المتاحف الافتراضية.. هل ينقذ الواقع المعزز ذاكرة العرب المهددة؟

بينما كانت الدبابات الأميركية تجوب شوارع بغداد في عام 2003، اندفع مئات نحو أبواب المتحف العراقي، وبعد ساعات قليلة أصبح أطلالا فارغة، بعدما كان من أهم خزائن الحضارة الإنسانية.

نُهبت وحُطمت آلاف القطع الأثرية، التي تعود إلى حضارات بابل وآشور وسومر، في مشهد وصفته منظمة اليونسكو بأنه “أكبر كارثة لحقت بالتراث الثقافي في العصر الحديث”.

اقرأ أيضا

list of 4 itemsend of list

بعد سنوات، كانت الأنقاض لا تزال شاهدة على الغزو، حين جلس شاب عراقي في العشرين من عمره أمام حاسوبه، يتصفح على الإنترنت نموذجا ثلاثي الأبعاد، من إحدى القطع التي فُقدت من المتحف.

قلب النموذج ببطء بزاوية 360 درجة، ثم أغمض عينيه، متخيلا أنه يقف أمامها في القاعة الأصلية، ثم ابتسم بحزن، وقال لصديقه: على الأقل نستطيع أن نراها هنا، وإن لم تعد موجودة هناك.

الغزو الأمريكي للعراق 2003 يتسبب في تدمير أكبر متحف للآثار في مدينة الموصل

يعكس هذا المشهد المعضلة الكبرى التي تواجه الذاكرة العربية اليوم، ألا وهي فقدان معالم التراث المادية، والبحث عن بديل رقمي يخفف وقع الخسارة. من المتحف العراقي الذي نهبت كنوزه تحت الاحتلال، إلى قوس النصر في تدمر الذي فجّره تنظيم داعش، ومبان أثرية في صنعاء القديمة سقطت تحت القصف، تبدو الذاكرة الجمعية للعرب محاصرة بين الدمار والإهمال والنسيان.

وسط هذا الواقع، يظهر اتجاه جديد يحاول ملء الفراغ، وهو المتاحف الافتراضية، فهذه المبادرات الرقمية تعتمد على تقنيات الواقع المعزز (AR) والواقع الافتراضي (VR)، لإعادة بناء القطع والمباني المدمرة أو المسروقة، بحيث يمكن عرضها عبر الشاشات، أو عبر خوذات ثلاثية الأبعاد.

تنظيم الدولة يفجر قوس النصر في مدينة تدمر الأثرية

ليست الفكرة مجرد صور، بل تجارب تفاعلية تسمح للزائر بالدخول افتراضيا إلى قاعة المتحف العراقي، أو الوقوف أمام بوابة تدمر، حتى يصبح كأنه أمامها.

لكن السؤال يبقى مطروحا: هل تستطيع التقنية أن تعوّض فقدان الحجر الأصلي؟ هل رؤية تمثال أو لوح أثري في شاشة تكفي لتغذية ذاكرة أمة فقدت تراثها المادي؟ أم أن المتاحف الافتراضية ليست أكثر من مسكّن نفسي أمام خسارة لا يمكن تعويضها؟ وهل يترك “الافتراضي” الذي صممه واختاره “الآخر” أثر الحجر الذي شهد فجر الحضارة الإنسانية؟

نكبة المدن الثلاث

لم يبدأ نهب الآثار العربية حديثا، فقد جاء الاحتلال الغربي إلى المنطقة حاملا معه أحلام نقل كل ما يتعلق بالحضارة الإنسانية إلى أوروبا، وهو ما حدث في مصر وسوريا واليمن وغيرها، لكن 3 حوادث كارثية خلال القرن الحادي والعشرين، أدت إلى طمس آثار لا يمكن تعويضها، خلال حروب مشكوك في أخلاقيتها.

كان الاحتلال الأمريكي لبغداد عام 2003 أول تلك الكوارث، فلم تمضِ سوى أيام حتى اجتيح مبنى المتحف العراقي في العاصمة، وكانت القوات الأمريكية متمركزة قريبا منه.

وبين يومي 10-12 أبريل/ نيسان 2003، سرقت أو دمّرت نحو 15 ألف قطعة أثرية، تعود إلى حضارات تمتد لآلاف السنين، منها ألواح سومرية وتماثيل بابلية وأختام أسطوانية نادرة، وكانت تلك القطع تشكل قلب الهوية الثقافية للعراق، لكنها تبعثرت فجأة بين السوق السوداء والمزادات السرية.

