“مسلمو العصر الفيكتوري”.. سلسلة للجزيرة الوثائقية تتبع آثار مسلمي بريطانيا الأوائل

تتعقب الجزيرة الوثائقية سير مسلمي بريطانيا الأوائل، في عهد مثلت فيه “الإمبراطورية التي لا تغيب عنها الشمس” قوة عظمى، تبسط سلطانها في أنحاء كثيرة من المعمورة. ولهيمنتها تلك كانت تفرض لغتها وتصوراتها عن الحياة، وتفرض ثقافتها ثقافة كونية.

ولكن سلسلة “مسلمو العصر الفيكتوري” التي أنتجتها الجزيرة الوثائقية، تكشف أن صلتها بالعالم وبمستعمراتها خاصّة، لم تكن دائما أحادية الاتجاه أو التأثير، بحيث يكون الأقوى هو من يفرض ثقافته على الضعيف، وتبرز أنّ قولة ابن خلدون في مقدمته إن “المغلوب مولع أبدا بالاقتداء بالغالب في شعاره وزيه ونحلته وسائر أحواله وعوائده” لا تنسحب على الجانب الثقافي هنا.

وحتى نتمثل السياق التاريخي والحضاري الذي تتنزل فيه أحداث هذه السلسلة، لا بدّ أن نتوقف عند مصطلح “العصر الفيكتوري” الوارد في عنوان السلسلة.

العصر الفيكتوري.. حقبة أشهر الملوك في أيام الاستعمار

يستعمل المؤرخون مصطلح “العصر الفيكتوري”، ويقصدون به في دلالته الأولى أيام حكم الملكة “فيكتوريا”، التي امتدت من سنة 1837 إلى 1901، وكانت ملكة المملكة المتحدة لبريطانيا العظمى وأيرلندا، ثم أصبحت إمبراطورة الهند، بعد تصويت البرلمان البريطاني سنة 1876.

وقد اعتمدوا هذا المصطلح بالنّظر إلى حكمها الذي استمر نحو 64 سنة كاملة، لكنّ دلالته توسّعت لاحقا لتفيد الحقبة التاريخية التي كانت فيها بريطانيا تعيش ذروة هيمنتها على العالم، بعد عصر الثورة الصناعية الأولى، بما في ذلك مرحلة ما قبل تولي الملكة “فيكتوريا” مهامها.

ويشير المصطلح أحيانا إلى مناطق أخرى من القارة الأوروبية خارج الإمبراطورية البريطانية، وقد توسعت الدلالة حتى أفادت خصائص بعينها، تسِم الوعي والسياسة والاجتماع، فميزتها عن حقب أخرى قريبة منها.

الملكة فيكتوريا، ملكة المملكة المتحدة لبريطانيا العظمى وأيرلندا

فمن خصائص هذا العصر اتجاهه المتزايد نحو الليبرالية، بما تعنيه من إصلاحات سياسية واجتماعية على المستوى الدّاخلي. ولارتباط فلسفتها السياسية بمفهوم الحقوق الفردية، أصبحت الخصوصية من القيم الراسخة، بما في ذلك حرية المعتقد، ناهيك عن تزامن هذا المفهوم مع مراجعات عميقة، أجراها العقل الغربي على علاقة الأفراد بالدين في التصوّر المسيحي.

أما على المستوى الخارجي، فلمّا كانت حاجة الصناعة الغربية إلى المواد الأولية للثورة الصناعية أكيدة، ارتبط هذا العصر بانتهاك حرمة الأوطان، واستعمار الدول لنهب مواردها، وخرق مبدأ حرية الشعوب في تحديد مصيرها واختياراتها في الحياة.

الصدام الثاني الكبير بين بريطانيا والعالم الإسلامي

مثّل مسلمو العصر الفيكتوري أول المسلمين الإنجليز، وهو زمن متأخر كثيرا، مقارنة بوصوله إلى الأصقاع البعيدة من العالم، وربما يُفسّر الأمر بكون بريطانيا أرخبيلا قصيا من قارة أوروبا، وعزلته الجغرافية هذه جعلته بمنأى عن كثير من الأحداث والمؤثرات.

فقديما كان دور بريطانيا محدودا في الحركة الصليبية، لا يناسب مكانتهم السياسية آنذاك، واكتفوا بالدّعم المالي للمؤسسات العسكرية والدينية الصليبية في الأرض المقدسة، وحديثا ظلت أرضا منيعة، لم يطلها الخراب الكثير الذي أصاب أوروبا في الحربين العالميتين، فقد حالت عزلتها هذه دون وصول قوات “أدولف هتلر” إليها.

