخر وبلوغهم أحياء القدس، وبعض الاشتباكات والنيران والحرائق والقتلى وغيرها، وبلوغهم أماكن صحراوية كان يسكنها العرب أو البدو.

لم يُذكر الفلسطينيون حتى الستينيات في شتى التقارير المبثوثة، ولم يوصفوا بأنهم أصحاب أرض أو وجود أو حق قديم، بل كانوا يسمون العرب أو البدو فقط.

“أرض العجائب”.. دولة جعلت الصحراء القاحلة جنة

بالنظر إلى تقارير تلك الحقبة ولا سيما الخمسينيات، يتضح مدى موضوعية ما قُدم، ومدى صدقه وحياده إلى حد بعيد، مع ما شاب ذلك من إغفال كثير من الأمور التاريخية والواقعية.

لكن لم يكن في الأمر تعمد أو تضليل، بل تضافرت عوامل منها الجهل بالقضية وبالوطن العربي وقضاياه، وجهلهم بالفلسطيني أصلا، كما كان الغالب يومئذ هو الانسياق الأعمى وراء التخلص من تبعات ذنب اليهود المثقِل لكاهل أوروبا، وغيرها من الأمور المتعلقة بنشأة دولة حديثة وعصرية ومتقدمة ومتطورة وديمقراطية، لا تفرق بين العرب أو البدو وسكانها، كما روَّجَت لنفسها، لا سيما وقد منحت “العرب” حق التعليم والانتخاب، حتى للمرأة، وعضوية الكنيست.

كانت تلك هي الصورة التي صُدرت، وهذا هو الوضع الذي صدقه العالم، أو رغب بتصديقه يومئذ، وليس ذلك خاصا بالسويديين.

من هنا، قُدمت إسرائيل للسويديين بصفتها “أرض العجائب”، وذلك عند الانتقال لتناول حقبة الستينيات، وبناء على لقاءات مع مواطنين إسرائيليين انتقلوا حديثا للعيش في إسرائيل، سواء من السويد أو غيرها. فقد كانوا يمدحون كل شيء، من التعليم إلى المستشفيات المبنية على الطراز السويدي، والأحياء المكتملة والمتكاملة، والتعاونيات، وتوفر الرعاية والأمن، وغيرها.

وهذا قبل الانتقال لرصد المعجزة الإسرائيلية، المتمثلة في زراعة الصحراء الجرداء القاحلة المهجورة، وكيفية نقل المياه إليها وزراعتها وتشجيرها وتحويلها إلى جنة، والصور البراقة المنقولة من أرض الواقع هي خير دليل على كل ما يقال.

حرب 1967.. بداية تغير الوعي الجماهيري

تتجلى المعجزة -بتعبير أحد المراسلين المدهوشين- في أن مليون مهاجر من 102 من دول العالم، لهم خلفيات وثقافات ولغات مختلفة، قد استطاعوا العيش والتأقلم والاندماج معا، مما يدل قطعا على تحقق الأعجوبة، وحقيقة عودة اليهود إلى أرض الرب، أرض الميعاد.

مهاجرون يهود أصبحوا جنودا في جيش الاحتلال

هكذا كان المراسلون والجماهير يرون إسرائيل، حتى جاءت حرب 1967 لتكشف بعض الحقائق الصادمة، وأن الأمور ليست على النحو المتصور أو المتخيل، فقد جددت الحرب أزمة اللاجئين القديمة، التي أعقبت حرب 1948.

وهكذا، تدريجيا، بدأ البعض يدرك وجود أصحاب لتلك الأرض قبل نشأة إسرائيل، ومن هنا ازداد الانتباه أكثر، وتركَّز الاهتمام على سكان المخيمات واللاجئين وحركات المقاومة. كما تغيرت نبرة التغطيات، سواء في الحوارات الصحفية في إسرائيل أو المقابلات المباشرة في السويد بالأستوديو أو الشوارع.

