“سوريا الصغرى”.. حكاية من صنعوا أوطانهم في المهجر شوقا

ترافَق أفول شمس الخلافة العثمانية، وتداعي القوى الاستعمارية إلى اقتسام تركة الرجل المريض، مع أحداث خطيرة عصفت ببلاد الشام، من مجاعات ضربت مدنها وقراها، إلى اضطرابات طائفية، مع ظهور فكرة القومية العربية، التي واجهت بطشا تركيا شديدا من السلطات العثمانية.
كل هذه الأحداث دفعت كثيرا من السوريين -ولا سيما المسيحيين- للهجرة، إلى أرض الأحلام أمريكا، فأسسوا مجتمعهم الصغير المنتج، فكان منهم رجال أعمال وأصحاب مصارف وأدباء وأكاديميون.

وفي هذا السياق، جاء فيلم “سوريا الصغرى”، الذي أنتجته الجزيرة الوثائقية في 2024، وعرضته على منصاتها، وقد استضافت فيه عددا من الباحثين المهجريين، فسلطوا الضوء على مجتمع المهاجرين السوريين في نيويورك، بتناولهم واحدة من روايات المهجر.
اقرأ أيضا
list of 3 items- list 1 of 3علي الطنطاوي.. أديب الفقهاء وفقيه الأدباء
- list 2 of 3مي زيادة.. فراشة الأدب التي انتهت إلى مشفى المجانين
- list 3 of 3أبو القاسم الشابي.. رائد الشعر الحديث في تونس
الأسباب التي دفعت إلى هجرة السوريين
احتفلت مكتبة الكونغرس يوم 29 مارس/ آذار 2011 بالذكرى المئوية لنشر رواية “كتاب خالد” لمؤلفها أمين الريحاني، وهي أول رواية بالإنجليزية يكتبها عربي أمريكي، ويستوحي هذا الفيلم الذي بين يدينا شخصياته الدرامية -خالد وشكيب- من تلك الرواية.
فبعض الناس يرى الهجرة بابا لتحقيق الطموح والأحلام، وبعضهم يراها غربة وانسلاخا عن الجذور، وسوف نخوض غمار هذه التجربة، فنرى أين سترسو بنا سفينتها.

“بدأت القصة من السوق، قبل أن يختفي حرير الشام، إذ كان الوضع يومها صعبا في المنطقة، وكانت الدنيا تدير ظهرها لأهل الدار، فأردنا أن نجرب حظنا ونهاجر، مثلما هاجر كثير من أبناء بلدتنا”.
يقول الكاتب والباحث تيسير خلف: في الربع الأخير من القرن الـ19 وبدايات القرن الـ20 -مرحلة السلطان عبد الحميد- مرحلة لها ظروفها الخاصة، صعوبات اقتصادية وتدخلات عالمية في تركة “الرجل المريض”، وكانت السلطنة العثمانية تحت وصاية الدول الاستعمارية.
“كانت مرحلة جمود كلي، اقتصاد عالمي منهار، وصناعات محلية في الحضيض، وخصوصا صناعات الأقمشة والحرير، أهم مصادر الدخل لأهل بلاد الشام”.

ويعزو الباحث والأكاديمي بطرس لبكي حركة الهجرة إلى حدوث اختلالات في موازين القوى بين شتى الطوائف، وانفتاح البلاد على التجارة الإنجليزية والفرنسية، في ظل الثورة الصناعية التي اجتاحت أوروبا، مما أدى إلى ضرب صناعة الحرير في منطقة جبل لبنان والنسيج عموما في بلاد الشام، وما رافق ذلك من ازدياد عدد السكان ونقص فرص العمل.
سوء الإدارة والتخطيط في السلطنة العثمانية
يسلط أستاذ التاريخ بالجامعة الأمريكية ببيروت مكرم رباح الضوء على سوء الإدارة والتخطيط في السلطنة العثمانية، التي لم تستطع الانتقال إلى اقتصاد منتِج جديد بعد سقوط صناعة الحرير، كما أن تراكم الديون عليها، وعدم استثمارها الصحيح في بنية الطرق التحتية بين القرية والمدينة، كل هذا أدى إلى هجرة الفلاحين ورؤوس الأموال.

