حلقة كامبريدج.. خمسة جواسيس خانوا التاج البريطاني

كان الليل قد أرخى بظلامه الكثيف على شوارع المدينة الغارقة في صمت عميق، بينما كانت خطوات خاطفة تسير برشاقة عالية على رصيف مبلول بفعل المطر الذي لم يتوقف عن الهطول منذ بداية الحرب، وفي أحد الأزقة الضيقة، انسل صاحب تلك الخطوات الرشيقة بهدوء تام لا يلحظه أحد، وتوارى في الظلام، مبتعدا عن الإنارة الباهتة المنبعثة من أعمدة الشارع، حتى بات كأنه جزء من الظلال نفسها.

كان يلبس معطفا طويلا شديد السواد، يناسب رهبة المكان والحدث، وفوق رأسه قبعة أخفت نصف ملامح وجهه، الذي كانت تغلب عليه الوسامة والصفاء، وخلف هذه الملامح الودودة يختبئ وجه آخر مختلف تماما. أما عيناه، فكانتا لا تزالان تعملان جاهدتين، تراقبان كل حركة، وتتحققان من كل تفصيل في محيطه.

توقف عند باب حديدي عتيق، يتدلى عليه قفل ثقيل، وما لبث أن أخرج مفتاحا من جيبه وأدخله مسرعا، ثم حرك يده فسمع فرقعة خافتة، وبحركة خاطفة رفع القفل ودخل، ثم أغلق الباب وراءه ولم يحدث صوتا، كان كلّ ما يُسمع في تلك اللحظات، هي أنفاسه ورذاذ المطر الخفيف، وصوت الهواء الذي يتسرب من فتحات صغيرة من النوافذ المغلقة بإحكام، محدثا صريرا ذي إيقاع واحد لا ينقطع.

لم يكن المكان مضاء، باستثناء إضاءة خافتة قادمة من ردهة، تبعد نحو 5 أمتار من حيث يقف أحد أهم جواسيس عصره، ويُدعى “كيم فيلبي”. لقد كانت لحظات مفصلية وعصيبة، ضمن رحلة طويلة امتدت أكثر من 10 سنوات، وستستمر بعد ذلك 20 سنة أخرى. اندفع “فيلبي” بحذر نحو الأمام مبتعدا عن الباب، متسللا بين الأثاث المتراكم بعضه فوق بعض، بمحاذاة الجدار الفاصل بينه وبين قاعة اجتماعات ضباط الثكنة.

لم يكن الجدار وحده يفصلهما، بل كان ثمّة باب خشبي أيضا، وما عليه فعله الآن سيرفع رصيده لدى حلفائه الروس، الذين جنّدوه وهو في العشرين من عمره، بينما كان يدرس في إحدى أرقى جامعات بريطانيا؛ جامعة كامبريدج، الواقعة شمال العاصمة لندن.

كتاب يتحدث عن آخر جواسيس كامبردج

لقد كانت تلك أيام الشباب وطيشه، فميوله الشيوعية الجلية آنذاك ما كانت لتفضحه إلا مع المقربين منه من الروس، وسريعا ما عرضوا عليه تجنيده وتولي مهمة تجنيد مجموعة من الجواسيس، للعمل لصالح الاتحاد السوفياتي قبل الحرب العالمية الثانية وخلالها وبعدها.

رمى بأذنه نحو الباب منصتا ومنتبها لكل همس، وبعد أن تحرى تحريا جيدا، فتح الباب على مهل، وألقى ببصره متفحصا المكان كله من زاوية ضيقة، وعندما تأكد أن لا أحد موجود، سارع نحو المكتبة الصغيرة، وأخذ يحرك الملفات السرية يمنى ويسرى، يبحث عن شيء يقلب موازين الحرب، ويعزز نفوذ الدب الروسي في أوروبا الشرقية.

“ما إن تقتحم عالم التجسس المزدوج، يصبح جزءا لا ينفصل عنك. إنها طريقة تفكير، وحياة ذات معايير مزدوجة.”

الروائي الإنجليزي جون لو كاريه

وبينما هو كذلك وقعت عينه على شيء لم يكن في الحسبان؛ منزلق على الرف السفلي، بدا وكأنه وُضع حديثا، أو لعل أحدا نسيه هناك على عجل، فتردد وهلة ثم مدّ يده وسحبه بهدوء، ولم يكن الملف يحمل عنوانا، لكن ما إن فتحه حتى اتسعت عيناه بدهشة خفية؛ كانت داخله رسائل مشفّرة بخط اليد، وموقّعة باسم إنسان يعرفه جيدا.

