السينما الموريتانية.. تاريخ من الانتكاسات والانتصارات الفردية في مجتمع محافظ

وصلت السينما الموريتانية إلى مهرجان كان، وهي تعرض اليوم في منصة “نتفليكس”، لكن من الغريب جمعها بين المتناقضات، فهي من جهة وصلت إلى الأوسكار، وتوجت بجائزة “سيزار”، وحضرت في أكبر المهرجانات الدولية، ومن جهة أخرى تغيب عن قاعات العرض، وينعدم دعم الدولة لها.

فالوضعية لم تساعد المنتمين للقطاع على تطوير الرؤى، وزيادة عدد الأفلام، ورفع سقف طموحاتهم، في حين يريد هؤلاء أن لا ينتهي حديث الناس عن السينما بمجرد انقضاء عمر مهرجاناتها على قلتها. ويحدث أيضا أن يتعارض أصحاب القرار عندما يشجعون المخرج العالمي الموريتاني “عبد الرحمن سيساكو”، ويحيطونه باهتمام يليق باسمه ومنجزه، ثم لا يلتفون حول مطالب سينمائييهم الرواد منهم أو الشباب.

كما أن نواكشوط -التي اختيرت سنة 2023 عاصمةً للثقافة الإسلامية- تخلو منذ سنوات من صالات السينما، وكانت فيها في الثمانينيات 12 قاعة أو أكثر، أما اليوم فيجد جمهورها نفسه أمام شاشة يتيمة على الأرجح، والأصح أنه يشاهد الأفلام في الساحات والفضاءات المفتوحة. جمهور يشعرك أحيانا بأنه مقبل على تلك القصص المصورة ومتقبل لها، ومرات يجعلك تظن أنه لا يزال يحذر ويخشى السينما التي كان يسميها بـ”الجن” أو “العفريت”.

همام افّال.. ملك السينما الموريتانية ورائدها الأول

بدأت علاقة الفرد الموريتاني تتشكل مع عوالم السينما في خمسينيات القرن الماضي، عندما كان المستعمر الفرنسي يجوب المدن والبوادي بقوافله السينمائية ويعرض مجموعة من الأفلام على سكانها، وقتها لم يجد الموريتانيون تفسيرا لتلك الشاشات الساحرة.

في البداية لم تكن هناك إنتاجات موريتانية خالصة، فاكتفى الإخوة “غوميز” بعرض أفلام أجنبية في القاعة الوحيدة الموجودة في نواكشوط، ثم اشتراها منهم رجل الأعمال الموريتاني والسينمائي همام افال، ويدعمها بقاعات جديدة، منها دار المنى عام 1966، ودار الجواد ودار السعادة.

عبد الرحمن سيساكو

أتم “ملك السينما الموريتانية” -كما يسمونه- مشروعه السينمائي الذي كان متنفسا للموريتانيين بإنتاج مجموعة من الأفلام الوثائقية، منها “ترجيت” و”ميمونة” و”بدوي في الحضر”، بمساعدة محمد ولد السالك، وهو أول من تخصص في التصوير السينمائي بالبلد، وفي مرحلة السبعينيات والثمانينيات انبثق عدد مهم من السينمائيين، وحظي القطاع بدعم السلطة، لكن رياح الأزمات والمتغيرات عصفت بالحلم الموريتاني، وأخرجت السينما من قائمة أولوياتها.

فغياب الدعم والمرافقة، وخروج القاعات عن الخدمة خلق أزمة جديدة، لا تقوى موريتانيا على إيجاد حلول لها إلى غاية يومنا هذا، فتوكأت السينما في هذا البلد على المحاولات الفردية، وهي تستحضر في موضوعاتها -التي تبقى مرهونة بالإنجازات والإمكانيات- مشاكل وأفكار المجتمع والقارة، مثل الهجرة والاستغلال والتمييز العنصري والتطرف والزواج القسري وغير ذلك.

دار السينما.. تجربة تنفض الغبار عن صناعة كاسدة

لم تحظ السينما الموريتانية خلال سنوات بالدعم المطلوب من طرف الدولة، فدفع ذلك بروادها للتفكير في حلول بديلة ولو كانت مؤقتة، كان أحدها دار السينمائيين الموريتانيين التي حملت على عاتقها ما يصعب على وزارة الثقافة في أي بلد تحمله، ثم اختفت من الوجود وأصبحت من الماضي.

منذ تأسيسها سنة 2002 على يد المخرج عبد الرحمن أحمد سالم، تكفلت دار السينما بتكوين المنتسبين إليها في كتابة السيناريو والإخراج والتصوير والمونتاج، بعدما خلقت لديهم وعيا بأهمية الصورة، كما سعت لنشر ثقافة سينمائية في بلد تمر سينماه بحالات اضطراب وعدم استقرار.

