عقد الثمانينيات.. قراءة في متغيرات الحياة الفنية العربية

تكوّن تقليد جماعي لدى الجمهور العربي على صفحات التواصل الاجتماعي، بإحياء مجموعة عشوائية من أشياء تتعلق بالماضي الثقافي، وتتنوع بين مشتركات ثقافية عامة تجمع الجمهور العربي، وأخرى محلية يتداولها الناس فيما بينهم، على أنها ماضٍ مفعم بجماليات وحس فني كبير مفقود حاليا.
تشمل هذه المواد التي يعاد إحياؤها إشارات شتى، فيمكن أن تكون صورة لمنزل العائلة القديم، أو تسجيلا لأب مغترب يحاول التواصل مع أبنائه بشريط كاسيت، أو شريط فيديو يوثق عيد ميلاد أحد أفراد العائلة، كما تحضر صور ومقاطع فيديو من أغنيات شهيرة تعلم مرحلتها التاريخية.

تشكل كثير من هذه المواد خلال مرحلة الثمانينيات، حينما انفتح العالم العربي على الوسائل التقنية الحديثة، التي أضحت لغة رسمية معنية بالجمهور على نطاق واسع يشمل كل الثقافات، لكن المواد البصرية والسمعية التي أنتجتها هذه المرحلة، أخذ بعضها مسارات مطولة من النبذ، ولفظتها مؤسسات الدول العربية السياسية والثقافية، بوصفها وسائل أفسدت الذوق العام. فلماذا تحول “الذوق العام” إلى هم أخلاقي كبير حينما أتاح لشتى الثقافات أن تسهم فيه؟
يحاول وثائقي “الحياة الفنية.. ثورة الفيديو والكاسيت” (الجزء الثاني من سلسلة الثمانينيات، من إنتاج الجزيرة الوثائقية) أن يستعيد هذا العقد، في إطار تفكيك مسببات التغير السياسي والاجتماعي، والاشتباك مع المنتج الفني في ثوب المتغير الجديد، الذي يمكن من خلاله تخليق قراءة مغايرة للتاريخ الاجتماعي.

في بداية الفيلم، يضع الكاتب المصري عمر طاهر مرحلة الثمانينيات ضمن تعريف جيلي ملفت، فيصف جيل هذه المرحلة بأنه جسر بين جيلين، أولهما انغمس في الهم السياسي والحياة الآلية، والثاني تسلم أدوات فنية ومعيشية حديثة عالية التقنية.
لذلك فإن الثمانينيات بجمهورها وأحداثها تمثل قراءة محورية للمتغيرات التي طرأت على حياة المجتمعات العربية، لأنها وفرت فرصة لمنتج ثقافي معني بالجمهور أكثر من الأكواد السياسية، وأتاحت لنوع الثقافات غير الرسمية وغير المحببة للسلطة، أن تتحول من طرف المتلقي إلى طرف المنتج –جزئيا- لثقافته.
ميلاد عصر أشرطة الفيديو والكاسيت
على غرار التغيرات السياسية في المنطقة العربية، شهدت بداية الثمانينيات دخول أدوات تعبير وإنتاج ثقافة جديدة، مفارقة لما سبقها من منتج فني طيّع للسلطة.
يتناول الفيلم ظهور شرائط الفيديو والكاسيت، من باب ما أحدثته التقنية الجديدة من تحريك لمعطيات المشاهدة لدى الجمهور، فقد أصبح قادرا على الاحتفاظ بالمواد الفنية، ومشاهدتها حسب الحاجة، وتكوّنت لديه فرصة لتكوين علاقة ذات خصوصية مع المنتج الفني.
اتسمت الستينيات والسبعينيات لدى جموع الدول العربية بمشتركات الهم القومي، أما المناخ السياسي داخليا فكان يوظف الفنون لصالح الخطاب السياسي، لذلك تأطر المنتج الفني العربي ضمن ذهنية السلطة ومتطلباتها الترويجية تجاه الجماهير.

