كيان في طريقه للفناء.. نظرة السينما الوثائقية الإسرائيلية لمستقبل على حافة الهاوية

في مقالته “الجدار: حوار من طرف واحد”، يروي الكاتب المسرحي البريطاني “ديفيد هير” محادثة مع صديق إسرائيلي في جلسة شاي بالقدس. فقد قال صديقه: إسرائيل قوية وعدوانية أمام العالم، لكنها هشة من الداخل، ليست لديها ثقة حقيقية في بقائها، والشعب الإسرائيلي يفتقر إلى الإحساس بالاستقرار في المستقبل. ما من إسرائيلي يخطط لزمن طويل من غير أن يتساءل: هل سنظل موجودين؟

هذا الشعور الذي يشبه حالة الشتات، يعكس إحساسنا أننا بلا جذور؛ قادرون على التكيف، لكن غير قادرين على الاستقرار. بعد ستين عاما، لا تزال إسرائيل وطنا غير مكتمل.

يُنبئ هذا الكلام عن شعور دائم بالتهديد، ووجهة نظر تشاؤمية بشأن المستقبل الإسرائيلي، ونحن نرى دائما أن لذلك الشعور صدى، حتى في خطاب الحكومات الإسرائيلية، فهي تلجأ منذ نشأتها لتبرير جرائمها بالدفاع عن نفسها، بترويج الخطاب المتعلق بعيش اليهود في بيئة عدائية، ترغب أن تُعمل فيهم محرقة أخرى.

وفور انتهاء حملات الردع الإسرائيلية بنجاح، يتحول خطاب الحكومة من المحرقة إلى داود الذي صرع جالوت بحجر. ولكن يبقى شعور الفناء والهلاك لدى قطاع من المجتمع الإسرائيلي.

نستطيع أن نرى صدى ذلك الشعور معكوسا في تمظهرات عدة، منها الأدب الروائي والشعر والمسرح، وكذلك النقاشات الأكاديمية بالجامعات، والبرامج التلفزيونية اليومية، ناهيك عن السينما، روائية كانت أو وثائقية.

الكاتب المسرحي البريطاني “ديفيد هير”

يمكن للسينما الوثائقية بالتحديد أن تخبرنا كثيرا عن تلك الحالة في البنية النفسية الإسرائيلية، ذلك لكون الوثائقيات وسيطا يمكن الوصول إليه أسرع، من دون عوائق لغوية تتعلق ببطء حركة الترجمة للأدب العبري.

كما أن للسينما الوثائقية ميزة أخرى في صلب سماتها، فهي تتعامل بأدوات البحث التاريخي والاجتماعي والإنساني، ويقل فيها -أو يكاد ينعدم- التخييل الروائي، الذي يفرغ الواقع من دلالاته المرجعية الحقيقية، ويلجأ لدلالات متخيلة على نحو أكثر جمالا وتشويقا، وذلك ما قد يحضر في الفيلم الروائي العادي عند مناقشة قضية معينة.

لذلك يبدو الفيلم السينمائي الوثائقي وثيقة تاريخية اجتماعية مرئية لا مكتوبة، حين يقدم تقديما جيدا وموضوعيا.

قراءة الواقع الإسرائيلي من السينما الوثائقية

شهدت السينما الوثائقية الإسرائيلية في السنوات الماضية نهضة جعلتها كثيرة الحضور في المشهد العالمي خارج إسرائيل، لا سيما من خلال الاعتماد على سمات النقد الذاتي لأفعال الجيش الإسرائيلي المشينة.

يقول موقع “قاعدة بيانات الأفلام على الإنترنت” (IMDb) إن السنوات العشر الماضية شهدت إطلاق 302 من الأفلام الوثائقية الإسرائيلية، وإذا افترضنا وجود هامش خطأ في التصنيف، فسيظل العدد ضخما، مقارنة بحجم الكيان الصغير.

