“العبادة في نهاية العالم”.. قصة طائفة غامضة فجرت غازا ساما في قطارات اليابان

في الساعة 8:25 من صباح يوم 20 مارس/ آذار 1995، اختنق ركاب عدد من قطارات الأنفاق في العاصمة اليابانية طوكيو، بسبب تسرب غازات أدت إلى موت بعضهم.
بعد ساعات قليلة، أعلنت شرطة المدينة أن عملا إرهابيا قد جرى، وأن الأكياس المتفجرة داخل القاطرات كانت تحوي على غاز الأعصاب (سارين) السام.
تلك الحادثة التي وصفت يومئذ بأنها أكبر عملية إرهابية في تاريخ اليابان المعاصر، يعود إليها الوثائقي التاريخي “أوم.. العبادة في نهاية العالم” (AUM: The Cult at the End of the World)، ليراجع الظروف التي أدت لظهور الطائفة الدينية اليابانية المتطرفة المسماة “أوم شينريكو”، وهي التي وقفت وراء العملية، ثم يبحث أيضا في العقيدة التي روج لها زعيمها الروحي “شوكو أساهارا”.
منظمة دينية غامضة عند سفوح جبال فوجي
تستعين صانعة الوثائقي “شياكي ياناغيموتو” وزميلها “بِن براون” بأرشيف ضخم لخامات وثائقية على شكل فيديوهات متعلقة بالحدث، ثم يقابلان صحفيين ومحللين سياسيين وشهودا أحياء تابعوا القضية منذ بدايتها.
من هؤلاء الصحفي البريطاني “أندرو مارشال”، وكان يعمل في صحيفة يابانية تصدر باللغة الإنكليزية، ويصف الأجواء السياسية التي سادت في اليابان أواخر الثمانينيات، ويشير إلى انتشار النزعة الاستهلاكية الرأسمالية في المجتمع، وغلبة فكرة الربح وكسب المال على الأفكار الروحانية التي طالما التزم بها اليابانيون تاريخيا.
ويعلل أسباب هذا الميل إلى الازدهار الاقتصادي الذي مرت به اليابان، لكن أسواقها الاقتصادية أصيبت بهزات عنيفة، كما حصل في عام 1989 حين انهارت بورصة طوكيو، وللتخلص من تبعاتها السلبية أخذ السياسيون يقللون الإنفاق العام ويقلصون الخدمات، مما أدى إلى تغيّر في المزاج العام، واتساع حالات التذمر من الأوضاع الحاصلة.

في ذلك العام، ظهرت منظمة دينية غامضة أقامت معسكرا عند حافة جبل في جزيرة فوجي، وكان أعضاؤها يعملون بسرية، ويثيرون الريبة في نفوس السكان، لوجود مروحية قديمة في باحة المنزل الذي يقيمون فيه، مع مجموعة كبيرة من الصناديق الموزعة على مساحات كبيرة من الأرض.
وقد وصلت أخبار عن انتشار رائحة كريهة في أجوائها، فأثارت فضول الصحفي البريطاني ودفعه ذلك للذهاب إليها، وقد اتضح لاحقا أن تلك الرائحة المنبعثة في الأجواء ناتجة عن الغازات المنبعثة من تجارب كيميائية، يشرف عليها زعيم المنظمة “شوكو أساهارا”، لإنتاج متفجرات وغازات شديدة السم، يخطط لاستخدامها في عملياته الإرهابية.
كراهية الطفل الأعمى لوالديه وللصناعيين
يرسم الوثائقي بورتريها سينمائيا لـ”أساهارا”، يتابع فيه صعوده من معلّم بسيط لليوغا، إلى أن يصبح زعيما لطائفة دينية، وشخصية عامة وسياسية مهمة. ولا يكتفي البورتريه بشهادة من يعرفه ويلازمه في حياته فحسب، بل يقرن كل ذلك بالصورة التي تضفي عليه حيوية ومصداقية كبيرتين.
تثبت الصور الفوتوغرافية من طفولته أنه كان يعاني من عمى شبه كامل، وأنه لهذا السبب أُدخل في مدرسة للمكفوفين، لكن وجوده هناك لم يرضه، وكان يسبب له ألما وحزنا، لأنه لم يكن يرى نفسه طفلا أعمى، وأنه من الغبن زجه بين الأطفال المكفوفين، والتعامل معه على هذا الأساس.