ليست الهجرة انتقالا من مكان لآخر فحسب، بل هي قطع جذور الارتباط بالوطن، تُقسي القلب وتجعلك قاسيا حتى على نفسك، وتدفعك للتنازل عن تاريخك وذكرياتك، في سبيل حفنة من النقود تُصلح بها حياتك الحاضرة، وتقطع الأواصر مع الأهل وأناس تحبهم.
يقول هاني بواردي، أستاذ التاريخ بجامعة متشيغن: كان في الأعوام 1850-1860 عنف طائفي، مشهدٌ كتب فيه محمد زعيتر كتابين كبيرين، منهما “المارونية في لبنان”، وأوضح فيه دعم الإنجليز للدروز، في حين دعم الفرنسيون الموارنة، لكن الغرب لم يسمع إلا من طرف واحد، وصوّر الأمر بأنه “اضطهاد ديني”، حين تمرد الفلاحون الموارنة على المُلاك الدروز وقتلوا عددا منهم.
ويدحض سردية الاضطهاد الديني ما ذكره “ماثيو جابر ستفلر”، الباحث في المتحف العربي الأمريكي، إذ يقول: ما وجدناه أنه لدى توجيه سؤال للعرب عن سبب هجرتهم، يجيب المسيحيون منهم إنه الاضطهاد الديني، وهذا إن كان صحيحا في بعض الحالات، فإنه ليس كذلك عموما، ولكن الأمريكيين يحبون سماع هذه السردية ويرحبون بأصحابها.

وكانت للمجاعات التي حصلت في العلم بأسره -ولا سينما إيرلندا ولبنان إبان الحرب العالمية الأولى- دور محوري في الهجرة، فقد خسر لبنان ربع سكانه تقريبا في المجاعة، مما سبّب حالة رعب لدى الناجين من تكرار هذه المأساة فآثروا الهروب، وخسر لبنان الربع الثاني من سكانه بسبب الهجرة، وهو أيضا ما دفع كثيرا من الشعوب إلى الهجرة باتجاه أرض الأحلام أمريكا.
قدمت أمريكا نفسها في منتصف القرن الـ19 قوة عالمية عظمى، وأسست اقتصادا حيويا بديلا ووجهة حقيقية للهجرة، وأنتجت كثيرا من الصناعات الكهربائية والميكانيكية التي أبهرت العالم، وباتت حلما للمهاجرين من أوروبا، ومن جميع أنحاء العالم.
لم تكن الهجرة خيارا بقدر ما كانت قدرا
يقول خالد، بطل الرواية: ركبنا السفينة من بيروت إلى مرسيلية، ومن هناك عبرنا الأطلسي إلى جزيرة إليس في نيويورك، كان في السفينة مهاجرون من مختلف أنحاء العالم. وكان أقوى جواز سفر في تلك الأيام هو كم تملك من ليرات الذهب.

ويقول رفيقه شكيب: اعتقلوني في سجن المصحة في جزيرة إليس مدة أسبوع، ليتأكدوا أننا غير مصابين بمرض التراخوما الذي يصيب العين، كنت مصابا، وقررت السلطات الأمريكية إعادتي على نفس الباخرة، ولكن هيهات، فقد غافلت الممرض وحشرت نفسي بين مجموعة من الطليان الخارجين من الجزيرة باتجاه نيويورك، ووصلت إلى بر الأمان.
وقبل الوصول إلى إليس، كانت بعض الأسئلة تُوجه إلى المهاجرين، منها: إلى أين ستتوجه ومع من ستسكن، وهل تملك من المال ما يكفيك لئلا تكون عالة على السلطات؟
استقر معظم العرب القادمين من سوريا ولبنان في نيويورك، لأن نقطة عبورهم جزيرة إليس، وكان أكثرهم يستقر في منطقة مانهاتن، مع أعراق أخرى كثيرة، ويبدؤون عملهم باعة متجولين.

“الهجرة مغامرة غير مضمونة تجعلك تعيش حالتي الرفض والقبول، ونيويورك مدينة عجيبة مثل مدن الشياطين، فيها السلطة والثروة والعجائب، ناطحات سحاب تحجب عنك السماء والشمس، وهذا غير معتاد للمهاجر السوري، الذي كان يرى السماء أينما ولى وجهه”.
“كانت نيويورك تشكل صدمة للمهاجرين من الشرق، مدينةٌ حديثة مكتملة العناصر، لا تكاد تختلف عن نيويورك اليوم. الذي لا يعمل فيها قد يموت من الجوع، من دون أن يشعر به أحد. حتى أن بعض المهاجرين لم يستوعبوا صدمة الحضارة، فقفلوا راجعين”.