ملصق فيلم “رقصة الفالس مع بشير” ( 2008) للمخرج “آري فولمان”

لقد رأينا عدة أفلام رُشحت لجائزة الأوسكار، عن أفضل فيلم أجنبي، وأفضل فيلم وثائقي، منها فيلم الدراما الوثائقية “رقصة فالس مع بشير” (Waltz with Bashir)، للمخرج “آري فولمان” (2008). ومنها فيلم “حراس البوابة” (The Gate Keepers)، للمخرج “درور موريه” (2012).

ولكن أفلاما من هذه النوعية لا تزيد عن كونها نوعا من أموات القتل ثم التباكي، تعتمد على منهج المؤرخين الصهاينة الجدد من أمثال “بيني موريس” في التعامل مع الأرشيف الإسرائيلي، بنوع من أنواع تصحيح السردية الصهيونية الأسطورية التي لا تصمد في وجه التمحيص والنقد، واستبدالها بسردية أكاديمية أخرى، تتعامل مع التاريخ كما كان، لا تاريخا مليئا بالأبطال الإيجابيين والرؤى المثالية.

وبالتوازي مع أفلام تلك النوعية، توجد أفلام أخرى قدمها مخرجون من أطياف اليسار ومعسكر السلام، تساعد الناظر فيها على استخلاص انطباع عام عن الشعور بالمستقبل المشؤوم الآتي حتما، بوصفه نتيجة لمشكلات الحاضر، التي تتركز مواضيعها على كون إسرائيل مجتمعا غربيا أبيض، يواجه مشكلات خطيرة في العلاقة مع الآخر الفلسطيني.

“فايتز” وتاريخه الأسود كما يُظهره غوغل لحفيدته

وهناك مجتمع آخر يهودي شرقي (المزراحي)، وهو مجتمع زادت حالة الاستقطاب فيه، تحت وطأة تيار في حكومة يمينية صهيونية متطرفة، تحكم البلاد منذ أكثر من عقد، وقد قادت الكيان لأكبر أزمة دستورية منذ تأسيسه، وطرحت سيناريو الخوف من الفناء والهلاك بجدية.

وعلى سبيل المثال لا الحصر، سنحاول أن نناقش عددا من الأفلام التي تنبئ عن مصير مشؤوم، مرده إلى تلك القضايا بالتحديد.

“الصندوق الأزرق”.. تبرعات يهود العالم لدعم هندسة التهجير

يعد فيلم “الصندوق الأزرق” (Blue Box) الذي أخرجته “ميشال فايتز” (2021) من الأفلام التي تساعد على فهم حاضر العلاقة ومستقبلها مع الآخر الفلسطيني، من خلال فتح بطن التاريخ.

للفيلم بطلان؛ أولهما مؤسسة “الصندوق القومي اليهودي”، الذي أُسس عام 1901 لدعم المجهود الصهيوني للاستحواذ على الأراضي الفلسطينية بالتبرعات، وقد كان يطلب من الأطفال والكبار اليهود والمتحمسين للمشروع الصهيوني حول العالم أن يتبرعوا ولو بدرهم يوضع في الصندوق الأزرق المعدني الصغير.

طفلة يهودية أمريكية تتبرع بسنت في الصندوق الأزرق لصالح إسرائيل

ونرى في أحد المشاهد الأرشيفية دعاية تقول: حين ترفع يدك لتضع قطعا نقدية في الصندوق، ترفع يدا أخرى في أرض إسرائيل، لتطهير فدان آخر وحرثه وزراعة شجرة أخرى.

أما ثاني الأبطال فهو “جوزيف فايتز”، وهو جد مخرجة الفيلم، وشهرته في إسرائيل “أبو الغابات الإسرائيلية”، وهو وعائلته ذوو مكانة رفيعة لدى الشعب الإسرائيلي حتى الآن، لكونه صاحب مشروع تشجير إسرائيل، وملء “صحاريها” بالغابات الشجرية. ولكن المخرجة خلال بحثها في الأرشيف وجدت أن لجدها لقبا آخر ممحوا من السجلات الرسمية، ألا وهو “مهندس التهجير”.