محاولات لترميم الجداريات العملاقة في متحف الموصل التي دمرها الغزو الأمريكي على العراق

بعد سنوات قليلة، لقيت سوريا مصيرا مشابها، ففي مايو/ أيار 2015، دخل مقاتلو تنظيم داعش مدينة تدمر الأثرية، وهي من أهم المدن التاريخية على طريق الحرير القديم.

وبعد أسابيع، فُجّر معبد بعل شمين، ثم قوس النصر الشهير في أكتوبر/ تشرين الأول من العام نفسه، وكان هذا القوس قد شيّد في القرن الثالث الميلادي، ويرمز لعبقرية العمارة الرومانية، لكنه أصبح ركاما في لحظة.

أما في اليمن، فقد أصابت الحرب المستمرة منذ 2015 قلب العاصمة صنعاء، بما فيها المدينة القديمة، التي تعود مبانيها إلى أكثر من ألف عام.

ففي يونيو/ حزيران 2015، شنت “دول التحالف” غارات جوية على جماعة أنصار الله الحوثيين، فدمرت جزءا من الحي السكني التاريخي، فانهارت منازل من الطين المصقول، كانت مدرجة على لائحة اليونسكو للتراث العالمي.

وقد أظهرت الصور التي التقطت يومئذ أطفالا يبحثون وسط الركام عن كتب وصناديق خشب قديمة، في مشهد جمع بين المأساة الإنسانية وفقدان الذاكرة المعمارية.

ما يجمع هذه الحالات الثلاث، أن الدمار لم يكن مجرد خسارة لأحجار أو مبانٍ، بل ضربة مباشرة لذاكرة الشعوب، ورموزها التي صاغت هويتها على مدى قرون.

الحرب تدمر الحي السكني التاريخي في صنعاء المدرج على لائحة التراث العالمي لليونسكو

فالمتاحف والمواقع لم تكن مجرد أماكن سياحية، بل شواهد على تداخل الدين والفن والسياسة والاقتصاد في تاريخ المنطقة، وحين فقدتها الشعوب، وُلد إحساس عميق بالاقتلاع والاغتراب عن الماضي.

لكن وسط هذا الركام، بدأت محاولات جديدة للإنقاذ، لا بإعادة البناء بالحجر، بل بإعادة التخيل بالضوء والبكسل. وهنا بدأت حكاية المتاحف الافتراضية.

كيف تبنى المتاحف الافتراضية؟

حين نسمع عبارة “متحف افتراضي”، قد نتخيل شيئا سحريا يحدث بداخل الحاسوب، والحق أن العملية تبدأ بخطوات بسيطة تشبه لعبة الأحجية، فتُجمع صور كثيرة من مصادر شتى، ثم ترتّب وتركّب معا، حتى تشكل نسخة ثلاثية الأبعاد من قطعة أو مبنى مفقود.

أول ما يحتاجه فريق العمل هو ثروة بصرية، وهنا يأتي دور السياح والباحثين وحتى المواطنين العاديين. فمثلا، في حالة متحف الموصل بعد 2015، أنشأ ناشطون مبادرة اسمها “ريكري”، وكانت تسمى بداية “مشروع الموصل”.

ناشطون ينشئون مبادرة اسمها “ريكري” وكانت تعرف بداية باسم “مشروع الموصل” لترميم الآثار

كانت الفكرة بسيطة، وهي: “أرسلوا لنا صوركم القديمة من داخل المتحف”. وخلال أسابيع، جمع المشروع آلاف الصور، التي صورها الزوار قبل الدمار، فأصبحت المادة الخام لإعادة بناء النماذج المفقودة.

ثم يأتي دور التقنية، فيأخذ برنامج حاسوبي كل الصور ويقارن بينها، فهذه الصورة تظهر التمثال من الأمام، وهذه من الجانب، وهذه من زاوية أعلى… ثم يربط النقاط المشتركة، لينتج شكلا ثلاثي الأبعاد.

تسمى هذه العملية “التصوير الضوئي المجسِّم”، ويمكن تشبيهها بعمل رسّام يريد أن يرسم تمثالا، فينظر إليه من كل الزوايا قبل أن يبدأ، أما هنا فيقوم البرنامج بذلك الدور، لكن بالدقة الحسابية.