يقول الباحث الأكاديمي أمين ألبرت الريحاني: اكتسبت الجالية 3 مسميات باختلاف المراحل الزمنية التي هاجرت فيها، فحتى سقوط السلطنة العثمانية بعد الحرب العالمية الأولى كانوا يسمون أتراكا، ثم أصبحوا يسمون العرب السوريين، ثم أضيف لقب أرثوذوكس أو موارنة أو كاثوليك، بهذا الترتيب.
بدايات صعبة ونجاحات مبهرة
كان المهاجرون يسكنون في أقبية ومستودعات تحت مستوى الطريق، وكانوا عرضة لتدفق المياه عليهم في أغلب الأحيان، ثم تطورت الأمور، وأسس العرب السوريون حيا في شارع واشنطن في مانهاتن بنيويورك، وصاروا يعدون بالآلاف.
ومثلهم كان بقية المهاجرين من أنحاء العالم، يؤسسون أحياءهم، وصار يطلَق على هذه الأحياء “سوريا الصغرى”، أو “إيطاليا الصغرى”، وهكذا.

يقول خالد: كانت البداية صعبة للغاية، وكان علينا أن نعمل بجهد حتى نأكل ونسكن، لأن من لا يعمل سيجوع وينام على قارعة الطريق. دخلنا التجارة من الباب الضيق، باعة متجولين في محطات القطارات، ولكن في سنتين أصبح لدينا نقود وحساب في المصرف. كنتُ في نيويورك، لكن قلبي ما زال معلقا بأحجار معبد بعلبك.
ويقول الأديب والشاعر ربيعة أبي فاضل: كان بعضهم يبيع مقتنيات مشرقية، ولا سيما الأيقونات الدينية من القدس، يطوفون بها على المنازل وفي الطرقات، لكن بعضهم مات جوعا، وأغلب العمال المهرة من الأوروبيين اشتغلوا في المصانع، ولم تكن تلك المهارة عند غالب المهاجرين العرب، فعمل أكثرهم باعة متجولين.
كان أغلب المهاجرين العرب مسيحيين عزابا، فتح بعضهم متاجر صغيرة ومقاهي، وطور بعضهم أعماله ليفتتح معملا منتجا، واشتغلوا في الملابس الحريرية النسائية، وأصبح بعضهم ملاك مصارف، حتى أصبح الباعة المتجولون يشترون بضاعتهم من التجار العرب أنفسهم.

وجاء بعض المهاجرين العرب على متن الدرجة الأولى من السفن، ولديهم مستوى جيد من التعليم، ورأس مال كاف لافتتاح عمل جيد فور وصولهم، لكن أغلبهم جاؤوا في الطبقات السفلى من السفن، وعاشوا أوقاتا صعبة قبل أن يصبحوا باعة متجولين على أحسن تقدير.
الحركة الأدبية والثقافية في المهجر
في عام 1898، كان لسلوم مكرزل الدور الأكبر في تعريب المطابع، فقد صبّ الحروف العربية لنشر الصحف والدوريات والكتب باللغة العربية بين الجالية، ودوام إطلاعهم على آخر مستجدات المجتمع الأمريكي، التي تؤثر على المهاجرين العرب، اقتصاديا أو ثقافيا أو حتى سياسيا.
وفي 1913، أسس السوري نسيب عريضة مجلة “الفنون”، وكان لإيليا أبي ماضي وعبد المسيح حداد مجلات استمرت سنوات، وانتقلت خارج نطاق الولايات المتحدة. وانتشرت صحف منها “كوكب أمريكا” و”مرآة الغرب” و”الهدى” ثم جاءت “البيان”، وكلها كانت تتحدث عن المجتمع العربي الجديد في أمريكا، بل إنهم نشروا عن بلدانهم العربية التي قدموا منها.

