الثمانينيات.. عقد الجفاف والنهضة والصحوة والتقلبات في العالم العربي

يمكن تصنيف عقد الثمانينيات من القرن الماضي بأنه كان زمنا بالغ الأهمية في المنطقة العربية والعالم أجمع، من أزمة الجفاف التي اجتاحت أفريقيا، إلى ظاهرة الصحوة الإسلامية وبروز تيارات الإسلام السياسي والجهادي. ومن نهاية الحرب الأهلية اللبنانية، إلى تفجّر الاحتجاجات السياسية والاقتصادية التي اجتاحت عددا من البلدان العربية.

هذه الظواهر والأزمات كانت مدار فيلم أنتجته الجزيرة الوثائقية، وعرضته على شاشتها بعنوان “الثمانينيات.. الحياة الاجتماعية والاقتصادية”، فاستضافت ثلة من المتخصصين والباحثين والإعلاميين العرب، فسلطوا الضوء على أحداث هذه الحقبة، وتداعياتها على المنطقة العربية والعالم.
طفرة الاقتصاد في الدول العربية
يقول الكاتب العماني خميس بن راشد العدوي، إن الحكومة كانت هي الداعم الأساسي لمشاريع التنمية في القطاعين العام والخاص ماليا وتنظيميا في دول الخليج العربي. أما الاقتصاد الأردني فقد استفاد من معونات دول الخليج، مع ارتفاع أسعار النفط، بحسب نائب رئيس الوزراء الأردني السابق طاهر كنعان.

يقول العدوي إن المشاريع شملت إعادة بناء الإنسان الخليجي، والبنية التحتية من المدارس والمستشفيات والطرق والإسكان، والتسلح والتجنيد، وقد شكلت العمالة الوافدة مصدرا مهما لإعمار منطقة الخليج.
وعن مصر يقول وائل جمال، وهو باحث في الاقتصاد السياسي: بعد اغتيال الرئيس السادات في 1981، اعتمد خليفته حسني مبارك صفقة للحكم، فيها دور للدولة في دعم السلع الأساسية، والتوظيف في جهاز الدولة.
وقد أحدث المغتربون المصريون في ليبيا والعراق والأردن ودول الخليج طفرة في الحياة المصرية، من غزو الأدوات المنزلية الكهربائية، إلى تدفق السيولة النقدية وشراء السيارات والمساكن.
أما الأراضي الفلسطينية المحتلة فكانت تعاني كسادا اقتصاديا، واستغلالا مكثفا للموارد الاقتصادية والزراعية والمياه والأراضي من قبل الاحتلال الصهيوني، لمنع الفلسطينيين من تطوير اقتصادهم، وتحويلهم إلى عمّال غير مهرة، بحسب الباحث هاني عواد.
ومن الجزائر تحدث الإعلامي والناشط الحسن مصدق قائلا: جاءت مرحلة جديدة تحت شعار “من أجل حياة أفضل”، تغيير النهج السياسي من الاقتصاد الاشتراكي إلى اقتصاد السوق، وهنا وقع تناقض كبير؛ كيف نعيش بفكر اشتراكي وسياسة رأسمالية؟
ومع بداية الثمانينيات، لاحت بوادر أزمة اقتصادية في تونس، ولجأت الدولة أول مرة إلى صندوق النقد الدولي لدعم الميزانية، وبدأت السياسات الليبرالية تؤثر على توازن النمو في تونس، فازدهرت المناطق الساحلية، في حين لقيت المناطق الداخلية إهمالا كبيرا.