أكذوبة الدولة الضعيفة المحاصرة

في مقطع بعنوان “مبارزة”، اضطر السفير اليهودي في السويد لإنكار مسؤولية إسرائيل عن اللاجئين، تحت ضغط الأسئلة في لقاء تليفزيوني، قائلا إن المشكلة في العرب الذين يرفضون العودة إلا لكامل التراب أو لأراضيهم السابقة، وإن هدفهم قتلنا وإجلاؤنا من أرضنا وسحقنا، فكيف نسمح لهم بالعودة ونرحب بهم؟

ثم احتد مستنكِرا: هل أنتم -معشر الأوروبيين- تريدون منا هذا؟

وكانت إسرائيل قبل ذلك تصور نفسها دولة محاصرة من أعداء محيطين، يرغبون في الفتك بها، وأنها الأضعف في هذا الصراع.

اللافت للانتباه أنه حتى هذا الوقت (قرابة ثلث الفيلم)، لم نشاهد أي مسؤول أو قائد أو وزير عربي، أو حتى أي خطاب مسجل لرئيس أو غيره، لا جمال عبد الناصر مثلا ولا ياسر عرفات ولا غيرهما. أما الإسرائيليون فرأينا منهم عددا، فشاهدنا مثلا لقاء مع “غولدا مائير” في مكتبها، وهي تُحدث المذيع عن تهديد عربي من نوع آخر غير التسلح، ألا وهو التعداد السكاني وكثرة النسل.

وهنا، تنقلنا التقارير للمشاكل الديمغرافية، فالوافدون -ولا سيما اليهود الشرقيون- يعانون من التفرقة والطبقية والبطالة والسكن، ويعاني المجتمع من عزوف الشباب عن الانتماء، ويعاني الشباب من مشاكل التجنيد الإجباري والحلم الزائف… إلخ.

الدولة الدينية.. بداية تغير الخطاب الإعلامي

مع نهاية أحداث القسم الأول التي تختتم بحادثة البعثة الإسرائيلية في الألعاب الأولمبية في ميونخ، ولقطات من القرية الأولمبية وحتى انتهاء الواقعة في المطار، يبدأ القسم الثاني، وتغلب عليه الألوان بدلا من الأبيض والأسود، ونلاحظ عودة قوية للوعي أو الاستيقاظ والانتباه الجدي لما يحدث، وأن الأمور مناقضة لما صُور في السابق.

ينعكس هذا على الخطاب الإعلامي ونشاط المذيعين والمراسلين، ونوعية الأسئلة الجريئة المطروحة، والأرضيات السياسية المنطلقة منها.

لكن هذه النبرة لم تتغير إلا بعد حرب الأيام الست، واتضاح صورة أن إسرائيل ليست الأضعف في الصراع وغيرها من الأكاذيب، وأنها معتدية تقترف جرائم حرب دموية، ومحتلة ومصادرة لأراضي الغير، ورافضة لحق العودة، وتمعن في التنكيل بأصحاب الأرض والحق وتشريدهم، وهو ما لم نكن نسمعه أو نراه سابقا.

رئيسة وزراء الاحتلال “غولدا مائير” (1969-1974)

وبلغ الأمر درجة سماع أصوات سويدية تتعجب من إقامة دولة على أساس ديني، مع التأكيد من ناحية أخرى على أنه لا يزال لإسرائيل داعمون وأصدقاء في السويد، لموازنة الأمور.

حرب 1973.. هزيمة تكشف عورات إسرائيل

تواصل التقارير رصد التغيرات الحاصلة، وما يكمن تحت سطح المجتمع، والبلد الموصوف سلفا بأرض المعجزات. ثم تقع مفاجأة يوم “كيبور”، أو السادس من أكتوبر/ تشرين الأول 1973، وعبور خط بارليف.

وهنا، تذكر التقارير صراحة أنه لم تتوفر أي مادة مصورة لأيام الحرب ومجرياتها وتطوراتها. لذلك لا نرى إلا قليلا من المواد الجديدة المرتبطة بها، باستثناء لقطات احتفال الجنود المصريين بالنصر، أو لقطات نادرة للثغرة وتوزيع المؤن على عساكر الجيش المصري المحاصرين في سيناء.