كانت أول مرة يشعر فيها “فيلبي” بوخز شديد يصيبه، وبدأت نبضات قلبه تزداد سرعة، لقد أشارت الرسالة التي بين يديه إلى أن الأمريكيين يشعرون بأن المخابرات البريطانية باتت مخترقة من عميل مزدوج، وأن ثمّة جاسوسا بريطانيا على الأقل يعمل لصالح الروس.

لقد أدرك أن أمره بات مكشوفا، وما هي إلا أيام حتى يطرق أحدهم عليه الباب، ويُقاد إلى غرفة التحقيق، أو ربما يجد عميلا روسيا آخر يقف فوق سريره، واضعا المسدس على رأسه لينهي حياته، كي لا يبوح بأي أسرار للأعداء. لقد شعر أن اللعبة التي وضع نفسه فيها بدأت تكبر، وهي على وشك أن تبتلعه الآن.

أعاد الملف بسرعة إلى مكانه، بعدما حفظ ما استطاع من تفاصيل، وخرج من حيث قدم على حذر، لم يعد ذلك المكان آمنا بعد الآن، لكنه كان يدرك أيضا أن أي خطوة خطأ ستجعله هدفا سهلا للحكومتين معا، ربما.

السلطات السوفياتية تخلد اسم جاسوسها “كيم فيلبي” بإصدار طابع بريدي يحمل صورته

مضى نحو الباب الخشبي بخطوات ثابتة، وكأن كل شيء بداخله انقلب رأسا على عقب، لم يعد فقط “رجل الظل” في خدمة موسكو، بل بات ورقة يمكن أن تُحرق في أي لحظة. أجرى مكالماته الخاطفة ورتب أموره وحزم أمتعته، وركب أول طائرة متجهة نحو موسكو، فلقي احتفاء كبيرا من أعلى الرتب، وتنفس الصعداء.

لم يُكتفَ بتكريمه في السر، بل خلدت السلطات السوفياتية اسمه لاحقا بإصدار طابع بريدي يحمل صورته، وتلك دلالة رمزية على مدى تقدير الدولة لإنجازاته الاستخباراتية. وقد ظهر على الطابع لابسا بزّته السوفياتية، وبجانبه شارة المخابرات، وهو مشهد اختزل تحوّله من نخبوي بريطاني إلى رمز من رموز الاستخبارات السوفياتية.

صعود عمليات التجسس خلال الحرب الباردة

خلال الحرب الباردة، التي استمرت نحو 3 عقود بعد نهاية الحرب العالمية الثانية عام 1945، برز التجسس أداة رئيسة في الصراع بين القوتين العظميين آنذاك؛ الولايات المتحدة وحلفائها، والاتحاد السوفياتي وحلفائه.

كانت تلك السنوات مليئة بالاضطرابات السياسية والاقتصادية والتوترات العسكرية، وأضحت المعلومات الاستخباراتية ضرورية لتحديد سياسات الحروب النفسية والعمليات العسكرية، وكانت المعلومات أكثر قيمة من الأسلحة نفسها، فكانت تُستخدم للتخطيط للعمليات السرية، وجمع المعلومات عن الأسلحة النووية، ومراقبة تطورات الخصم في مجالات عدة.

ومع أن الحرب الباردة كانت مليئة بالصراعات غير المباشرة التي دارت في مجالات متنوعة، مثل الاقتصاد والثقافة والتقنية، فإن التجسس كان الأداة الأكثر حسما في كل هذه المعارك غير المعلنة.

حلقة كامبريدج تتكون من خمسة ويقال من ستة جواسيس

وقد تصاعد دور الجواسيس تصاعدا كبيرا بظهور الشبكات الاستخباراتية التي عملت في الظل، ومنها وكالة “سي آي أيه” الأمريكية، والاستخبارات السوفياتية “كي جي بي”، وجهاز الاستخبارات البريطاني “إم آي 6″، فكانت هذه الأجهزة تعمل على تجنيد عملاء داخل الدول المستهدفة.