ويقول يحيى الشيخ، رئيس مركز الدراسات العربية في باريس: خلال عقد الثمانينيات، بدأ يظهر تفاوت كبير في البنية التحتية بين مناطق الشمال والجنوب في المغرب، وبين المجتمعات القروية والمدنية.
وتحدث رفيق العكوري، الباحث في التراث اليمني قائلا: كان في اليمن قبل الوحدة عام 1990 نظامان اقتصاديان، الشمال الرأسمالي والجنوب الاشتراكي، لكن الشعب اليمني نفسه كان موحدا ثقافيا واجتماعيا، ومع المدّ القبلي في الثمانينيات ودخول المشيَخات على الخط الاقتصادي ولا سيما في الشمال، وجدوا أن زراعة القات مربحة جدا، فتبنى شيوخ القبائل احتكار زراعة القات وتجارته.
وعن سوريا يقول الباحث خلدون النبواني: على عكس توجّه حكام العرب، كان حافظ الأسد داعما قويا للنظام الإيراني في حربه مع صدام حسين في العراق، فقاطعت الأنظمة العربية -ولا سيما الخليجية- سوريا، وقطعت المساعدات الاقتصادية عنها، وكانت يومئذ نحو 1.5 مليار دولار سنويا، فاختنق الاقتصاد السوري.
أما العراق فلم يشعر بأي قصور من الناحية الاقتصادية في الثمانينيات، وكان الدينار العراقي متماسكا في وجه العملات العالمية، لكن النظام لجأ إلى القروض ولا سيما من السعودية والكويت، وكان للعمالة المصرية أثر إيجابي على المجتمع العراقي، بسبب انتشار القوة العاملة العراقية على جبهات القتال، على حد قول الأكاديمي ياسر خضير.
وتحدث الباحث الاقتصادي جهاد الحكيم قائلا: إلى ما قبل الحرب الأهلية في 1975، كان الاقتصاد اللبناني مزدهرا والعملة اللبنانية عملة عالمية، وكان لبنان جامعة الشرق الأوسط ومطبعته، بل ومصرفه ومستشفاه، لكن اندلاع الحرب الأهلية دمّر كل شيء.

وعن ليبيا قال ونيس مبروك، عضو الهيئة التأسيسية للدستور الليبي: من عاش العهد الملكي وعهد القذافي في ليبيا يخيل إليه أنه عاش في وطنين مختلفين، فقد تراجع الأداء الليبي في عهد القذافي على كافة المستويات وفي جميع المجالات، وصرفت ثروات البلاد الطائلة على مغامرات غير محسوبة.
ظاهرة الصحوة الإسلامية والتدين
تأثر اليمن والسودان بالسلفية الوهابية القادمة من السعودية ومصر، وبدا التأثر واضحا في الهيئة والزي وطريقة الخطاب، في مجتمعات الذكور والإناث على حد سواء.
أما في تونس فيقول الباحث كمال الشارني: تلبس المرأة اللباس التقليدي “السفسير”، وهو ملاءة بيضاء تغطي كامل الوجه، وتنسدل على باقي الجسم، ومع الصحوة في السبعينيات ظهر الحجاب الإسلامي والخمار، وهو غريب على البيئة التونسية، ولكنه بدا للناس علامة على التدين السليم، وهو لباس عملي لا يعطل المرأة عن قضاء أعمالها اليومية.

وقد أزعج هذا الحدث النظام الحاكم في تونس، فالشباب الحركي المثقف يتحدث بلسان سياسي عن السلطة وعلاقتها بالدين، وعن الإصلاح والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
وعن مصر يقول الدكتور محمد عفيفي: ظهرت الجلّابية ظهورا لافتا بين أفراد الطبقة المتوسطة، في الصلاة وفي الشارع. وكان كل هذا في نهايات الحرب الباردة، وبداية أفول شمس الاتحاد السوفياتي والفكرة الشيوعية عن المنطقة العربية، فقد أرادت أمريكا أن تزيد جرعة التدين في الشارع العربي، والدعوة إلى “جهاد” السوفيات في أفغانستان.
ويعلّق محمد الشنقيطي، وهو أستاذ الشؤون الدولية في جامعة قطر قائلا: لفهم ظاهرة الصحوة الإسلامية في الثمانينيات، علينا العودة إلى ما قبلها بعام واحد فقط، عام 1979، فهذا العام شهد ثلاثة أحداث مهمة، يمكن عدها بذورا لمسارات الصحوة ومآلاتها في الثمانينيات، أولها نجاح ثورة الخميني في إيران، وثانيها اقتحام ابن جهيمان للحرم المكي، وثالثها الغزو السوفياتي لأفغانستان.