كان “جوزيف فايتز” مهاجرا روسيا، جاء وهو ابن 18 عاما إلى فلسطين مطلع القرن العشرين، في موجات الهجرة المبكرة حتى قبل وعد بلفور، وحين تفتش المخرجة مذكراته تجدها تشهد أن تلك الأرض لم تكن “أرضا بلا شعب لشعب بلا أرض” كما تروج الأسطورة الصهيونية الوطنية، بل تحفل مذكراته بأوصاف عن أرض خصبة، يدأب الفلاحون العرب على زراعتها موسما بعد آخر.

رسم إنفوغرافي يوضح الفارق العددي بين العرب واليهود في فلسطين

ويقدم الفيلم رسومات بيانية بناء على المعلومات الواردة في المذكرات، فتشرح الفرق العددي الكبير جدا بين العرب واليهود، الذي أخذ يتضاءل سنة بعد أخرى حتى النكبة، ففي عام 1910 كان عدد العرب 650 ألفا، ولم يتخط اليهود ثمانين ألفا.

“لقد آلمني الأمر، لكن مصلحة شعبي تأتي أولا”

يضرب فيلم “الصندوق الأزرق” سردية أخرى تتعلق بأن الفلسطينيين باعوا أرضهم وقبضوا الثمن، من خلال حملة الاستملاك الصهيونية، ففي عام 1932 كلف “فايتز” بمنصب رفيع في الصندوق القومي اليهودي، للتفاوض على الأراضي وامتلاكها باسم الصندوق، ويتضح أن كثيرين ممن باعوا أراضيهم للصندوق كانوا من الطبقة البرجوازية، التي تقيم خارج فلسطين، وتتوزع بين دمشق وحلب والقاهرة وبيروت.

“فايتز” خلال إحدى جولاته للتفاوض مع الوجهاء العرب

وقد سهلت بيع الأراضي تلك الرأسمالية الزراعية التي سادت في تلك الحقبة، وهي تقوم على ما يسمى الملكية الغائبة، التي تفوق النمط الإقطاعي سوءا، فالملاك يعيشون في العواصم والمدن الكبرى، ولا يربطهم بأرضهم إلا الدخل الذي يعود عليهم منها.

ولم تكن لحارث الأرض أي حقوق واضحة إزاء مالكها، ولم يكن هناك نوع من العقد المكتوب أو غير المكتوب، لذلك استطاع “فايتز” طرد المزارعين من أراضيهم بالقوة أو باللين، ولقد دوّن مشاعره تجاه ذلك قائلا: لقد آلمني الأمر، لكن مصلحة شعبي تأتي أولا.

“بعد نقل العرب تُفتح البلاد على مصراعيها لنا”

يحتوي الفيلم مادة أرشيفية مهمة ونادرة التقطتها كاميرا “فايتز”، من قرى فلسطينية خاوية على عروشها، نكبت في عام 1948، واضطر 750 ألفا من أهاليها للهجرة واللجوء مؤقتا إلى أن تنتهي الحرب.

إحدى لحظات الاحتجاج حيث الشارع الإسرائيلي على وشك الانفجار في التسعينيات

ولكن الحرب انتهت بخرق “ديفيد بن غوريون” قرار الأمم المتحدة 194 الخاص باللاجئين الفلسطينيين، فعيّن الحكومة الإسرائيلية وصية على تلك الأراضي الفارغة، ثم باع 250 ألف فدانا للصندوق القومي اليهودي، الذي أوكل مشروع طمس معالم القرى بتشجيرها إلى “جوزيف فايتز”.

ومن هنا اكتسب لقب “مهندس التهجير”، وحقق حلمه الذي كتبه في مذكراته عام 1940: بعد نقل العرب، ستفتح البلاد على مصراعيها لنا، لا يجب ترك قرية أو عشيرة، لا يوجد حل آخر.

“وهبنا الصندوق الأزرق ومفتاحا لصندوق أسود”

تعتمد المخرجة على لقاءات مع أفراد عائلتها؛ الجيل الثاني من أبيها وأعمامها، والجيل الثالث من أحفاد “فايتز”، فتواجههم بتلك الحقائق التي تتكشف لها عن جدهم، وترصد ردود أفعالهم بالكاميرا.