يُحيل أسباب وجوده في المدرسة إلى والديه، وأنهما بذلك التصرف أرادا التخلص منه، ولذلك ظلت علاقته سيئة بهما، لا سيما حين علم أنهما أخذا المنحة المالية التي خصصتها له الدولة لتحسين وضعه ودراسته.
كما أن المرض الذي أصاب عينيه ناتج عن إصابته بإشعاعات كيميائية متسربة من مصنع قريب من بيتهم، ولهذا يضمر في داخله كرها لكل الصناعيين، ولكل الدولة التي يراها عدوا له.
دروس اليوغا تصنع طائفة دينية مغلقة
كان “أساهارا” على قناعة بأنه طفل “خارق القوى”، ذو طموح لكسب الثروة، ولم يفتُرا عنده مع عوقه البصري، فشرع في مقتبل شبابه في فتح صيدلية لبيع الأعشاب الطبية، مع أنه ليست له شهادة علمية.
لم يدم عمله في الصيدلية طويلا، لأن الجهات الصحية اكتشفت أنه يستخدم في وصفاته مواد مخدرة، مخلوطة بمواد كحولية وكيمائية محظورة. لقد كان يريد كسب المال بكل الطرق وإن كانت غير مشروعة، هذا ما تثبته تجربته الشخصية في بيع “الأعشاب الطبية”.

ينتقل من ذلك العمل إلى رياضة “اليوغا” التأملية، فيؤسس مدرسة خاصة بتعليمها، مقابل جني المال من الطلبة المنضمين إليها. وباللباقة والجاذبية التي لديه يكسب ود المشتركين فيها.
ثم تحولت محاضراته تدريجيا من اليوغا إلى دروس دينية، تدعو إلى خلق “شيوعية مقدسة”، وأصبح يدعوهم للإيمان بفكرة نهاية العالم (هرمجدون)، التي لا يحين وقتها حسب تصوره إلا بتسريع الوصول إليها بالحروب والاقتتال. وبالتدريج يصبح أتباعه طائفة دينية مغلقة، تسمى “أوم شينريكو”، وتضم آلافا من الأعضاء الموالين والخاضعين له.
فشل الطموح القيصري.. صدمة تصب الزيت على النار
بعد توسع نشاط “أساهاوا” يظهر ميله للسيطرة جليا، فيتخذ السياسة منطلقا لأن يصبح “قيصرا” كما كان يريد، فيترشح لانتخابات عام 1990 من خلال “حزب شينري”، ويصرح بلا مواربة أنه يريد السيطرة على الحكم في اليابان.

لكن إخفاقه في الانتخابات المحلية وعدم حصوله على الأصوات الكافية للترشح للانتخابات البرلمانية أصابه بصدمة، وجعله ينقلب على أفكاره الداعية للوصول إلى السلطة بالانتخابات.
لقد جعلته خسارته يرى المجتمع برمته عدوا لا بد من محاربته، ومن هنا بدأ نشاطه التخريبي، والعمل مع مجموعة مختارة من طائفته، لتنفيذ أعمال انتقامية ضد الدولة والمجتمع.
ثم أصبحت كلمة “الموت” الأكثر استخداما في محاضراته أمام مريديه، وأضحى يركز في أحاديثه معهم على فشل الطريق الديمقراطي السلمي، فلا بد من استبداله بآخر عسكري.
تعاون روسي مع مشروع إرهابي ياباني
في خضم عمله وتخطيطه لمهاجمة الدولة والمجتمع، يقرّب إليه اثنين من طائفته؛ هما “فوميهيرو جويو” و”هيديو موراي”. أما الأول فقد درس الفيزياء وعمل في إدارة الفضاء اليابانية، وكان ولد في أيام صعود الإنسان إلى القمر، وعايش مرحلة الحرب الباردة وسباق التسلح بين السوفيات والأمريكيين، وقد قربته نظرته المتشائمة للعالم من “أساهارا”، وسرعان ما انضم إلى طائفته، وكان من أكبر المتحمسين لنشر أفكارها.