ومع ظهور شرائط الفيديو والكاسيت، خرج نمط المشاهدة من شكل المجموعة إلى شكل الفرد، وتحول فعل المشاهدة من حيز آمن ومنتهٍ إلى وسط ممتلئ بالحركة، يضع ظرف فعل المشاهدة والتلقي داخل إطار الإنتاج الثقافي.
يتناول الفيلم حيثيات هذا التغير من خلال وسيط الشاشة، ونرى مثلا -في نموذج من السينما المصرية- رجلا ذاهبا إلى الحج، والناس توصيه بضرورة العودة بجهاز فيديو، وفي ظرف اقتصادي مختلف وأكثر محدودية، تشكل نشاط جماعي في ليبيا مطلع الثمانينيات، حيث اعتاد الناس استئجار الشرائط والاجتماع لمشاهدتها مرة أسبوعيا.
بسبب سرعة انتشار شريط الفيديو، حاولت مصادر تطويرها إطالة مدة العرض، وخلال سنوات قليلة انتقلت سعة شريط الفيديو من ساعتين إلى 3 ساعات، حتى تستطيع تشغيل الأفلام الأجنبية الطويلة.
الأفلام الهندية.. مبالغات عاطفية تلامس الوجدان العربي
يذكر الأكاديمي والباحث “عادل اكتوف” أن المنطقة العربية تأثرت وتداولت الأفلام الهندية بكثرة، بسبب الاحتياج الجماعي للجانب العاطفي المبالغ فيه الذي اعتمدت عليه السينما الهندية وقتها، ففي فيلم “تعال وعانقني” (1973)، الذي انتشر مطلع الثمانينيات، كانت البطولة لطفل معاق يسعى إلى الخروج من أزماته.
توحّد عموم المشاهدين مع فكرة الفيلم، حتى وإن كانت متخيلة، بسبب الحاجة الشديدة إلى التحقق، التي فرضتها سياسات عربية كثيرة، بسبب فتح أسواقها، وإطلاق المجتمعات داخل منافسات اقتصادية غير عادلة.

حين نستعيد ذهنية المشاهد، الذي يجد فارقا كبيرا بين متطلبات حياة الرفاه المنثورة حوله، وبين قدرته المحدودة على العيش، نجد أن بديل المتخيل في مبالغات السينما الهندية يخلق تحققا مجازيا، يعطي إشارات ظاهرية بالقدرة على التعاطي الإيجابي مع الواقع، لكنه يبطّن إشارات أخرى تصنع مزيدا من الانفصال عنه والعجز تجاهه.
تتقارب فكرة الفيلم مع نشاط آخر زودته شركات هوليود عقب الحرب العالمية الثانية، يذكره كتاب “السينما والواقعية الجديدة”. فبعد انتعاش السينما الأمريكية عقب الحرب، أصبح العالم سوقا مفتوحا للأفلام التجارية، كان أهمها أفلام “البطل الخارق”، التي اعتمد الترويج لها على تخصيص ملصق إعلاني يختلف حسب متطلبات منطقة التوزيع، من خلال تحديد متطلبات جمهور هذه المنطقة، ومحاولة إظهارها في تصميم الملصق.
مسارات مغايرة في السرد السينمائي
لم تتوقف المتغيرات الجديدة الناشئة عن توفير منتج ثقافي مراوغ لشرطية إرضاء السلطة، ومع تحول المشاهد إلى منتج ثقافي، ظهر جيل جديد استطاع الاستفادة من إمكانية العمل المحدود، وتوجيهه لتناول الواقع المعاش.
في مصر، تشكل حراك سينمائي قوي أطلق عليه “الواقعية الجديدة”، على غرار واقعيات ظهرت في السينما الأوروبية، وقد ركزت هذه الموجة على أفلام تتجه إلى الشارع مباشرة، وحاولت أن تعكس تطورات تأثير المناخ السياسي وتحولاته عليه.

ينتقي الوثائقي فيلم “سواق الأتوبيس” (1982) للمخرج عاطف الطيب، بصفته إحدى علامات الواقعية في السينما المصرية خلال عقد الثمانينيات.
حاول الطيب أن يتماهى مع الشارع على نحو جذري، واختار مواقع تصويره الداخلية في حي بولاق الشعبي بالقاهرة، وأقام حكاية الفيلم من خلال أزمة حسن، الذي رفض أن يفقد والده ورشة عمله، فخاض رحلة يائسة عكست مدى صعود الهم الفردي لدى الناس، وغياب أساس الجماعة الذي يشكل جزءا من وجودهم.
في نفس الإطار الواقعي، صدر في لبنان فيلم “حروب صغيرة” (1982) للمخرج مارون بغدادي، واتخذ الحرب الأهلية في لبنان موقعا سينمائيا له.