إن تلك المواجهة تضعنا أمام صورتين للمجتمع الإسرائيلي المعاصر، فتبدو المخرجة “ميشال فايتز” مناصرة للحقيقة ولحقوق الفلسطينيين، مع أنها غيبت الصوت العربي في الفيلم، فلم ينعكس إلا من مذكرات جدها، وفي المقابل أبوها الذي يخبرها في نهاية الفيلم أنه لا يريد أن يشترك في هذا العار الذي تفعله بحق جدها، فلو أنها كانت موجودة في زمانه، لما استطاعت أن تراه إلا بطلا.

مهندسا الترانسفير الفلسطيني “فايتز” و”بن غوريون”

لقد وجدت المخرجة -وهي تقرأ المذكرات صفحة بعد أخرى- أن جدها ترك لهم معضلة أخلاقية كبرى، ولكنها همت بالعمل على كشف الحقائق، لأنها رأت أنها ستساعد كثيرا في تحديد مستقبل إسرائيل مع الآخر الفلسطيني، إما بالتعايش أو استكمال المعادلات الصفرية، التي تعني فناء أحد الأطراف.

وهكذا تذيل فيلمها بقولها: لقد كان جدي أبا الغابات، وكان مهندس التهجير أيضا، لقد وهبنا الصندوق الأزرق، لكنه وهبنا كذلك مفتاحا لصندوق أسود.

“المزراحيم.. المنسيون في أرض الميعاد”

إن السردية التي فككتها المخرجة “ميشال فايتز” في فيلمها هي السردية التاريخية التي يضعها الجهاز الأكاديمي، وتلك سردية عرّفها المؤرخ “إيلان بابيه” في كتاب “فكرة إسرائيل.. تاريخ السلطة والمعرفة”، بأنها “سردية تاريخية يضعها الجهاز الأكاديمي، وتصبح الأداة الأساسية لبناء الذاكرة القومية الجمعية وترسيخها”.

يقول “بابيه”: وقد ولى المؤرخون وجوههم قبل السجلات الأرشيفية السياسية، واتخذوها قبلة مقدسة للحقيقة، ورأوا أنفسهم أئمة هذه الحقيقة وسدنتها. ولكن نظرا إلى زمانية هذه الحقيقة، فإن الواجب لا يتمثل في حمايتها وحسب، بل في إثباتها كذلك، وهو إثبات يتحقق بالتكرار لا بالفحص والتحليل.

“فايتز” وصورة تقليدية مع شجرة تزرع من أجل إنبات غابات إسرائيل على أراضي الفلسطينيين المنهوبة

بينما تواجه “ميشال فايتز” مشكلة مع الآخر، ما زالت عصية على الحل تهدد مستقبل الدولة، تريد المخرجة “ميشال بوغانم” أن تعيد إلى الضوء قضية أوهمت الحكومة نفسها بأنها قد حلت، وهي قضية اليهود الشرقيين (المزراحيم)، وذلك بفيلمها “المزراحيم.. المنسيون في أرض الميعاد” (Mizrahim, les oubliés de la Terre Promise)، الذي أخرجته عام 2021.

اليهود العرب.. صدمة المعاناة والتمييز في أرض الأحلام

تنطلق “ميشال بوغانم” من إطار العائلة أيضا، فتبدأ بقصة أبيها ذي الأصل المغربي، وقد قدم من الدار البيضاء، فاصطدم بدوائر الهجرة الصهيونية، التي رشّته ومرافقيه بمواد مطهرة، حتى لا يدخلوا بأوبائهم المجلوبة معهم من العرب.

وقد ألقى هذا التمييز بظلاله منذ اللحظة الأولى عليه، وأصبح ذا دور فاعل في حركة “الفهود السوداء”، التي أنشأها مجتمع المزراحيم على نمط نظيرتها في الولايات المتحدة الأمريكية. لقد نشأت حركة الفهود السود في إسرائيل في حاضنة استشعرت القهر والمواطنة من الدرجة الثانية، بعد أن كانوا وُعدوا بالحلم الإسرائيلي.