تنتج هاتان الخطوتان “النموذج الأولي”، ويكون غير مكتمل، ففيه ثقوب أو أجزاء غامضة، وحينئذ يأتي دور خبراء النمذجة ثلاثية الأبعاد، فيستخدمون برامج مثل “بلندر”، أو “مايا” لإصلاح النواقص.

وأحيانا يُستعان بذكاء اصطناعي لملء الفجوات، فإذا كانت يد التمثال -مثلا- مفقودة في كل الصور، يقترح البرنامج شكلا تقريبيا، بناء على تماثيل مشابهة من نفس الحقبة.

نماذج ثلاثية الأبعاد يعاد استنساخها للقطع الأثرية المنهوبة أو المدمرة

ولا تهدف هذه الخطوة إلى إنتاج نسخة جميلة فقط، بل نسخة دقيقة تاريخيا، لذلك يُستدعى علماء آثار ومؤرخون ليتحققوا من التفاصيل، ويتأكدوا من صحة ودقة النقوش والألوان، وفي كثير من الأحيان، تضاف ملاحظات داخل النموذج نفسه، لتوضيح الأجزاء المؤكدة والمستنتجة.

وبعد اكتمال النموذج، يكون لعرضه عدة طرق:

  • متحف ويب: عبر مواقع تفاعلية، مثل “سكتش فاب”، حيث يستطيع الزائر تدوير القطعة، وتكبيرها بلمسة إصبع.
  • تجربة واقع افتراضي: يعتمر الزائر خوذة معينة كنوع “أكيولاس” مثلا، ويمشي افتراضيا بين قاعات المتحف.
  • تطبيق واقع معزز: يفتح الزائر كاميرا هاتفه، فيرى التمثال أو القوس الأثري، وكأنه موضوع أمامه في الغرفة.

ثلاثة متاحف عربية

شهدت السنوات الماضية بروز 3 مشاريع، أصبحت علامات فارقة في كيفية إنقاذ الذاكرة الثقافية بعد الكوارث والحروب، فمشروع “ريكري” انطلق مباشرة بعد انتشار فيديو تدمير متحف الموصل عام 2015.

مشروع “ريكري” يعيد نمذجة بعض الآثار بالطباعة ثلاثية الأبعاد

قدم الفكرة الباحثان “ماثيو فينسنت” و”تشانس كوفينغور”، وهما متخصصان في التصوير المجسَّم، وقد دعوا الناس حول العالم إلى رفع الصور التي التقطوها داخل المتحف قبل الدمار، حتى جمعوا آلاف الصور من هواتف الزوار.

وقد بُنيت نماذج ثلاثية الأبعاد للقطع المحطمة، بتقنيات “التصوير الضوئي المجسِّم”، وأصبحت المنصة مشروعا تطوعيا عالميا مفتوح المصدر.

وبعد مدة، تغير اسم المشروع إلى “ريكري” (Rekrei)، وصار موقعه على الإنترنت يعرض النماذج مجانا، ويستضيف معارض متنقلة في أوروبا وأمريكا، فأصبح مثالا على قدرة المجتمع على إنقاذ ذاكرته بالتقنية.

“تشانس كوفينغور” و “ماثيو فينسنت”

ومن هذا الجهد، ولدت تجربة “استعادة الموصل” (RecoVR Mosul)، التي طورتها مجلة “ذي إيكونوميست” بالتعاون مع فريق “ريكري” وشركة “فيجواليز” (Visualise)، المتخصصة في الواقع الافتراضي.

وقد بدأ العمل على التجربة منتصف عام 2015، وكان الهدف إعادة بناء متحف الموصل في صيغة افتراضية، يمكن للزائر التجول فيها بزاوية 360 درجة.

استخدمت النماذج التي أعادها “ريكري” مع صور إضافية، لإنتاج مشهد متكامل للمتحف كما كان قبل التدمير. وأطلقت التجربة في 2016 على تطبيقات الهواتف الذكية، ونظارات الواقع الافتراضي، وما زالت متاحة حتى اليوم عملا توثيقيا ورسالة بصرية قوية، تؤكد أن التقنية تستطيع إعادة إحياء أماكن اختفت من الواقع.

