“أسد ماندي”.. حكاية مغيبة عن ملاحم ملك أفريقي عظيم

في عالمنا المعولم، الذي ينادي ظاهرا بالتنوع الثقافي والاعتراف بالآخر، ويدافع عن حقوق الأقليات والشعوب الأصلية، تكاد رؤية الغرب للوجود من حولنا تكون الحقيقة الوحيدة، وتكاد شعوب الأرض أن تقتصر على منظوره للكون وتهمل ما سواه، فتعيش اغترابها أفرادا وجماعات.

يؤكد تلك الحقيقة فيلم “سوندياتا كيتا، أسد ماندي” (Soundiata Keïta, le lion du Mandé)، للمخرجين “كريستيان ماكاري” و” جوسزا أنجمبيه” (2024). فهو يعرض سيرة مؤسس مملكة مالي الشاسعة الثرية، ويفتح أعيننا على ملك عظيم، تغيبه الذاكرة الإنسانية.

اقرأ أيضا

list of 4 itemsend of list

فبعد أن عاش هذا الملك في المنفى، وحيل بينه وبين عرشه الموروث عن أبيه، بسبب اضطرابات قبلية، أسس أكبر مملكة في أفريقيا في القرن الثالث عشر، ووحد ممالك “مالينكي” في معركة “كيرينا” عام 1235، وبنى مجتمعا قائما على العدل والسلام، وسن دستورا يحفظ الكرامة الإنسانية ويمنع العبودية، ويعد اليوم من أوائل الدساتير في العالم.

“سوندياتا كيتا”.. من المنفى إلى العرش

ولد “سوندياتا كيتا” عام 1190 في نياني بمملكة ماندينغو الصغيرة (في غينيا كوناكري حاليا)، وكان مُقعدا ضعيفا عاجزا عن المشي في سنواته الأولى، يزدريه الناس ويسخرون منه.

وبعد وفاة أبيه الملك “ناري ماغان كوناتي”، اضطرت أمه إلى الفرار إلى مملكة ميما، هربا من بطش أخيه الأكبر “دانكاران تومان”، الذي استولى على العرش، فعاشا معا في المنفى.

ولد الطفل “سوندياتا كيتا” عام 1190 في نياني بمملكة ماندينغو الصغيرة

لكن صلابته وإرادته ساعدتاه على التعافي، حتى استطاع الوقوف والمشي، ثم لما برع في الصيد تلقى تعليما في فنون الحرب. وفي تلك الأثناء كانت شعوب ماندي تبحث عن قائد شاب ذاق الألم، ليخلصها من اضطهاد الملك الساحر “سومانغورو كانتي”. فلما علم “سوندياتا” أن هذا الملك قد غزا قبيلته، استجاب لنداء المستغيثين به لتحريرهم.

وبحنكته الدبلوماسية، وحد القبائل وأسس جيشا عظيما، ثم استغل قوته وشجاعته ومهارته في رسم الخطط العسكرية، حتى هزم الملك الساحر في معركة “كيرينا” عام 1235.

إرسال السفراء للأقاليم للبحث عن قائد شاب ذاق الألم ليخلصها من اضطهاد الملك الساحر

أثناء حكم “سوندياتا”، وحد شتى المجموعات العرقية، ونظم المجتمع في عشائر متساوية في المكانة، ليست بينها علاقات هرمية، ومنح الجميع حق امتلاك الأرض، فسيطرت قواته على طرق التجارة وعلى مناجم الذهب، وازدهرت الزراعة والفنون.

وفي عام 1255، توفي مخلفا مملكة مالي القوية المؤثرة، التي امتدت على مساحة شاسعة من غرب أفريقيا، شملت مالي وغينيا والسنغال وغامبيا الحالية.

“كل حياة حياةٌ”.. ميثاق سابق لزمانه

ينسب إلى “سوندياتا كيتا” سن ميثاق “ماندي”، الذي يؤسس قوانين حقوق الإنسان في أفريقيا، ويمنع العبودية بالغارات، ويسمى هذا الدستور أحيانا ميثاق “كوروكان فوغا”، ويعد من أقدم الدساتير في العالم، وما يميزه ترسيخه لقيم العدالة والسلام والكرامة الإنسانية.

فبعد انتصاره في معركة كيرينا، وتأسيسه مملكة ماندينغو التي تتشكل من 12 إقليما بحكم غير مركزي، أعلن ميثاق “ماندي” بمشاركة قادة شتى الأقاليم، فشمل ديباجة وسبعة فصول، تدعو -وفق تعبير معاصر- إلى حرية التعبير والضمير، واحترام البيئة، وتضبط أدوار الرعايا الاجتماعية وفق تسلسل هرمي.