ثم نرى لقطات من زيارة “أبا إيبان” لأمريكا، لحث اليهود على التبرع لإسرائيل في حربها، وقد بلغت تلك التبرعات يومئذ مليون دولار في الساعة، من اليهود العاديين ورجال الأعمال والناس في الشوارع.

يمتد هذا القسم متناولا مجريات حرب أكتوبر/ تشرين الأول، وتبعاتها، مع غياب التغطية المتعلقة بالجبهة السورية، وسوريا إجمالا.

المثير للاستغراب، انتفاء الحضور السويدي النشط على شتى الأصعدة والجبهات، في تغطيات هذه الحقبة الحرجة والمهمة، مع ما للسويد من أهمية، بصفتها بلدا محايدا مع الجميع، وتشارك في فرقة حفظ سلام تابعة للأمم المتحدة بقطاع غزة.

خطاب عرفات.. بداية الحضور الفلسطيني في الفيلم

بعد وقف إطلاق النار، تنتقل التقارير سريعا لرصد الحدود اللبنانية، والاشتباكات واندلاع المواجهات هناك، وخطاب ياسر عرفات الشهير في الأمم المتحدة، وحديث ياسر عبد ربه، وبدايات الكلام عن ضرورة تسوية القضية وإنهاء عادل للصراع، وعن الحرب والسلام، ثم مقولة “رابين” إن الرد سيكون في ساحة المعركة، مما يعني استمرار الصراع.

تتطور الأمور ويحضر “هنري كيسنجر” في الصورة، وكانت إسرائيل -وفقا للتقارير السويدية- ترى أنه فتى العرب، ويعمل ضد إسرائيل ومصلحتها. ثم نصل إلى عقد السادات اتفاقيته المنفردة، ونشاهد لقاء معه في التليفزيون السويدي، يتحدث فيه بكلام يخالف ما أقدم عليه لاحقا.

الزعيم الفلسطيني ياسر عرفات

ترصد التقارير التالية رد فعل الفلسطينيين وموقفهم من المفاوضات المصرية الإسرائيلية، لا سيما ياسر عرفات وبعض الشخصيات البارزة، ثم لقطات لبدايات الحرب الأهلية في لبنان، وتطورات الأوضاع الداخلية، ولقاءات شخصية مع عرفات، يبدي فيها سعادته من موقف الحكومة والشعب السويدي من القضية، وأمله في أن يستمر دعم الحقوق الفلسطينية وتأييدها، كما حدث مع فيتنام.

الغريب أن الفيلم لم يضع أي تقرير يفيد بأن السويد كانت من الدول المعترفة بمنظمة التحرير، ولهذا كانت نبرة عرفات إيجابية ومتفائلة. لكن مقارنة بالتقارير السابقة، حدث المزيد من التحول، وفهم الأمور، وملاحقة التطورات، وإن تعذرت إدانة إسرائيل التامة في النهاية، لأسباب معروفة.

“إنها ليست محتلة بل مستعادة ومحررة”

نعاين تبعات الحرب في بيروت، بعد انقضاء عام ونصف، لا سيما على النساء والأطفال، فتعرض مشاهد نادرة، منها مشهد صبية في الخنادق يحملون البنادق الثقيلة، ويقاتلون جديا.

وعلى الجانب الآخر، نرصد تطورات الموقف الإسرائيلي من أحداث لبنان والمنطقة وصعود حزب الليكود و”مناحيم بيغن”، وإعلانه عدم التخلي عن شبر من الأراضي المحتلة، وقوله للمراسل بحدة: دعني أصحح لك، إنها ليست محتلة بل مستعادة ومحررة، والضفة وغيرها هي أرض يهودا والسامرة الحقيقية، أرض الآباء والأجداد، أرض وعد الرب، لماذا تسمونها محتلة؟ لم نأخذ قط أي أرض من أحد.