ولهذه المعطيات جميعا، مثّل العصر الفيكتوري التماس الإسلامي البريطاني الثاني، بعد حملة الملك “ريتشارد الأول” الصليبية الثالثة التي عدّت استثناء، وقد تحقق ذلك التماس على مراحل.

أولاها سياسة الامتيازات؛ فقد فرضت يومئذ إجراءات استثنائية على بلدان المغرب الكبير في التعامل مع مواطنيها، وجرّت تونس والجزائر والمغرب إلى معاهدات، تقدّم تسهيلات لأساطيلها التجارية، في سياق عالمي يتأثر بشدة بالتنافس التجاري البريطاني الفرنسي، بُغية السيطرة على حوض المتوسط.

وكان لبريطانيا تماس ثان مع العالم الإسلامي في أفغانستان والهند، بعد أن احتلت شبه القارة الهندية منذ منتصف القرن الثامن عشر. ثم مثلت “المسألة الشرقيّة” التماس الثالث. وهي تحالفات قامت بين الدّول الأوروبية في أواخر عهد الإمبراطورية العثمانية، لتقاسم أملاكها وهي على وشك الانهيار.

كتاب “مسلمات في بريطانيا.. 100 سنة من التاريخ المخفي”

وكانت بريطانيا ممن أرادوا إطالة حياتها، فكانت ترى أن بقاء “الرجل مريضا” سيكون أقلّ خطرا من موته، الذي سيسمح لجيوش روسيا بالتقدّم في اتجاه الغرب الأوروبي. وفي الحالين -في القرون الوسطى أو العصور الحديثة- كانت بريطانيا طرفا فاعلا ومؤثرا، يفرض رؤاه وتصوراته.

التبشير والاستشراق.. وسائل الهيمنة البريطانية

فضلا عن قوة السلاح، كانت بريطانيا -شأنها شأن سائر الدول الغربية- تعوّل على الجانب الثقافي، لإخضاع البلدان الإسلامية بعدة طرق، منها حركة التبشير أو التنصير، وحركة الاستشراق.

أما حركة التبشير فكانت دعامة من دعامات استعمارها، وأداة من أدوات غزوها فكريا، فكانت تستهدف هدم الهوية الدينية والثقافية أولا، بتشكيك المبشرين في حضارة المسلمين قيما دينية وفكرا وتاريخا، ثم تستدرجهم إلى المسيحية ثانيا، بصفتها “السبيل القويم لتأسيس حضاري وفكري وديني سليم”.

مسجد “شاه جهان” في جنوب غرب لندن

وأما حركة الاستشراق فهي الدعامة الثانية، وقد ظهرت عند استعمارها للهند في منتصف القرن الثامن عشر، وكانت ترمي إلى فهم ثقافات الشرق وأديانه، ثم توسعت لتركز أنشطتها على العالم الإسلامي خاصّة.

ومع أن المستشرقين أنجزوا الكثير، وبذلوا جهودا في خدمة الثقافة العربية بإخلاص، فإن أغلب اتجاهات الاستشراق ظلت ظهيرا للنزعة الاستعمارية الغربية وسلاحا للغزو الثقافي. فالتبشير والاستشراق حركتان متفاعلتان غالبا، نشأت بينهما أكثر من صلة.

ومن الوسائل المعتمدة للهيمنة، استمالة المسلمين بمنحهم هامشا من الحرية الدينية، أو مكاسب صورية، من ذلك السماح ببناء مسجد شاه جهان، وهو ملك هندي مسلم، وقد بُني المسجد في جنوب غرب لندن عام 1889.

ظهور الإسلام في الأرخبيل البريطاني

لم تكن الفتوحات السبيل الوحيد لانتشار الإسلام في أصقاع العالم، فوصوله إلى شعوب المحيط الهندي مثلا كان على يد البحارة المسلمين، وكان للرياح دور في ذلك، فهي التي كانت تحدد مراسي السفن، لأنها تكون قوية في أشهر الشتاء، وتهب غرب الهند والصين، أما في الربيع والصيف فتهب في الاتجاه المعاكس.

وكان التعويل عليها لدفع السفن منشأ لتواصل ثقافي بين البلاد العربية وشرق أفريقيا وبين الصين والشرق الآسيوي عامة. أما في أفريقيا جنوب الصحراء فقد كان للدعاة وللحركات الصوفية وللرحالة والجغرافيين المسلمين دور في ذلك.