“غرافيتي” في أحد الشوارع الإسرائيلية يخلد ذكرى حراك الفهود السود

فحين قدم اليهود المزراحيم أول مرة إلى إسرائيل، كانوا في مرحلة متأخرة من الهجرات الصهيونية، ولم يكونوا جزءا من المشروع الصهيوني الأساس، وبسبب حروب إسرائيل مع العرب، أغري اليهود الشرقيون بسبب الظروف الضاغطة في مجتمعهم العربي بالهجرة إلى إسرائيل.

ويجادل عباس شبلاق في كتابه “يهود العراق: هجرة أم تهجير؟” بأن الحركة الصهيونية قد اقترفت تفجيرات في مدن العراق ضد اليهود العراقيين، لتجبرهم على الهجرة بسبب الشعور بالرفض من محيطهم العربي.

يهوديات شرقيّات ما زلن متمسكات بثقافتهن العربية

وسعيا وراء “الحلم الإسرائيلي”، وأرض اللبن والعسل، وبيوت شاطئ البحر التي تحدثت عنها “لوسيت لنيادو” في مذكراتها “الرجل ذو البدلة البيضاء الشركسكين: وقائع خروج أسرة يهودية من مصر”، وجد اليهود القادمون من بلاد العرب أنفسهم في خدمة اليهودي الأشكنازي الأبيض، وبدلا من الأرض الموعودة وجدوا أنفسهم في معسكرات العبور المتربة، أو الثكنات الصحراوية الباردة.

أجيال المزراحيم.. تحيز عرقي تكذبه الدعاية الحكومية

تلتقي مخرجة “المنسيون في أرض الميعاد” مع 3 أجيال من اليهود المزراحيم، لتعرض من خلال قصصهم وضع المزراحيم في المجتمع الإسرائيلي، وفي تتابع زمني، تحاول أن تعرض القضايا ومساراتها منذ البداية إلى اللحظة الراهنة، لتؤكد أن التحيز ضد مجتمع اليهود الشرقيين لم ينتهِ، وإن روجت الحكومات لعكس ذلك.

إن ما حدث كما يظهر في السردية التي تقدمها المخرجة، هو أن الجيل الأول من المهاجرين قد لقي معاملة عنصرية من السلطات الصهيونية.

حراك لليهود الشرقيين ضد حكومة إسرائيل

فمنذ اللحظة الأولى في عام 1960 فُصل بين العرب والأشكناز في الفصول المدرسية، ووُطن أغلبهم مع عائلاتهم في مدن حدودية نائية متاخمة لمناطق الاشتباك مع فلسطين والأردن وسوريا ومصر، وقد اتخذوا مضخة للمصانع في المدن الحضرية للعمالة الرخيصة، التي يمكن الاستغناء عنها في أي وقت، بلا غطاء قانوني ولا حماية للحقوق.

اختطاف أطفال اليمنيات.. جريمة الدولة بحق أبنائها

أشد مظاهر قصة المزراحيم قتامة هي قصة اختطاف الأطفال اليمنيين من أمهاتهم، على أيدي ممرضات المستشفى، كما يذكر في الفيلم، فإن طفلا من كل ثمانية قد اختطف من أمه، وهي قصة غطتها إحدى حلقات برنامج “المتحري” تحت عنوان بساط الريح.

تقابل المخرجة أمهات يروين أنهن خُدعن وقيل لهن إن أطفالهن ماتوا فجأة، أثناء وجودهم في الحضانة بالمستشفى، واضطر المستشفى لدفنهم بسرعة، والحق أن المستشفى أعطاهم لوكالات تبنٍّ، تسهل للأسر الأشكنازية العقيمة وجود أطفال للتبني من دون بحث مضن.

لذلك لم يكن مستغربا أن يكون مجتمع المزراحيم وقود الطبقة العاملة الرثة، لذلك تأسس حزب الفهود عام 1971، ودافع عن حقوق المزراحيم بناء على أسس ماركسية، ولقد حاول التصدي لمحاولة سلخ المزراحيم عن أصولهم العربية وعلاقتهم بالعرب، لذلك اتخذ موقفا مسالما من العرب الفلسطينيين، ودعا لعلاقات ودية مع الدول العربية، لكن الانشقاق والانقسام سرعان ما فكك الحزب، وشتت نضال المزراحيم.