وفي هذا السياق المشحون، برز عدد من الجواسيس، ولم يكونوا أدوات في أيدي أجهزة الاستخبارات فحسب، بل أدوا أدوارا محورية في تغيير موازين القوى بين الشرق والغرب، وكان منهم علماء ودبلوماسيون وأعضاء في النخبة الأكاديمية والاجتماعية، فكان ذلك غطاء مثاليا لتمرير المعلومات الحساسة، بلا إثارة للشكوك.

ومن أبرز هؤلاء الجواسيس “كلاوس فوكس”، وهو عالم فيزيائي ألماني شارك في مشروع “مانهاتن” النووي، وسرّب معلومات خطيرة إلى موسكو، فساعد الاتحاد السوفياتي على تطوير قنبلته النووية في وقت قياسي.1

انكشف أمر “فوكس” في بداية الخمسينيات، بعد سنوات من العمل السري والتواصل المشفر مع عملاء “كي جي بي”، وقد شكلت قضيته صدمة للمجتمع الاستخباراتي الغربي، وكشفت حجم الاختراق السوفياتي في مشاريع في غاية السرية. ولم يكن “فوكس” حالة معزولة، بل كان جزءا من شبكة أوسع من الجواسيس، حركتهم القناعات الفكرية أكثر من الطموحات الشخصية.

“إنيغما” آلة تشفير الاتصالات الألمانية

هذا النوع من الولاء العقائدي مثّل تهديدا حقيقيا للأمن القومي في الغرب، وسلط الضوء على التحدي الكبير الذي لاقته الحكومات الغربية في مواجهة جواسيس يبدون مندمجين تماما في مجتمعاتهم، وهم في الحقيقة ينقلون أخطر الأسرار إلى العدو.

شبكة كامبريدج.. خمسة رجال كشفوا الثغور الغربية

لم يكن استخدام الجواسيس في الحرب الباردة محصورا في جمع المعلومات، بل تطور ليشمل التخريب والتسلل في الحكومات والمنظمات السياسية الكبرى، فقد استطاعوا بعملهم السري إحداث تأثير كبير على الأحداث العالمية.

وكان من أبرز تلك الشبكات على الإطلاق “حلقة كامبريدج”، التي ضمت جواسيس بريطانيين تسللوا إلى أعلى مستويات الحكومة البريطانية، لصالح الاتحاد السوفياتي، وكانت هذه الشبكة تمثل شكلا متقدما من العمليات الاستخباراتية، فقد جُنّد عملاء من النخبة السياسية، وأصبح كشفهم صدمة كبيرة، وأدى إلى تغييرات جذرية في سياسات الأمن.

يعد “كيم فيلبي” -الذي جاء خبره في بداية الحديث- من أقدم المنتسبين لهذه الشبكة، وقد تأسست في الثلاثينيات بتجنيد طلاب بريطانيين متأثرين بالفكر اليساري والشيوعي، وكانوا ناقمين على صعود الفاشية والنازية في أوروبا، ويؤمنون بدور الاتحاد السوفياتي في مواجهتها.

اخترقت الشبكة أجهزة الاستخبارات البريطانية في محطات فارقة على مدار نحو 30 عاما، وهو اختراق أمني قلّ مثيله في العصر الحديث، وكانت تضم 5 جواسيس أساسيين، وهم:

  • كيم فيلبي.
  • دونالد ماكلاين.
  • غاي بورغيس.
  • أنتوني بلانت.
  • جون كيرنكروس.

وقد اشتهروا لاحقا بلقب “الجواسيس الخمسة”.

“كيم فيلبي”.. رجل السوفيات في المواقع الحساسة

يُعد “كيم فيلبي” من أبرز أعضاء حلقة كامبريدج، بسبب المواقع الحساسة التي كان يشغلها، فقد شغل منصبا مهما في جهاز الاستخبارات البريطاني، ثم عُيّن لاحقا سكرتيرا أول للسفارة البريطانية في واشنطن، ثم رئيسا لمكتب الاتصال بأجهزة الاستخبارات الأمريكية، ويعود إليه الفضل في كشف عدة برامج سرية، منها مخطط الأمريكان للإطاحة بالحكومة الشيوعية في ألبانيا، ويُسمى “العملية الثمينة” (Operation Valuable).