ويقول: تجلت الصحوة في مظاهر متعددة، منها كثافة التدين كمّا ونوعا، فرديا ومؤسسيا، متمثلا في الجمعيات الخيرية والمصارف الإسلامية.
ثم إن انتشار شريط الكاسيت، وانخفاض أثمان أجهزة التسجيل، قد أسهم في انتشار خطب الشيخ كشك ومشايخ السعودية وعلماء من دول عربية أخرى، وأدى هذا لترويج أفكار ومذاهب دينية معينة.
وفي ليبيا يقول مبروك: انتشرت أفكار الصحوة انتشارا كبيرا، وتفوقت على العرف الديني القائم المتمثل بالمذهب المالكي، وانتشر بين الشباب ما سمي الصحوة السلفية الحركية، التي أرادت تغيير المشهد بالعنف تارة، وبالتشكيلات السرية تارة أخرى.
وفي العراق أخذ صدّام حسين يحضر في المساجد السنّية والحسينيات الشيعية، ليؤكد أنه ليس ضد الإسلام، فتأثر الشباب بذلك، وأصبحت المساجد تعج بهم، مما أحدث توجسا لدى النظام، ولكنه كان تأثيرا إيجابيا عموما، بحسب ياسر خضير.
وعن فلسطين يقول الباحث عواد: ظهر جيل من الشباب المقاوم، تشرّب أفكار الثورة، سواء من مصدرها التقليدي، وهو فصائل منظمة التحرير الفلسطينية، أو من مصادرها الجديدة المتمثلة في صعود التيار الديني والحركات الإسلامية.
وفي مصر ظهرت البنوك الإسلامية، لاستيعاب المال المتدفق من الخليج، ولتمويل مشاريع تنموية بأموال ليس فيها ربا، وجلب الاستثمارات الأجنبية أيضا.
وقد تغير نمط استثمار المصريين العاملين في الخليج، فباتوا يستثمرون في شركات توظيف الأموال، لتدرَّ عليهم عوائد سريعة وسهلة، تمكنهم من العيش في مصر بنفس المستوى الذي عاشوه في الخليج، لكن نهاية هذه الشركات كانت كارثية.
نهضة التعليم
كانت سنوات السبعين والثمانين في تونس فرصة للعائلات الفقيرة لبلوغ أقصى درجات التعليم، فكان منهم الأطباء والمهندسون، ومنهم من مُنح للدراسة في الخارج. ومكّنت مجانية التعليم وإلزاميته أجيالا كثيرة من تحسين وضعها الاقتصادي والاجتماعي والثقافي، بدل أن يكونوا رعاة أو فلاحين صغارا.

أما في فلسطين فكان لانتشار التعليم دور أساسي في اندلاع الانتفاضة الفلسطينية الأولى في 1987، فالتعليم يزيد الوعي بالظروف الاجتماعية والاقتصادية، وغالبية الجامعات والكليات الفلسطينية شكّلت بيئة خصبة لاستقطاب الشباب الفلسطيني.
وفي مصر ازدادت ظاهرة إعارة الأساتذة الجامعيين لدول الخليج، بسبب طفرة البترول، وحاجة هذه الدول إلى الأساتذة في جامعاتها الناشئة، فأفرغت الجامعات المصرية من نخبها، وأصبحت عاجزة عن سد النقص الحاصل، بسبب الأزمة المالية.