يموضع الوثائقي هذا الفيلم ضمن الأفلام التجديدية، التي أضافت متغيرا جديدا للغة الفيلم السينمائي العربي، عبر تدمير الحد التقني بين الوثائقي والروائي، والارتكاز على الواقع ليحدد لغته السينمائية، لذلك فإن انطلاق حروب صغيرة على مستوى المكان والحدث يحيلنا إلى التفكير المباشر في الواقع اللبناني، قبل التفكير التقني في لغة الفيلم، ويدفع المشاهدين إلى مدى رؤية أقرب للواقع المعاش.
مسلسلات الحارة المحافظة.. أدوات تشكيل ثقافية للمجتمع
يتطرق وثائقي “الحياة الفنية.. ثورة الفيديو والكاسيت” إلى تأثير شريط الفيديو على لغة تعبير الثقافات والمجتمعات المفقرّة، ففي موريتانيا ظهر التلفزيون عام 1983، وكانت انطلاقته صعبة بوسائل محدودة، لكن في مقابل ذلك كان الاحتفاء بأصوات محلية وأفراد معروفين بين الناس.

تمثل ظروف بداية التلفزيون الموريتاني أحد الآثار الإيجابية الأساسية لشريط الفيديو، من حيث قدرته على إعطاء مناخ تعبيري وثقافي لمجتمع مقفر، لا موارد محلية له، وما زال يعاني من آثار استعمارية انتهت منذ نحو عقدين فقط.
واكبت دول خليجية صغيرة نفس آلية البحث ومواكبة اللغة الفنية الجديدة، فقد صدر في الأردن سنة 1981، مسلسل “أبو عواد” الذي انطلق من الحارة الأردنية، واعتمد على أساس محافظ لشخصية أبو عواد القروية، الجادة والمستقيمة. وفي الكويت، ظهر المسلسل الدرامي “خالتي قماشة” في 1983، الذي انطلق من نفس الأساس العائلي المحافظ.

وفي مصر، تشكّلت توجهات درامية مختلفة، مع أنها ظلت واقعة في فخ رومانسية المرحلة الناصرية، وقد برز السؤال الثقافي المرتبط بتنويعة التغيرات التي طرأت على المجتمع المصري في العصر الحديث، وظهر ذلك في مسلسل “الشهد والدموع” (1983)، الذي بدأت حكايته من العصر الملكي وانتهت بعد ثورة 1952.
وعلى نحو مغاير، شكّلت تجربة برنامج “لو سمحتم” رؤية جديدة ومنفتحة على المجتمع العربي، وقد قدّمه نجيب الخطاب الذي انتقل للإعلام من التعليق الرياضي، وبشّر برنامجه بمواهب فنية عربية صاعدة، إلى جانب لقاءاته مع فنانين كبار.

يرصد الفيلم هذه المنتجات بصفتها أدوات تشكيل ثقافية جديدة للمجتمع، من حيث مساءلة تاريخها السابق، وإعادة إحيائه بعيدا عن توجيهات السلطة. يأتي ذلك بالتجاور مع قراءة أكثر موضوعية، ناتجة من تزايد في الوعي الثقافي والسياسي، المرتبط بقضايا المجتمع العربي.
تحول إيجابي في القضية الفلسطينية
شهدت الثمانينيات تحولا إيجابيا في مدى الوعي الطلابي بالقضية الفلسطينية، أمام تراجعها السياسي الكبير، فقد تحولت مسألة الشأن الفلسطيني إلى الجامعات، وأسهم الطلاب فيها.
وعلى هامش الانتفاضة الفلسطينية الأولى، نرى مدخلا فنيا جديدا، تمثل في فرقة “العشيرة الفلسطينية” التي اشتبكت مع حدث الانتفاضة بألبوم استثنائي عنوانه “أطفال الحجارة”، وكتب لهم الشاعر نزار قباني الأغنية الأساسية في الألبوم.
فرقة جذور العاشقين
لم تنتج “العشيرة الفلسطينية” بدعم عربي، أو تحت ظل دولة عربية مجاورة، بل أنتجت نفسها عبر اعتياد وفرة شريط الكاسيت الذي يسهل تسجيله وتوزيعه، ولذلك جاءت ممثلة لروح اللحظة الراهنة، لا تخشى فخ تسييس المنتج الفني، لأنها تتعامل معه على أنه هم وجودي وإنساني يحتاج إلى وسيط فني ليخرجه إلى العالم.