“كيم فيلبي” هو أبرز أعضاء حلقة كامبريدج

كما أن تجنيده حدث في بداية مساره الجامعي، فقد استطاع أن يُخفي ولاءه السوفياتي زمنا طويلا، وتسلل إلى أعلى مستويات أجهزة الاستخبارات البريطانية. وقد نقل معلومات حساسة جدا إلى السوفيات، حول الأنشطة الاستخباراتية البريطانية والأمريكية، ولا سيما في زمن الحرب الباردة، قبل أن يُكشف أمره في السبعينيات، ويفرّ هاربا إلى موسكو، ويقضي ما بقي من حياته في صقيع تلك المدينة الباردة.

“دونالد ماكلاين”.. كاشف أسرار العلاقات مع الأمريكيين

يحلّ في المرتبة الثانية من حيث الخطورة “دونالد ماكلاين”، بسبب موقعه السياسي الحساس، فقد عمل في السفارة البريطانية سكرتيرا ثالثا في باريس، ثم عُيّن سكرتيرا أول بالقنصلية البريطانية في واشنطن، في وقت حرج وخطير بين عامي 1944-1948، وكان حينئذ مطلعا على جزء كبير من المعلومات السرية للغاية، التي تتعلق بتطوير الأسلحة الذرية في الولايات المتحدة، ولم يتوانَ في إرسال التفاصيل كافة إلى أجهزة الاستخبارات الروسية.

الجاسوس “دونالد ماكلاين”، الذي عمل في السفارة البريطانية سكرتيرا ثالثا في باريس

وبعدها انتقل للعمل في القنصلية البريطانية في القاهرة بمنصب “رئيس الديوان”، وحينها بدأت تصيبه نوبات غضب شديدة، وبدت عليه تصرفات غريبة ناتجة عن ازدياد علاقته بالاتحاد السوفياتي، وخوفه من كشفها.

ثم عاد أدراجه إلى بريطانيا، فعمل في “المكتب الأمريكي”، وقد أطلع الروس على التقارب بين البريطانيين والأمريكيين بشكل مستمر، بما في ذلك اللقاء الذي جرى بين رئيس الوزراء “كليمنت أتلي”، والرئيس “هاري ترومان”، ونتج عنه تأسيس حزب شمال الأطلسي “الناتو”.

لكن لم يمض وقت كثير حتى أحس بأن أمره سيُكشف، فلاذ بالفرار من لندن إلى موسكو تحت جنح الظلام عام 1951، مع صديقه الجاسوس الآخر “غاي بورغيس”. ولم يعلم أحد بمكانهما حتى كُشف أمرهما عام 1956، عندما أعلنوا انشقاقهم وانضمامهم إلى الاتحاد السوفياتي.2

“غاي بورغيس”.. إعلامي تغلغل في عالم الساسة

ليس حال “غاي بورغيس” إلا كحال بقية زملائه، فقد انخرط في عالم التجسس قبل أن يتخرج من كامبريدج، ثم بدأ مسيرته العملية مساعد برامج في هيئة الإذاعة البريطانية “بي بي سي”، فأشرف على إنتاج كثير من الحوارات والبرامج.

ومع اقتراب نذر الحرب، انضم إلى جهاز الاستخبارات البريطاني بصفة خبير دعاية، ثم عاد إلى “بي بي سي”، وأصبح المنتج الرئيس لبرنامج “أسبوع في وستمنستر”، وهو البرنامج الرائد في تغطية أنشطة البرلمان البريطاني، فأتاح له ذلك توطيد علاقاته بشخصيات سياسية بارزة.

ثم عاد ليعمل مع الحكومة في قسم الأخبار بوزارة الخارجية، وهو منصب أتاح له الوصول إلى اتصالات الوزارة ومراسلاتها السرية. ومع تولي حكومة العمال الحكم في العام التالي، أصبح “بورغيس” مساعدا لوزير الدولة للشؤون الخارجية، فاستغل منصبه لتمرير وثائق شديدة السرية إلى جهاز الاستخبارات السوفياتي بانتظام، وكان يهرّبها ليلا فيصورها ضابطه المسؤول عنه، ثم يُعيدها إلى مكتب الوزير صباحا.

انخرط “غاي بورغيس” في عالم التجسس قبل أن يتخرج من كامبريدج

لاحقا، عمل “بورغيس” في قسم الشرق الأقصى بوزارة الخارجية، ثم في السفارة البريطانية في واشنطن. وخلال مفاوضات “خطة مارشال” الاقتصادية التي أطلقتها الولايات المتحدة عام 1947، بهدف إعادة إعمار أوروبا الغربية التي دمرتها الحرب، ومنع انتشار الشيوعية في دولها المنهكة، زوّد “بورغيس” وزميله “دونالد ماكلاين” السوفيات بمعلومات حساسة عن سير المفاوضات وتداعيات الاتفاقات.