أنور السادات (يسار الصورة) يوقع معاهدة “كامب ديفيد” للسلام

وفي عام 1977، نشاهد هبوط طائرة السادات في القدس، وخطابه المعروف في الكنيست وغيره، وصوره على الصحف والمجلات في كل الشوارع والميادين، وهو حدث يصفه المراسل بأنه أهم من كل الحروب التي مرت على المنطقة وإسرائيل.

ثم نرى مفاوضات السلام وتوقيع الاتفاقية وغيرها، وتوضيح أن الجزء المصري منها هو ما نُفذ، وعُلّق كل ما له علاقة بفلسطين واللاجئين، وصولا إلى بداية الثمانينيات، وارتفاع علم إسرائيل أول مرة على سفارتها في القاهرة.

ألم تكن هذه الأرض فلسطينية يوما ما؟

تتسارع الأحداث الدموية باغتيال السادات، ومهاجمة “شارون” للبنان بغية تطهير المنطقة، وتأمين سكان الشمال -كما نسمع الآن من “نتنياهو”- ثم الخروج من لبنان، سواء الإسرائيلي والفلسطيني، لكن ليس قبل انقلاب العالم، حتى داخل إسرائيل، بعد مذبحة صبرا وشاتيلا، وغيرها من أهوال.

بعدئذ، وقرب النهاية، يحدث تحول أكبر على مستوى المواد الأرشيفية، التي مالت في البداية لتصوير فلسطين بلدا بلا شعب يملكها، إلى التركيز على أن ثمة من عاشوا فيها منذ آلاف السنين، وقد عملوا بالزراعة وشتى الحرف والمهن، وعمروا الأرض واستصلحوها، وأقاموا دولة إلى أن جاء المحتل ودمرها.

فصائل فلسطينية تفجر طائرات مختطفة نكاية بالدول الداعمة للمحتل الصهيوني

في هذا الصدد، نشاهد لقاءات مع سكان من قطاع غزة يذكرون أسماء قراهم القديمة، ويشيرون إليها وإلى بساتينها على مرمى البصر، ويقولون إنها سويت بالأرض.

وعلى الجانب الآخر، يظهر “أرييل شارون” وهو يفتخر بكونه ابن مزارعين، وأنه يحب الزراعة والفلاحة، وأن هذه الملكية هي مزرعته، ويربي الماعز فيها. فيسأله المراسل بخبث: ألم تكن هذه الأرض وما حولها فلسطينية يوما ما؟ فيبتسم ويؤكد أنها “كانت”.

وبالتركيز تارة على القطاع، والضفة الغربية تارة أخرى، أكثر من التركيز على الداخل الإسرائيلي، تنقلنا التقارير لبدايات الانتفاضة، مع صور لقصف مقر منظمة التحرير في تونس، وانتخاب “مائير كاهانا” المتطرف الراغب في قتل الفلسطينيين الذين ينجبون كثيرا وطردهم، ثم نرى تأكيد الأديب “عاموس عوز” أن الحل العسكري لن ينجح، وضرورة حل إسرائيل للمشكلة التي خلقتها كي تعيش في سلام، إن أرادت ذلك.

وقبيل الختام، يبث الفيلم لقاء أخيرا مع عرفات، يسأل فيه المجتمع الدولي والجميع: إلى متى سيظل شعبنا يعاني من الاحتلال والمنفى وغيرهما؟

“غوران هوغو أولسون”.. حياد إخراجي يبطن رسائل عميقة

في مثل هذه الأفلام الوثائقية، المعتمدة بالأساس على جهد مونتاجي هائل من المخرج وفريقه، يندر عادة وجود التعليق الحواري، أو شرح الأحداث والوقائع وتفسيرها.

بل يركن المخرج “غوران هوغو أولسون” لاستخدام أسلوب أكثر تقليدية، يقوم على الاستعراض والربط المنطقي والتسلسل الزمني للأحداث، والتضاد أو الطباق للصورة المرئية أيضا، عوضا عن السرد والشرح والتعليق.