سوندياتا كيتا الشاب المفعم بالقوة ينادي بالقيم عامة

ظل هذا الدستور شفويا، وكانت الأجيال تتناقله في عصورا حتى بعد زوال المملكة، وكان يتضمن ديباجة موجهة باسم “ماندي” إلى كل الأقاليم الواقعة تحت سيطرته. يقول نصها: كل حياة حياةٌ، فلا حياة أقدم ولا أكرم من حياة أخرى، ولا حياة أسمى من حياة أخرى.

ويفصل مادته في شكل أوامر أو قيم عامة:

  • لا يعتدي أحد على جاره من غير وجه حق، ولا يلحق الأذى بجاره.
  • لا يعذب أحدٌ أخاه الإنسان.
  • الأخطاء تستوجب التعويض.
  • التعاضد والتكافل.
  • السهر على الوطن.
  • الجوع ليس خيرا، والعبودية ليست خيرا.
  • لن تدمر الحرب قرية أبدا لتغنم عبيدا. أي لن يضع أحدٌ من الآن فصاعدا لقمة في فم أخيه الإنسان ليبيعه.
  • لن يضرب أحدٌ في ماندي، ناهيك عن إعدامه، لمجرد أنه ابن عبد.

قسم الصيادين والخطاب الملهم

أُحييت مادة “ميثاق ماندي”، وأكسبت روحا جديدة، فقد نشره “يوسف تاتا سيسي” عام 1998، وضمّنه 44 مادة تتناول تنظيم المجتمع، وحقوق المواطنين وواجباتهم، وصاغه بمفردات حديثة ومفاهيم معاصرة. وفي 2009، أُدرجت وثيقته في قائمة اليونسكو للتراث الثقافي غير المادي للبشرية.

سوندياتا كيتا”.. الحكاية المغيبة لملك أفريقي عظيم

ويلح الفيلم على أن لبسا يقع في أذهان المؤرخين وفي نص الميثاق ذاته، فوفق أبحاث أجراها “وا كاميسوكو” و”يوسف تاتا سيسي” منذ السبعينيات، يسود تصور أن نص الدستور المتداول، يمزج نصين مختلفين في خطاب واحد.

أما أولهما، فقَسم الصيادين الذي يعود إلى عام 1222، وثانيهما ميثاق “ماندي” أو “كوروكان فوجا”، ويتصور أنه يعود إلى عام 1236، وقد أعلن رسميا يوم تنصيب “سوندياتا كيتا” ملكا لمالي كما أسلفنا.

ويقدر المؤرخون اليوم أن النصين قد اندمجا عبر روايات الـ”غريو” على مدار السنين، وأن الخطاب الثاني مستلهم من الخطاب الأول.

سيرة “سوندياتا كيتا” كما يرويها الشعراء

لا يقدم الفيلم سيرة “سوندياتا كيتا”، بالمعنى المتداول في السينما الوثائقية اليوم، بل يستند إلى روايات “الغريو” ليجمع ما تناثر منها. و”الغريو” شخصية مهمة في مجتمع غرب أفريقيا قديما، قريبة من شخصية الحكواتي في تراثنا السردي، ولكنها تمتاز عنها بمكانتها المرموقة لدى شعوب الماندينغو خاصة، فغياب التدوين وعدم تفرع العلوم والاختصاصات جعلته حافظ التراث الثقافي والهوية الجماعية من تاريخ وأساطير، وملاحم بطولية.

تضمنت قصة “سوندياتا كيتا” أحداثا خارقة كثيرة، فمحرك السرد فيها انتشار نبوءة تعلن قرب ميلاد ملك عظيم، مقدر له أن يوحد ممالك مالي الاثنتي عشر، ولكن النبوءة مشروطة، فلا يمكن للملك أن يرى النور إلا إذا تزوج الزعيم امرأة شديدة القبح.

سوندياتا كيتا في بطولة قصص الأطفال المصورة

وصادف أن قدّم صيادان امرأة حدباء ذات عينين وحشيتين إلى بلاط الملك “ماغان كون فاتا”، فتذكر النبوءة حينئذ، وتزوج هذه المرأة الدميمة، فرزق منها “سوندياتا كيتا”.

وبسبب هذه النبوءة كاد له أخوه غير الشقيق، لينتزع منه الحكم الذي ورثه له أبوه، ومن النبوءة أيضا استمد “سوندياتا كيتا” إصراره على تحدي إعاقته، مدفوعا برغبته في تخفيف معاناة أمه المنبوذة وبإرادته الصلبة. فنهض فجأة بمساعدة حداد، واقتلع شجرة “باوباب” كاملة بضربة واحدة، وكانت بداية مجده.