وفي عام 1951، هربا إلى موسكو بعد أن بدأت الشبهات تحوم حول “ماكلين” بتهمة التجسس، مع أن “بورغيس” نفسه لم يكن موضع شك في ذلك الحين. وقد رتب هروبهما ضباط روس، ولا يعلم أحد هل تلقى “بورغيس” وعودا بالعودة إلى وطنه لاحقا، أم أنه وقع في فخ التضليل، لمنعه من تسريب أي معلومات إلى البريطانيين إذا قبضوا عليه.

أمضى “بورغيس” معظم وقته لاحقا في الاتحاد السوفياتي في مصحات خاصة على شاطئ البحر الأسود، وساءت حالته لقلة اندماجه مع النمط المعيشي الجديد، ولم يتعلم الروسية قط. وقد وصفه زميله وأستاذه الجامعي “أنتوني بلانت” في مذكراته التي نشرت عام 2009، بأنه تميّز عن غيره بقدرته الاستثنائية على الإقناع.3

“أنتوني بلانت”.. فارس كان يجنّد شبكات التجسس

كان “أنتوني بلانت” أستاذا ومحاضرا في جامعة كامبريدج، وكانت صلته بالحركة الشيوعية يومئذ من العوامل التي أسهمت في تجنيد السوفيات له، ومع أنه لم يشغل مناصب استخباراتية بارزة مثل “كيم فيلبي” أو “دونالد ماكلاين”، فإنه أدى دورا حيويا في التمويل وتقديم الدعم الفكري لأعضاء الشبكة، بل إنه جنّد ثلاثة من أعضاء الشبكة نفسها، وكان له تأثير كبير في جمع المعلومات التي خدم بها السوفيات.

الجاسوس “أنتوني بلانت” كان أستاذا ومحاضرا في جامعة كامبريدج

بعد أن استقال من الجامعة، توجه للعمل في عدة مؤسسات أخرى، ثم انتهى به المطاف اسما مرموقا في تدريس تاريخ الفن. وبعد الحرب العالمية الثانية، عمل مديرا لـ”معهد كورتولد” ومسّاحا لصور الملكة، وهو دور رفيع يُعنى بالإشراف على المجموعة الفنية الملكية.​

وفي عام 1956 كُرّم بلقب الفروسية، وهو من أعرق الألقاب التكريمية في المملكة المتحدة، ويمنحه عادة الملك أو الملكة، تكريما لأفراد قدموا إسهامات مميزة في عدة مجالات، مثل الفن والعلوم والسياسة والعمل الإنساني والخدمة العامة.

ولكن في عام 1963، كانت الحكومة البريطانية تعمل على فك شبكة التجسس، فاستطاعت الوصول إلى سجلّه الاستخباراتي، وعرضت عليه الحصانة على أن يقدّم لها كافة المعلومات، وفي عام 1979، كُشف خبره إلى العلن، فأُجبرت السلطات على تجريده من لقب الفروسية.4

“جون كيرنكروس”.. عميل من خلف الجدران السرية

كان “جون كيرنكروس” آخر الأعضاء المجندين المعروفين في حلقة كامبريدج، وكان يعمل في القطاع الدبلوماسي بوزارة الخارجية البريطانية، ثم انضم أثناء الحرب العالمية الثانية إلى صفوف القوات المسلحة البريطانية، وعمل مترجما للغة الألمانية في مركز فك الشيفرات الشهير “بليتشلي بارك”، ثم انخرط في مشروع “ألترا”، وأسهم في فك الشيفرات العسكرية الألمانية لصالح الجيش وأجهزة الاستخبارات البريطانية.

وبينما كان يعمل خلف الجدران السرية، يُقال إنه نقل معلومات مشفّرة إلى السوفيات، أبرزها تحذير مبكر عن تحركات الجيش الألماني على الجبهة الشرقية، مما مكّنهم الجيش السوفياتي من الاستعداد للهجوم في معركة كورسك الشهيرة عام 1943، وهي من أضخم معارك المدرعات في التاريخ. واعترافا بهذا الإسهام الحاسم، منحته السلطات السوفياتية وسام “راية النصر الحمراء”، وهو من أرفع الأوسمة العسكرية لديهم.