ألهب جو الحرية والاستقرار السياسي في أمريكا حماسة الشعراء والأدباء العرب لإنتاج غزير، وأنشؤوا الأندية الثقافية والجمعيات، وعكسوا على الواقع الأمريكي صورة عن مجتمعهم العربي الذي جاؤوا منه، وكان من أهمها “الرابطة القلمية” التي نشأت عام 1920.
وصرنا نتحدث عن “أدب المهجر” أو الأدب العربي الأمريكي، وسمع العالم العربي في الشام ومصر بنتاج هذه الرابطة، وعُمِّد أمين الريحاني أبا روحيا للأدب العربي في أمريكا، وذلك بمناسبة احتفالية الذكرى المئوية لرواية “كتاب خالد”.
التناقضات تفجر الطاقات
كان أمين الريحاني قد التقى جبران خليل جبران قبل 1912، وكان جبران يسميه “الرأس الكبير”، وقد رسم له 20 رسمة ضمنها روايته “كتاب خالد”. وهي رواية صعبة القراءة والفهم، كتبت بأسلوب غامض، مع وضوحها في سرد الرحلة من بيروت إلى نيويورك، والمعاناة التي واجهت المهاجرين، وقصة الفيضان الذي أغرق القبو والبضاعة والكتب.
وكأن الريحاني بشخصيتي “خالد” و”شكيب” قد صور نفسه بشخصيتين متضادتين، فحيثما توجد المتضادات تتفجر الطاقات، فترى الرواية تحمل متناقضات الشرق والغرب، والخير والشر، والنار والنور، والرجل والمرأة، والروح والجسد، وكان خالد مجنونا متوترا فوضويا، أما شكيب فهو الذات التي تقومه وتحفزه.

أما هدف الشخصيتين القريب فواحد، ألا وهو نيل عمل لكسب المال، لكن الأساليب شتى، والأهداف البعيدة كذلك، فأحدهما مشدود إلى الماضي، والآخر منطلق في حياته الجديدة، أحدهما ليس له هدف بعيد، أما الآخر فيطمح للعودة إلى وطنه الأم يبنيه ويصلحه.
تذكر الرواية أن خالد رد على سياسي أمريكي بكلام جارح، فكان جزاءه السجن، وعانى من نوبات تشنج وهلوسات غريبة: “كشف لي السجن مدى قذارة اللعبة السياسية في مهد الديمقراطية، فتركت الحي السوري في نيويورك وانتقلت إلى حي برونكس، ولكن الحنين شدني مرة أخرى إلى شارع واشنطن”.
حلم الوحدة العربية ينكسر على صخرة الاستعمار المقيتة
أصبحت للعرب السوريين مكانة مرموقة في حيهم بنيويورك، وصاروا مجتمعا منتجا، لهم نشاطهم الاقتصادي والإعلامي والاجتماعي المستقل، ولهم صحفهم ومجلاتهم وأنديتهم، بل صاروا يؤثرون في القرار السياسي وقرار الحرب في البلاد، لدرجة أنهم كانوا يصرحون بحجم الأموال التي تبرعوا بها للحرب العالمية الأولى.

وكانوا يشاركون في المسيرات الوطنية تحت لافتة الجالية السورية الأمريكية، ولهم منظماتهم، مثل “جمعية الاتحاد السوري”، التي أرسلت نجيب ذياب ممثلا عنها، ليتحدث باسم الجالية في المؤتمر العربي الأول في باريس، الذي طالب باستقلال البلاد العربية عن السلطنة العثمانية.
وفي فلينت بولاية ميشيغان تأسست جمعية “سوريا الحرة”، وكان من روادها أمين فرج وميخائيل نعيمة وراغب متراج، وهي أول منظمة سعت رسميا لاستقلال سوريا.
لقد بات ضيقا عليهم هذا المجتمع السوري الصغير في حي مانهاتن، المزدحم بالأعمال والعقارات، وأدت عدة عوامل إدارية واقتصادية واجتماعية إلى نزوح معظم السوريين عن ذلك الحي، وانتقل رجال الأعمال منهم إلى حي بروكلين الشهير، والسوريون بطبعهم يحبون الاندماج مع المجتمعات الأخرى، ويكرهون انغلاقهم على أنفسهم في تجمعات مثل الأوروبيين.

راود الكثيرَ من المهاجرين حلمُ العودة إلى “الدولة العربية الموحدة”، لكن الأحلام تبددت عندما بيعت في مزادات أرباب الاستعمار من البريطانيين والفرنسيين.
وكان خالد وصديقه شكيب من المؤمنين بحلم الدولة العربية الواحدة، فعادا إلى المشرق للتبشير بالحرية والوحدة العربية، ولكنهما قمعا واضطهدا وطردا، حتى انتهى المطاف بخالد وحيدا شريدا في الصحراء الليبية.