ومع أنهم حسبوا أن مشاركتهم في حرب 1973، ودخول ممثليهم إلى الكنيست، كان بداية ستدمجهم في المجتمع الإسرائيلي، وتجعلهم مواطنين من الدرجة الأولى، فإن ذلك لم يحدث. فنهاية الفيلم تبدو مشبعة بالإحباط والتشاؤم، وتقارن الكاميرا عمران مدن الأشكناز بمدن المزراحيم، ناهيك عن الوظائف ومواقع الدولة التي يحتلها الأشكناز، في مقابل تمييز ما زال يناله المزراحيم في التوظيف والتعليم، وحتى في الجيش الإسرائيلي ذاته.

يشارك فيلم “خطيئة الأجداد” (The Ancestral sin) للمخرج “ديفيد ديري” (2017) نفس النظرة التي تحملها “ميشال بوغانم” تجاه شقاق المجتمع الإسرائيلي وتصدعه، فهو يرى أن دمج الشرقيين في المجتمع شكلي، فمثلا لم يرأس الحكومة حتى الآن يهودي شرقي، كما أن عدد السجناء الشرقيين أضعاف نظرائهم من الأشكناز.

التمسك باللغة والثقافة العربية.. أوجه الاحتجاج

يظهر الاحتجاج على “الحلم الإسرائيلي” من المزراحيم الغاضبين في فيلم “المزراحيم.. المنسيون في أرض الميعاد”، من خلال التمسك باللغة العربية والفرنسية، والتخلي عن التحدث بالعبرية، كما أن هناك مظاهر من الاحتجاج تظهر في ثقافة الطهي والملبس والغناء كذلك.

الفقر والصحراء للمجمعات السكنية الحالية لليهود الشرقيين في إسرائيل

ونرى اليوم كثيرا من الصهاينة ذوي الأصل العربي، ممثلين في الحكومات الإسرائيلية وقيادة الجيش والشرطة الإسرائيلية المغتصبة لحقوق الفلسطينيين، ولكن يفيد الفيلم في كشف النقاب عن الصوت المتشائم والمقموع في السردية، عن المزراحيم الذين يُتوهم أنه أذيبوا تماما.

ويمكن القول هنا إن الطبقة تتكلم بأصوات كثيرة، مع مقدار كبير من التنافر، لكن ذلك ليس من شأنه أن يضعف الأهمية الطاغية للانقسامات الطبقية السائدة، في فهم معاناة مسحوقي مجتمع ما ومهمشيه، فذلك يهدد أمن المجتمع كله، فجنبا إلى جنب من أشكال الترابط، علينا أن نرى جملة التمايزات والفروق كذلك.

“إسرائيل.. حرب القبائل”.. صراع مجتمع على حافة الهاوية

بينما تنطلق الأفلام الآنفة الذكر من التفتيش في جذور الماضي محاولة قرع جرس إنذار قبل بلوغ حافة الهاوية، يخالفها فيلم “إسرائيل.. حرب القبائل” (Irael: Clash of the Tribes)، للمخرج “دوكي درور” (2023)، فينطلق من حافة الهاوية، التي بدأت المسيرة الطويلة إليها منذ اغتيال “إسحاق رابين” عام 1995.

وقد جاء طوفان الأقصى في السابع من أكتوبر في أحرج لحظة من تاريخ إسرائيل، فلم يكن المجتمع منقسما قط كما كان منقسما يومئذ، فقبل الهجوم بعدة أشهر وقعت تظاهرات مليونية في شوارع إسرائيل، احتجاجا على حكومة “بنيامين نتنياهو”، ومسعاها الذي هدد مبدأ الفصل بين السلطات.

الملصق الدعائي لفيلم خطيئة الأجداد

عنوان فيلم “حرب القبائل” مستوحى من الأسباط الاثني عشرة في اليهودية، ويطرح فرضية أن المجتمع الإسرائيلي مجتمع قبلي، وقد اختير هكذا لأن المخرج يرى في المشهد السياسي قبائل متعارضة لا يمكن التوفيق بينها.