“جون كيرنكروس” هو آخر الأعضاء المجندين في حلقة كامبريدج

بعد فرار “بورغس” و”ماكلين” إلى موسكو عام 1951 هربا من التحقيقات، وُجدت في منزل “بورغس” ملاحظات مكتوبة بخط اليد تدل على علاقة “كيرنكروس” بعمليات التجسس، فاستُدعي للاستجواب، فأنكر كونه جاسوسا للسوفيات، لكنه وافق على الاستقالة من منصبه في الخدمة المدنية، وبعدها انتقل إلى الولايات المتحدة، وكرّس حياته للبحث الأكاديمي في الأدب، فدرّس في جامعتي “نورث وسترن” و”كيس وسترن ريزيرف”.

لكن شبح الشك لم يفارقه، فبعد انكشاف أمر “كيم فيلبي” وهروبه إلى الاتحاد السوفييتي عام 1964، أعيد التحقيق مع “كيرنكروس”، وأقرّ بأنه عمل لصالح الاستخبارات السوفياتية، لكن اعترافه جاء مشروطا بتقديم معلومات عن عملاء سوفيات آخرين، مما مكّنه من الإفلات من المحاكمة.

وفي التسعينيات، كُشفت رسميا هويته بصفته “الرجل الخامس” في شبكة التجسس المرتبطة بكامبريدج. وبعد انكشاف هويته عاد إلى بريطانيا، وبدأ كتابة مذكراته التي نُشرت بعد وفاته بعنوان “جاسوس إنيغما” (1997).5

رسم لمعركة كورسك الشهيرة عام 1943

لقد شكل هؤلاء الجواسيس الخمسة صدمة كبيرة للغرب عندما كُشف أمرهم في الخمسينيات والستينيات، فقد تبين أن هؤلاء الأفراد، الذين كان لديهم منصات مرموقة في السياسة والاستخبارات البريطانية، قد زُرعوا في النظام البريطاني ليخدموا مصالح الاتحاد السوفياتي.

كانت المعلومات التي سربوها حيوية، وأسهمت في تعزيز موقف السوفيات في سباق التسلح النووي، وأثرت تأثيرا كبيرا على سياسات الأمن الغربي. وكانت آثار هذه الخيانة عميقة على مستوى أجهزة الاستخبارات البريطانية والأمريكية، فتطلب ذلك تغييرات جذرية في سياسات الأمن والاستخبارات، لكشف هذا التهديد الداخلي ومواجهته.

كشف الخلية.. تساقط هرمي بالتدريج

لم تنطلق شرارة الكشف عن هذه الشبكة الخطيرة من لندن، بل من واشنطن، ذلك عندما أطلقت وكالة الأمن القومي الأمريكية مشروعا بالغ السرية، عُرف باسم “برنامج فينونا” (Venona Project) عام 1943، هدفه فك الرسائل السوفياتية المشفرة.

تكلل هذا المشروع بعد سنوات من العمل المضني بالنجاح، واستطاع المحللون الأميركيون تتبع رسائل تشير إلى وجود عميل بريطاني يعمل في السفارة البريطانية بواشنطن، واسمه الرمزي “هومر”.

“لا يوجد سرّ إلا ويكشفه الوقت”

المسرحي الفرنسي جان راسين

ومع تدقيق التحليلات، بدأت الشبهات تحوم حول الدبلوماسي البريطاني “دونالد ماكلاين”، وكان يشارك في مفاوضات “خطة مارشال”، وله صلاحيات الاطلاع على أسرار خطيرة. وحين بدأت التحقيقات تقترب منه سارع إلى تهريبه رفيقه “بورغس”، وكان يومئذ من كبار موظفي الاستخبارات البريطانية، ففرا معا إلى موسكو في صيف عام 1951، وتلك واقعة أربكت الجهاز الأمني البريطاني، وهزّت ثقة الغرب في منظومة حلفائه.

لم يكن “بورغس” ضمن دائرة الاشتباه، فكان فراره أكثر إثارة للدهشة، وأدى فورا إلى تحوّل الأنظار نحو رجل ثالث أكثر دهاء ومكرا، ألا وهو “كيم فيلبي”، وكان أحد أرفع ضباط المخابرات البريطانية، ومشرفا سابقا على وحدة مكافحة التجسس السوفياتي.