وفي بداية الثمانينيات وصل مستوى التعليم ذروته في المدارس الليبية، بفضل توافر الخبرات العربية من المدرسين المصريين والفلسطينيين والتونسيين وغيرهم، ولكن حصل بعد ذلك إهمال عجيب. وفي الجزائر انتشر التعليم، وتمددت المدارس حتى أعماق الأدغال وأطراف الصحاري.
وكان للبعثة المصرية إسهام في تطوير التعليم في اليمن، وكانت نسبة الأمية فيه قد فاقت 80%، وكان المعلم المصري يحظى بمكانة كبيرة في المجتمع اليمني، فكان إماما وخطيبا ومربيا وطنيا. كما أسهمت عائدات النفط الضخمة في تحسين مستوى التعليم والقضاء على الأمية في دول الخليج.
مكانة المرأة.. تطلعات النهضة والحاجة للموظفين
كان النظام الاشتراكي في جنوب اليمن قد مكّن للمرأة العدنية الدخول في الحياة المهنية والنقابية، أما النظام القبلي الشمالي فكان متحفظا حيال المرأة، وكان نشاطها مقيدا بعوائق كثيرة. أما في تونس فقد أعطى القانون المرأة مزيدا من المكاسب، وكانت على قدم المساواة مع الرجل في المجالات كافة.
وفي الجزائر كان أكثر من 80% من النساء متعلمات، وأخذت المرأة فرصتها اجتماعيا وسياسيا، لكنها كانت تعيش نظامين متناقضين؛ الرأسمالي الذي فرضه الاحتلال الفرنسي، والمحافظ التقليدي الذي فرضه المجتمع الجزائري.

أما في ليبيا فالأعراف يغلب عليها الطابع البدوي المحافظ، الذي لا يحب احتكاك المرأة بالرجال، وقد حاول القذافي تحقيق نقلة إيجابية في هذه المسألة، فشجع المرأة على الدراسة، وفتح لها مجال المنح الدراسية في الخارج.
وفي العراق فرض واقع الحرب العراقية الإيرانية على الدولة عبء ملء بعض الشواغر الإدارية والمهنية بالنساء، لسد النقص الحاصل من توجه الرجال إلى جبهات القتال.
موجة الجفاف وانهيار الاقتصاد
وصل الجفاف ذروته في السودان وشرق أفريقيا في الثمانينيات، فأدى إلى نزوح كبير من الريف إلى المدينة، واكتظاظ المدن الكبيرة مثل الخرطوم ودارفور وكردفان، وظهور تجمعات عشوائية أصبحت بيئة خصبة للصراع على الماء بين المزارعين والرعاة، وكانت شرارة لانفجار الحرب في دارفور لاحقا.
أما انتفاضة الخبز في تونس فكانت من أبرز العناوين المؤشرة للحالة الاجتماعية والاقتصادية التي يعيشها التونسيون، وقد بدأت بتحركات عفوية وانتهت بانتفاضة كبيرة في 1986، قمعها الأمن والجيش بوحشية، ثم انتشرت عدوى تغوّل السلطة وظلمها في دول أخرى، منها مصر والجزائر والمغرب.

وفي سوريا ارتفعت أسعار المواد الأساسية، نتيجة العقوبات الأمريكية المفروضة على النظام. وفي لبنان فقدت الليرة أكثر من 70% من قيمتها، نتيجة اعتماد الاقتصاد على الدولار. وفي الأردن نضبت المساعدات العربية، وازدادت الديون نتيجة اعتماد الميزانية الأردنية على كثير من القروض.
وقد أثرت الأزمة الاقتصادية العالمية في 1986 على جميع البلدان العربية تقريبا، فارتفعت قيمة السلع الأساسية وزاد الاحتكار وتخزين المواد، وانخفضت السيولة وتحويلات المغتربين إلى ذويهم، وتفاقمت أزمة الديون، حتى أدت لاحتلال الكويت من قبل القوات العراقية في 1990.

وفي اليمن الشمالي، تفجرت أزمة اقتصادية خانقة، بسبب تراجع المحاصيل الزراعية، في مقابل زيادة إنتاج القات، أما في اليمن الجنوبي فقد تزايدت الأزمة نتيجة تراجع الدعم السوفياتي، في حين خصخصت الجزائر كثيرا من الشركات العامة المملوكة للدولة، وكذلك فعلت تونس.
وفي ليبيا تزايدت سياسات الانغلاق والبعد عن الفضاء العربي والإسلامي والإنساني أيضا، وكذلك سياسات القذافي المستفزة للغرب، فأدى ذلك إلى حصار كبير، وعقوبات وصلت درجة القصف الجوي الأمريكي على بنغازي.