أما في سوريا، فكان تدمير قوس النصر الشهير في مدينة تدمر عام 2015 دافعا لمشروع آخر، أشرف عليه معهد علم الآثار الرقمي البريطاني، وقد جمع صورا وبيانات تصويرية عن القوس، بالتعاون مع مبادرات منها “مليون صورة”، ومنظمات دولية منها اليونسكو.

نموذج ثلاثي الأبعاد دقيق لقوس النصر التدمري، عُرض في ميدان ترافالغار في لندن عام 2016

من هذه الثروة البصرية، بُني نموذج للقوس ثلاثي الأبعاد دقيق، ثم استخدم حجر صناعي وطابعة ثلاثية الأبعاد عملاقة، لإنتاج نسخة مادية شبه مطابقة، يبلغ حجمها ثلثي الأصل، ثم عرضت بميدان ترافالغار في لندن عام 2016، ثم نقلت إلى نيويورك ومدن أخرى في جولة عالمية، وأتيح النموذج الرقمي عبر الإنترنت.

أصبحت هذه التجربة رمزا لكيفية توظيف الطباعة ثلاثية الأبعاد والبيانات المفتوحة، في استعادة جزء من تراث بشري ضائع، وربطه بجمهور عالمي، مع إبقاء الأمل قائما بأن تعود النسخة يوما ما إلى موقعها الأصلي في تدمر.

من له حق السرد؟

خلف هذا البريق التقني، تكمن أسئلة حادّة عن من له الحق في السرد، ومن يختار ما يُعرض وما يُخفى، فالواقع المعزَّز ليس وسيطا محايدا، بل بيئة تتداخل فيها قرارات تقنية وجمالية وثقافية، وتنعكس في النهاية على صورة التاريخ المقدَّمة للجمهور.

يرى باحثون في دراسات التراث الرقمي أن التحيز يبدأ من لحظة اختيار المواد الخام نفسها، فالصور أو النماذج ثلاثية الأبعاد التي يجمعها المصممون، تأتي في الأغلب من أرشيفات غربية عالية الجودة، وتهمَّش الصور المحلية أو الشعبية الملتقطة بهواتف الزوار.

هذا الاختيار التقني -وإن بدا بريئا- يضخم روايات بعينها ويهمش أخرى، فيعيد إنتاج مركزية الغرب في رواية التراث العربي.

معبد ديبود الفرعوني في مدريد الذي أهدته الحكومة المصرية للحكومة الإسبانية

ولا يتوقف التحيز عند المصدر، بل يمتد إلى طريقة العرض، فاختيار طبقة زمنية أو حضارية على أخرى -كما في مشروعات إعادة بناء مواقع متعددة الحقب- يعني عمليا منح أولوية سياسية أو ثقافية لحقبة دون غيرها. حتى الواجهات البصرية وطرق التفاعل، قد تحوِّل الزائر من مشارك في استعادة الذاكرة، إلى متلقٍّ لرواية جاهزة صاغها المصمم.

ومع ذلك، تبرز تجارب مثل مشروع “ريكري”، بوصفها محاولة لكسر هذا الاحتكار، فهي تعتمد على صور يرسلها الجمهور، لإعادة تشكيل القطع المفقودة. لكن المبادرات تلقى تحديات تتعلق بالجودة والمعايير التقنية، التي قد تقصي صورا أقل وضوحا وأكثر شعبية، فتعود التحيزات من الباب الخلفي.

يدعو الخبراء إلى تصميم تشاركي، يدمج المجتمعات المحلية في كل مرحلة من مراحل بناء المتاحف الافتراضية، من جمع المواد إلى طريقة السرد، وإلى مراجعة الخوارزميات التي تتحكم فيما يعرض أولا وما يخفى، فالتقنية -كما يقول أحد المتخصصين- “إما أن تكون أداة لتحرير الذاكرة، أو لإعادة استعمارها رقميا”.

وتتوقف فاعلية الواقع المعزَّز في إنقاذ الذاكرة العربية المهددة على وعي القائمين عليه بانحيازاتهم، واستعدادهم لإشراك أصحاب الذاكرة أنفسهم في صناعتها، لا الاكتفاء بنسخة رقمية جميلة لكنها منحازة. هكذا فقط يمكن أن تتحول التقنية من شاشة براقة إلى جسر حقيقي بين الأجيال.


إعلان