المخرج السويدي “غوران هوغو أولسون”

هنا، يشجع “أولسون” الجمهور على تفسير الموضوع والتفكير فيه، وفقا لاستيعابهم وتأملاتهم ورؤيتهم وخلفياتهم، ولا يعني ذلك أن الفيلم عبارة عن لقطات مستخلصة من أطنان من المقاطع الأرشيفية، أو مجرد لقطات ملصقة مونتاجيا بمنطقية وتتابع زمني فقط.

بل العكس من ذلك، فوراء الجهد المبذول وجهة نظر واضحة في الصراع، وأيضا في الإعلام ودوره الخطير وتأثيره على الشعوب، وذلك مع زعم الإعلام والتلفزيون السويدي تبني المصداقية، وزعم المخرج أيضا أنه يقدم مادة محايدة.

فمن الصعب أن تشاهد الفيلم، ولا تكوّن رأيا يتعاطف مع الضحية بوضوح، في مقابل الجلاد المغتصب، حتى وإن حاول المخرج تغليف النهاية بخاتمة تدعو للسلام، بالإحالة إلى لقطات توقيع اتفاقية أوسلو، فمن بين دروس الفيلم والإعلام والفن عامة، استحالة القول بوجود حيادية مطلقة.

فكرة مستلهمة من مشاهد الفيلم

لا أظن إنجاز فكرة مماثلة لتلك التي خطرت لي أثناء مشاهدة الفيلم أمرا معضلا أو يستحيل تحقيقها، ولا أظن تنفيذها ينطوي على استعدادات خاصة أو تكاليف باهظة، أو غيرها من أمور وفنيات ولوجستيات إلخ.

بل تتلخص الفكرة بإيجاز في صنع وثائقي أو أكثر، يكون جادا أو ساخرا، يتناول بالفحص والتحليل والتأمل أطنان المواد الأرشيفية الكاذبة، المطبوعة أو المذاعة أو المبثوثة، عبر شتى القنوات ووسائل الإعلامية العالمية منذ 7 أكتوبر/ تشرين أول الماضي، التي تبنت -عمدا أو جهلا- رواية الاحتلال الزائفة عن أهوال ما جرى في هذا اليوم، وكشف التلاعب بالرأي العام العالمي وتضليله عمدا.

المخرج السويدي “غوران هوغو أولسون” يتحدث عن الفيلم

تجمع هذه المادة، وهي ما تزال حديثة ومتوفرة وحاضرة في الأذهان، ثم توضع معا لإيضاح كم الكذب والزيف والافتعال الذي تنطوي عليه.

ولا يقتصر الأمر على فضح التخبط الإعلامي والمهنية الزائفة والمصداقية المزعومة فحسب، بل الخروج أيضا بمادة صالحة لكشف سياسة الكيل بمكيالين وفضحها والتندر عليها، وإظهار ما عليه الإعلام الغربي وأطقمه، ممن يدعون أنهم أمهر الصحفيين وأكثرهم احترافية ومصداقية.

وذلك لتوضيح مدى ما هم عليه من انحياز سافر، وكذب وتضليل وانتفاء لمهنية أو مصداقية، وسير أعمى وراء الترويج لأكاذيب فاضحة، عن قتل الأطفال وحرقهم، وعن سبي النساء واغتصابهن، إلى آخر ما رُوج منذ اندلاع الأحداث وحتى اليوم، حتى وإن جرى التراجع والاعتذار عن كثير منها.

ولن أذهب بعيدا للمطالبة بصنع وثائقيات أخرى، تتناول كل حالة على حدة، وتمضي لتحقق وتناقش وتواجه وتجابه المؤسسات والإمبراطوريات الإعلامية الضخمة، والقائمين عليها، والعاملين فيها، بمواقفهم إزاء ما روجوا له من أكاذيب وتلفيقات.


إعلان