خضع “فيلبي” لتحقيق داخلي بنفس العام، لكنه استطاع الإفلات من التهم لبلاغته وقدرته على التلاعب بالوقائع، بل إنه عقد مؤتمرا صحفيا مصوّرا أعلن فيه براءته، ونال بعدها التبرئة رسميا.

لكن الشكوك لم تفارقه، وظل تحت المراقبة حتى أتيحت له الفرصة عام 1963، فهرب إلى موسكو في عملية مدهشة، أكدت أنه كان العقل المدبّر والمصدر الأعظم للمعلومات طوال تلك السنوات.

ومع تزايد التحقيقات، بدأت الأدلة تتراكم ضد موظف آخر أكثر خفاء، ألا وهو “كيرنكروس”، فبعد فرار “بورغس” و”ماكلين”، وجدت الاستخبارات البريطانية ملاحظات بخط يد “بورغس” تشير إلى علاقة مع “كيرنكروس”، فاستُدعي للتحقيق.

ومع أنه أنكر في التحقيق جاسوسيته، فإن الحقيقة لم تلبث أن ظهرت، فبعد هروب “فيلبي” عام 1964، أعيد استجواب “كيرنكروس”، فاعترف أنه كان على اتصال بالمخابرات السوفياتية، وأنه سرّب لهم وثائق مهمة، منها تفاصيل تتعلق بتقدّم البرنامج النووي الأمريكي البريطاني، وخطط إنشاء حلف شمال الأطلسي. وبفضل تعاونه الكامل، اختارت السلطات التجاوز عن محاكمته، وأبقت القضية طي الكتمان.

“أصدقائي الخمسة من كامبريدج”

بعد انهيار الاتحاد السوفياتي، بدأت أسرار الماضي تتسرّب من أرشيفات موسكو، وكان أبرزها ما كتبه الضابط السوفياتي “يوري مودين”، وكان مشرفا مباشرا على شبكة كامبريدج. ففي مذكراته “أصدقائي الخمسة من كامبريدج”، كشف هوية عناصر الشبكة الأساسية، مؤكّدا أن “كيرنكروس” كان الرجل الخامس، ومعه “كيم فيلبي” و”دونالد ماكلاين” و”غاي بورغس”، و”أنتوني بلنت”، مؤرخ القصر الملكي البريطاني.

“جاسوس إنيغما” (1997) مذكرات “كيرنكروس”

لم تكن صدمة اكتشاف “حلقة كامبريدج” فضيحة تجسس فحسب، بل زلزالا هزّ النخبة البريطانية برمتها، فقد تبين أن من كانوا يعدون حماة الدولة وعقولها المثقفة هم أنفسهم من باعوها لأعدائها.

ولم يكن التأثير داخليا فحسب، بل ألقى الحادث بظلاله الثقيلة على العلاقات البريطانية الأمريكية، لا سيما في مجال الاستخبارات، فباتت واشنطن أكثر حذرا في مشاركة أسرارها النووية مع لندن. كما اضطرّت الحكومة البريطانية إلى إعادة هيكلة أجهزتها الأمنية، وتحديث آليات التحقيق والتدقيق في دوائرها.

وهكذا، انكشفت إحدى أخطر شبكات التجسس في التاريخ الحديث، وبقيت “حلقة كامبريدج” مثالا صارخا على أن القناعة الفكرية حين تتسلل إلى عقول النخبة تصبح قادرة على تغيير مسارات الدول، وقلب موازين الحروب، من غير حاجة إلى إطلاق رصاصة واحدة.

 

المصادر:

[1] محررو الموقع (التاريخ غير معروف). كلاوس فوكس. الاسترداد من: https://ahf.nuclearmuseum.org/ahf/profile/klaus-fuchs/

[2] محررو الموقع (2023). من هو دونالد ماكلين وماذا فعل؟. الاسترداد من: https://www.discoveryuk.com/mysteries/who-was-donald-maclean-and-what-did-he-do/

[3] محررو الموقع (التاريخ غير معروف). غاي بورغيس. الاسترداد من: https://timenote.info/lv/person/view?id=2732282&l=en

[4] محررو الموقع (التاريخ غير معروف). جواسيس كامبيردج. الاسترداد من: https://www.bbc.co.uk/history/historic_figures/spies_cambridge.shtml

[5] محررو الموقع (التاريخ غير معروف). جون كيرنكروس. الاسترداد من: https://ahf.nuclearmuseum.org/ahf/profile/john-cairncross/

المحتوى المرئي:


إعلان