يغوص الفيلم في تاريخ 30 سنة من الانقسام، بدأت من معاهدة أوسلو، وشهدت سيطرة تيار اليمين، وتغول المستوطنين والمتدينين، فأصبحوا فاعلين في المشهد السياسي، وقد تطرق الفيلم لكل ذلك لإجابة سؤال التمزق الاجتماعي.

“إيغال عامير”.. اغتيال يجسد عنف الصراع القبلي

يفترض مخرج فيلم “حرب القبائل” أن قبيلة الأشكناز هي قبيلة الآباء المؤسسين التي جاءت من أوروبا، وتلك القبيلة قد فقدت ثقتها بمشروعها السياسي اليساري، في لحظة اغتيال رئيس الوزراء “إسحاق رابين” بسبب اتفاقية أوسلو، على يد شاب من المزراحيم المتطرفين يدعى “إيغال عامير”، وقد برر الاغتيال في محاكمته قائلا: أنت تؤمن بالسلام، وأنا أؤمن بالله.

لقد كان “إيغال” ابن قبيلة المزراحيم التي لا تغفر للأشكناز عقودا من التمييز والتهميش ومعاملتهم على أنهم مواطنون من الدرجة الثانية.

من داخل مدارس المزراحيم الموازية لمدارس الدولة التي نشأ فيها جيل “إيغال عامير”

أما الحريدية المتشددة فهي القبيلة الثالثة، وهي لا تريد دولة ليبرالية حديثة ولا أداء الخدمة العسكرية، ومع ذلك يؤدون دورا سياسيا فعالا يبارك اليمين السياسي.

وأما العرب، فهم القبيلة الرابعة المحشورون بين قبائل إسرائيل، وهم ضحاياها في ذات الوقت.

الانهيار الداخلي.. فكرة مغرية تدعمها الوقائع

تعد فكرة زوال إسرائيل من تلقاء نفسها مغرية جدا للمزاج العربي، فهي تزيح عبء الدخول في حرب شاملة، قد تفني في مرحلة من مراحلها عددا كبيرا من العرب أنفسهم.

إن تلك الرؤية يعززها كثيرا التفكير التفاؤلي والديني، الذي يقرن بين علامات قيام الساعة وتحرير الأقصى وزوال إسرائيل، ثم إن الشعور بأن إسرائيل ستزول من داخلها باحتمال شمشوني توراتي يهد المعبد على سكانه، قد وجد صداه في التفاعل على مقولات لمفكرين، منهم الراحل عبد الوهاب المسيري.

مستوطنتان تنتحبان بعد قرار شارون إخلاء مستوطنات قطاع غزة

فمقولات المسيري عن زوال إسرائيل بسبب مشكلات داخلية، سرعان ما عادت إلى الرواج بشدة في أعقاب عملية “طوفان الأقصى”، ويتبين أن ذلك يستند إلى حقائق حادثة ومشكلات تستمر في التفاقم.

مع أن التاريخ لا يسير وفقا للحتميات، فإن الأقرب للواقع هو أن ننتهي إلى ما انتهى إليه فيلم “حرب القبائل”، ويخبرنا المخرج أن الانقسام في المجتمعات قد يطول عقودا، ولكن لن يرسم مصيرها بنهاية مفتوحة.

نتنياهو وزعامة اليهود الشرقيين، مراوغة سياسية معتادة في السياسة الإسرائيلية

والحرب التي تخوضها إسرائيل في قطاع غزة حاليا، وتتوحد فيها 3 قبائل ضد القبيلة الرابعة، ليست إلا مرحلة التقاط أنفاس لمجتمع ممزق، سرعان ما سيعود بعد الحرب ليقتتل مرة أخرى، وتلك المعركة إن لم تنته بعقد اجتماعي جديد يشمل العرب والفلسطينيين، فستنتهي بتحقق نبوءة الفناء، وهلاك إسرائيل.


إعلان