عبد الرحمن أحمد سالم مؤسس دار السينمائيين الموريتانيين

وذهبت إلى أبعد من ذلك عندما سايرت الأحلام ورافقت الطموح، وأطلقت مشاريع مهرجانات سينمائية تُكمل المشهد وتُثمن ذلك الحراك، منها الأسبوع الوطني للفيلم، ومهرجان سماحة، ومهرجان كرامة لحقوق الإنسان في نسخته الموريتانية، وأيام السينما اليابانية، والمهرجان الدولي للفيلم القصير، وعندما توقف هذا المهرجان وُلد مشروع أكبر بحجم مهرجان نواكشوط السينمائي الدولي، وبه استرجعت موريتانيا أنفاسها، وعادت الحياة لصناع الفرجة الذين يعملون عمل الفرد الواحد، وعادت الروح في ساكنتها الذين اعتادوا المشهد.

في بعض الحالات، كان اختفاء بعض الفعاليات لا يمكن تصنيفه تعثرا بقدر ما ينبغي النظر إليه على أنه محاولة للصمود والبقاء، وبدل الاستسلام للظروف أو لواقع مرتبك نتيجة عدم تجاوب الدولة مع متطلبات سينمائييها، وعدم تشجيعها لمجهوداتهم، كان شرف المحاولة هنا يكفي بالنظر للحيز والاهتمام الذي تحظى به السينما وباقي الفنون عند الأفراد وأصحاب القرار.

الفنان سالم دندو

وتوحي لك اليوم البيئة الثقافية في بلد المليون شاعر، بأن دار السينمائيين الموريتانيين صالحت -إلى حد معين- بين السينما وبعض من ساكنتها، وذلك بسبب تجربة ومجهودات المؤسس العارف بخصوصيات مجتمعه عبد الرحمن أحمد سالم، الذي رفض الاستقرار بأوروبا، وفضّل العودة إلى الديار بعد تكوين تلقاه بالمدرسة الدولية للسمعيات البصرية والإخراج في باريس، وأتم ذلك بعمله مساعدا للعالمي عبد الرحمن سيساكو بفيلم “في انتظار السعادة”.

وهناك إنتاجات أجنبية أخرى صُورت بموريتانيا، ثم وجدت من يكملها، فيبدو أن الجيل الجديد ورث روح المبادرة عن السينمائيين الرواد الذين سبقوهم إلى هذا المجال، فقد قرر مجموعة من الشباب سنة 2019 تأسيس أول اتحاد سينمائي، استنادا على تجاربهم السابقة التي أهلتهم لطرح الفكرة والدفاع عنها، حتى لا تكون السينما مناسبة موسمية تبدأ بميعاد وتنتهي بانقضاء أجله، ففكرة الاتحاد تقوم أساسا على تنظيم عروض ونشاطات سينمائية طيلة السنة في المدن الكبرى.

الجيل الذهبي.. أفلام تحمل الرسالة وتحصد الجوائز

هناك تباين كبير في الأفكار والتنفيذ نلاحظه عندما نشاهد أفلاما موريتانية أنجزها سينمائيون من الداخل أو المهجر، كالفرق بين العصامي في تكوينه، وبين الذي تلقى تكوينا أكاديميا في معاهد فرنسا أو روسيا أو ألمانيا أو أمريكا، مثل عبد الرحمن سيساكو، ومحمد ولد السالك، ومحمد هندو.

المخرج الموريتاني محمد هندو

أما محمد هندو فقد درس السينما بنفسه، وأنجز أفلاما عدة تعد اليوم مرجعا في تاريخ سينما البلد، وقد ترجمت تلك الأعمال معاناته بوصفه أفريقيا في مجتمعات عنصرية، كفيلم “جولة في المنابع” (1967)، وفيلم “أيتها الشمس” (1969)، ويربط فيه العبودية بالاستعمار، وفيلم “العرب والزنوج أو جيرانكم” (1973).

كما كان للمخرج “سيدني سوخنا” إسهام في هذا المسار فأخرج أفلاما مهمة أيضا، نذكر منها “الجنسيات المهاجرة” (1975) المتوج بجائزة لجنة التحكيم في “فيسباكو” سنة 1977، و”سافرانا” عام 1978.