وأما الثاني فهو مهندس علوم طبيعية، تولى في تنظيم “أوم” الهرمي مسؤولية قسم الاكتشافات الطبيعية، ومن مسار البحث التوثيقي عن شخصيته، يظهر أنه ليس رجلا زاهدا بالمال فحسب، بل في كل شؤون الحياة، فقد كان يشجع على تقليل الإنسان أكله وساعات نومه، وقد تعلم التشدد على يد معلمه “أساهارا”.
يكلف “أساهارا” الشاب “جويو” بالذهاب إلى روسيا بعد سقوط الاتحاد السوفياتي، للعمل مع قادتها الجدد، ونيل كل ما يحتاجونه لصناعة أسلحة دمار شامل، ولا سيما الأسلحة الكيميائية، كما نظم دورات لأعضاء المنظمة في موسكو، لدراسة العلوم العسكرية هناك.
خوف الشرطة من مواجهة زعماء الطوائف
خلال سنوات، كان العمل يجري داخل الطائفة الدينية بلا تدخل من الشرطة اليابانية فيها، مما يطرح سؤالا عن الأسباب التي تمنع الشرطة من مطاردة منظمة خطرة تهدد أمن المواطن والدولة.
يتحرى الوثائقي عن جواب، ويتوصل إلى حقائق تاريخية، مفادها أن الشرطة اليابانية كانت تتجنب التصادم مع الزعماء الدينيين، وتتركهم يتحركون بحرية، مع تعاون بعض رجالها مع تلك المنظمات، مما يتيح لقادتها معرفة خطط الشرطة.

وصل هذا السلوك ذروته حين بدأ “أساهارا” يلاحق كل الشخصيات التي تعارضه، وينقل الوثائقي تجارب محامٍ اغتيل، وآخرين وجهت لهم تهديدات بالقتل.
ولم يكتف الزعيم بذلك، بل خطف أطفالا صغارا ضمهم أول الأمر إلى طائفته، ثم قتل بعضهم ودفنهم في أماكن مجهولة، بسبب مطالبة أهاليهم السلطات بالبحث عنهم.
كل تلك الحوادث لم تتحر الشرطة عنها بجدية، ولم تشرع في البحث لمعرفة من يقف وراءها. وفي تلك الأثناء كان “هيديو موراي” يطور تجاربه السرية، لإنتاج كميات كبيرة من غاز الأعصاب (سارين) القاتل.
تفجير غاز الأعصاب في أنفاق القطارات
يتابع الوثائقي مراحل التخطيط لتفجير الأكياس المعبأة بالغازات السامة في محطة “كاسوميجاسيكي” المركزية، وقد كلف “أساهارا” بعض مريديه بتوزيع أكياس الغاز في عدد من قاطرات الأنفاق، ويتحدد موعد ثقبها عند وصولها إلى المحطة.

نجحت الخطة، وقُتل في صباح ذلك اليوم عشرات من الركاب، وأصيب كثير منهم بحالات اختناق حادة، تعطلت بسببها أجهزة تنفس عدد منهم طيلة حياتهم.
أصابت صدمة الحادثة المجتمع الياباني بهزة عنيفة، ونشرت الخوف في أوصاله، كما دفعت أهالي الضحايا برفع أصواتهم، ومطالبة الحكومة وأجهزتها الأمنية بكشف الجناة.
تأخذ عملية البحث والتحري هذه المرة طابعا جديا، ومع أنه اختفى اختفاء طويلا، فقد استطاعت الشرطة عام 1995 اعتقال زعيم الطائفة “شوكو أساهارا” وقادته المقربين، وبعد إثبات التهم الموجهة إليهم حكمت عليه المحكمة وعلى 13 آخرين من أتباعه بالإعدام، ونفذ الحكم عام 2018.

أما “فوميهيرو جويو” فلم يشمله الحكم بالإعدام، لضعف الأدلة في مشاركته بالعملية، بسبب أنه كان يومئذ في موسكو، ولهذا أطلق نهاية عام 1999، فشرع بتأسيس منظمة بديلة باسم “هيكاري نو وا” أي (حلقة الضوء).
ولكن أهالي الضحايا ما زالوا يعدونه إنسانا خطيرا، ويطالبون الشرطة والأجهزة الأمنية بمنع نشاطه السياسي ومنظمته الجديدة، خشية أن تصبح منظمة إرهابية تشبه المنظمة الأم التي ترعرع فيها.