وما نكتشفه من هذه السلسلة -التي تعرض جانبا منسيا من التاريخ البريطاني أواخر القرن التاسع عشر- هو أن تأثير الصدام البريطاني الإسلامي كان عكسيا أحيانا، مخالفا لما خطط له السّياسيون. فكما هو شأن شعوب المحيط الهندي وشرق أفريقيا، فقد وفّر التماس لبعض النّخب الإنجليز فرصة لاكتشاف الدين الإسلامي والإيمان به، فكانوا النواة الأولى من مسلمي بريطانيا.

قصص مثيرة من حياة المسلمين الإنجليز المنسية

تستدعي السلسلة الوثائقية كثيرا من سير مسلمي العصر الفيكتوري، فتعرض سيرة “روبرت رشيد ستانلي”، الذي يكتشف أحفاده إسلامه وإسهامه الفاعل في خدمة المسلمين الإنجليز، بعد أن أخفي لأسباب تجتهد حلقته في فهمها.

ثم تعرض سيرة “عبد الله كويليام”، وهو مؤسس أول مسجد في بريطانيا، ويلقب بشيخ الإسلام في الجزر البريطانية، لجهوده في نشر الإسلام فيها. ثم سيرة ‏”فاطمة إليزابيث كيتس” التي دعاها “عبد الله كويليام” لتتابع محاضرة له، ثم أهداها نسخة من القرآن، فتحولت حياتها جوهريا، فأسلمت وانخرطت في الحركات الاجتماعية، ثم سيرة “الليدي زينب كوبولد” التي كانت أول مسلمة بريطانية تؤدي فريضة الحج.

وفي هذه السلسلة ما يمنحها قيمتها المضاعفة، فكاتب السيناريو الأمريكي الشهير “سيد فيلد” يقول في كتابه “السيناريو”، متحدثا عن ابتكار الأفلام وخلق شخصياتها: أصنع سياق الشخصية أولا، ثم أملأ السياق بالمضمون. فالسياق والمضمون مبدآن مجردان، يقدمان لك أداة لا غنى عنها في أي عملية إبداعية.

وهذا هو الأساس الذي استند إليه “ستيفن لونغدين” الذي أعد السلسلة، فقد صنع سياقا خاصّا ليجمع شخصياته في أفق واحد، وهو أحد أحفاد “روبرت رشيد ستانلي”، وكان قد علم من والده أن جده الأكبر كان مسلما، ولما أسلم هو نفسه منذ كان ابن 20 رحل إلى الشرق ليتعلم العربية، وتعرف على المسلمين من قرب.

وقد وجد في نبش قصة هذا الجد وإسلامه -الذي ظل مجهولا- الحافز الضروري، للبحث في تاريخه، وللبحث في محيطه، وخلق من صلته به هذا السياق الجامع. ومن هنا جاء عنوان “مسلمو العصر الفيكتوري”.

وفضلا عن الهدف الموضوعي الذي ترمي إليه السلسلة، وهو عرض بعض القصص المثيرة، وتصفح حياة المسلمين المنسية التي أهملها المؤرخون، لم يخلُ هذا العمل الوثائقي الشجاع من حافز ذاتي، فـ”ستيفن لونغدين” وهو ينبش في تاريخ الجد وتاريخ من عاصره من المسلمين الإنجليز الأوائل، إنما كان يبحث عن امتداده البعيد، باعتبار صلة الدم والمعتقد التي تجمعه بـ”روبرت رشيد ستانلي”.

رهان إعادة تشكيل سير مسلمي العصر الفيكتوري

لعل السؤال الذي يطرح نفسه هو كيف لـ”ستيفن لونغدين” أن يعيد تشكيل هذه السّير بعد قرن من النسيان؟

بعد أن نتعرّف إلى قصة جده في الحلقة الأولى، يأخذنا “ستيفن” في رحلة تتقصى سير هؤلاء المسلمين المنسيين، فيخص كلا منهم بحلقة، يجمع فيها شهادات عائلته، أو يقدّم معطيات مما يجد من منشوراتهم في الكتب والمجلات والصحف، أو من التقارير أو الصور القديمة، وقد يسعفه الحظ فيجد بعضا من أخبارهم لدى المؤرخين.

ومن البديهي أن يواجه معضلة في توفير الموارد البصرية الضرورية، لذلك يعول على تجسيد وضعيات كثيرة بمواقف تمثيلية قصيرة، تقرب الصورة إلى المتفرج، وفي أثناء ذلك يتولى التعليق المباشر، أو يضع صوت سارد من خارج الإطار، باحثا عن خيط ناظم يجمع بين هذه السير، مبرزا كيفية إسلام أصحابها، وما لقوا من تحديات، عارِضا آثارهم الباقية بعدهم.


إعلان