وفي روايات أخرى أنه لما رأى أمه تُهان يوما، اندفع قائما انتقاما لها، وأخذ يمشي بقوة إرادته، فكانت خطواته الأولى خطوات عملاقة. وتذكر هذه الروايات أنه حين بلغ 10 سنين أصبح صبيا مفعما بالحيوية، وكانت ذراعاه بقوة 10 رجال، أما عضلاتهما فكانت تثير الرعب في رفاقه، ثم أصبح صيادا ماهرا لاحقا ومحاربا بارعا، وفرض احترامه على الجميع بعد أن برع في فنون القتال.

بين التاريخي والأسطوري والملحمي

في هذه السيرة عرض لملحمة “سوندياتا كيتا” ذات الأحداث الكثيرة والتفاصيل الثرية، وفيها يمثل الملك البطل الخيّر، الذي يواجه أعداء أشرارا مقتدرين؛ الأخ الأكبر الذي يستولي على الحكم أولا، والملك الساحر الظالم ثانيا، وينتصر عليهما، ويرسي حكما عادلا، ويبني مملكة عظيمة.

ومن البديهي أن تشكل شخصيته على هذا النحو، فيبدو أن هذا الملك كان عظيما حقا. ثم إن قصته مرت مشافهة من جيل إلى آخر عبر الغناء والشعر، ولا تزال تروى إلى اليوم، حتى لقب “أسد ماندي”، الذي يختزل معاني القوة والشجاعة، ويرمز لانتصار العزيمة على الشدائد.

وإلى اليوم لا تزال حكايته تلهم مخرجي السينما وكتاب دراما قصص الأطفال، فقد أضاف إليها المخيال الشعبي كثيرا من تصوراته للذات المثالية، وجعل التاريخي منها يتداخل مع الملحمي، فأصبحت أسطورة تأسيسية، تحتفي بقيم الشجاعة والعدالة والصمود.

استند المؤرخون إلى تراث “الغريو” المعتمدين لدى عائلة “كيتا” في إعادة تشكيل حياته، لغياب سجلات مدونة لسيرة الملك، لأسباب كثيرة، منها عدم تطور الكتابة عند الماندينغو.

لكنهم لم يسلموا من تأثير الأسطوري في رسمهم له، فظلت صورته مثالية، لا ذكر فيها للحظات ضعف مر بها، أو هزائم تلقاها، أو سوء تقدير أتاه.

أضف إلى ذلك اختلاف الروايات، واختزالها مجد المملكة في شخص “سوندياتا” الذي توفي عام 1255 تقريبا، مع أنها مملكة شاسعة امتدت أجيالا، ونشأت من تحالفات بين أقاليم كثيرة.

ملصق فيلم “سوندياتا.. أسد ماندي” (Soundiata Keïta, le lion du Mandé)

وقد واصل خلفاؤه من بعده توسيع المملكة، حتى امتدت من المحيط الأطلسي غربا إلى نهر النيجر شرقا، ومن الصحراء الكبرى شمالا إلى خليج غينيا شمالا، ولم يأخذ مجدها في الأفول إلا بعد وفاته بقرن ونصف، في نحو عام 1400.

ملحمة برؤية علمية معاصرة

انطلق الفيلم من ذلك الموروث المركب، وحاول أن يثري مادته البصرية بمشاهد تمثيلية ورسومات توضيحية، فاحترم مقومات الفيلم الوثائقي المعهودة، المتمثلة في المعالجة الموضوعية والإبداعية للظاهرة المدروسة، ولم يتأثر بالموجة الجديدة التي تضيف إليه منكهات من الإثارة والتشويق والجريمة، لجلب مشاهدي منصات العرض السينمائي على الإنترنت.

وقد استطاع المخرجان “كريستيان ماكاري” و” جوسزا أنجمبيه” أن يقدما عملا عميقا قريبا من الأفلام الإثنوغرافية، التي تعرض معيش المجتمعات الصغيرة أو الجماعات العرقية، بالمتابعة الميدانية المباشرة.

كما استطاعا أن يكسرا احتكار الرجل الأبيض للملاحم، فعرضا ملحمة الشعوب السوداء، التي تعاني الاستعباد وتتطلع إلى الكرامة، وأبرزا دور المرأة في المجتمعات السوداء، وتأثيرها في الحياة العامة، وفي الممارسة السياسية.

منحوتات في شوارع مالي تجسد ملحمة سوندياتا كيتا

ولكنهما عولا على إسهام باحثين ضليعين في علم التاريخ وعلم الإنسان وعلم الاجتماع، بدل المعايشة، وأخبرونا عن الماضي بدل التركيز على الحاضر.

ولم يكن هذا الماضي يقصد بذاته بقدر ما كان يمثل جسرا يستشرف المستقبل. فيحثّ الفيلم الأجيال الجديدة على الاعتبار من رمزية “سوندياتا كيتا”، للتحرر من المنظور الغربي الاستعماري، والتطلع إلى أفريقيا جديدة من منظور أفريقي، كل ذلك من دون الوقوع في الخطاب التقريري المباشر.


إعلان