وكان قدر سينما موريتانيا أن تتوارث بين الأجيال حتى تظل، فالأسماء السالفة الذكر بالإضافة إلى عبد الرحمن سيساكو وسالم دندو وعبد الرحمن أحمد سالم، تبعها ميلاد جيل آخر يمثله محمد ولد إدومُ، ولالة كابر، وسيدي محمد الشيقر، ومي مصطفى، وآخرون.

عبد الرحمن سيساكو.. سفير موريتانيا الناطق بهموم أفريقيا

يعد عبد الرحمن سيساكو -الذي ترعرع بين موريتانيا ومالي- من أكثر السينمائيين المدافعين عن هويته الأفريقية، فهو رجل تسكنه أفريقيا وتشغله قضاياها، وتنبعث من أفلامه جملة من الأفكار والمواقف التي تمثله وتعبر عنه، مواقفه اتجاه مسائل تجدها بين المَشاهد، كالمعاني التي تقرأ ما بين السطور، يدعو في جل أعماله إلى ضرورة انفتاح الآخر على القارة التي ينتمي إليها، ويحب جدا أن تدافع السينما الأفريقية عن نفسها بطريقتها وبأبنائها.

لم يكن سيساكو يخطط لأن يصبح في يوم من الأيام مخرجا، ولكنه أضحى من أبرز مخرجي القارة، ومن أهم السينمائيين في العالم، وكانت أولى تجاربه عبارة عن مشروع تخرج قدمه سنة 1989 بعنوان “اللعبة”، وقد تُوج بمهرجان “كان” السينمائي، ثم أتبع “اللعبة” بإنتاج ثان سنة 1993 هو فيلم “أكتوبر”، ثم أخرج “الحياة على الأرض” (1998)، و”في انتظار السعادة” (2002)، و”باماكو” (2006)، وصولا إلى “تمبكتو” (2014)، ثم “شاي أسود” (2023).

يعود عبد الرحمن سيساكو بعد عشر سنوات من فيلم “تمبكتو”، ليقارب في عمله “شاي أسود” بين الثقافتين الأفريقية والآسيوية، وهي قصة استوحاها بداية الألفين من مشهد رومانسي في فيلمه “في انتظار السعادة”، وهو يحرص على أن لا يغيب عن أفلامه البُعد السياسي، وإن كان ظاهر الموضوع إنسانيا اجتماعيا، يبحث دوما في علاقة الفرد الأفريقي بالعالم.

فهو مثلا، يجمع في فيلمه “في انتظار السعادة” بين شاب صيني وفتاة أفريقية في قصة حب، وهي قصة صامدة في وجه كل المشاكل التي تواجهها، ما دامت قائمة على الاحترام والتوافق.

وبعد أكثر من عشرين سنة، يقارب مرة ثانية بفيلم “شاي أسود” بين رجل صيني وفتاة أفريقية من ساحل العاج، ويحاول أن يقدم طرحا فلسفيا، ويسعى أن يلاقي بين الذين نظنهم مختلفين في الملامح والثقافة، ولكنهم ليسوا كذلك.

لا يشكل هذا الطرح خوفا أو تخوفا لدى سيساكو، فقد تحدى الظروف الأمنية المضطربة وصوّر فيلم “تمبكتو”، كما أنه لا يخشى الجدل، فقد واجه كل الانتقادات التي طالته في “باماكو”، الذي عبر من خلاله عن موقفه من استغلال البعض -صندوق النقد الدولي- للدول الفقيرة، وتفقيرها أكثر من خلال القروض.

المخرج عبد الرحمن سيساكو والمعلومة منت الميداح في افتتاح مهرجان نواكشوط السينمائي الدولي

موريتانيا التي أنجبت عبد الرحمن سيساكو، مثّلت بأفلامه أفريقيا والعرب في أكثر من مناسبة، حينما اكتسح فيلمه “تمبكتو” جوائز “سيزار” الفرنسية سنة 2015، ونال 7 جوائز منها جائزة أفضل مخرج، كما شارك بالعمل نفسه في مهرجان كان السينمائي في دورته الـ67، وعُين سنة بعدها رئيسا للجنة تحكيم فئة “سيني فونديشن” والأفلام القصيرة، وكرمته أكاديمية الفنون ببرلين بجائزة “كونراد فولف” عن مجمل أعماله عام 2021.

وفي السنة نفسها عينه الرئيس الحالي محمد ولد الشيخ الغزواني في عهدته الأولى سفيرا ثقافيا متنقلا للبلاد، فهو لم يتخلف عنها يوما، ويزورها بمناسبة وبغيرها، ويتردد عليها باستمرار، وكان ولا يزال من أكبر الداعمين لأي مبادرة من شأنها الارتقاء بسينما موطنه الأصلي، يأخذ بيد من يرى فيهم الخلَف، مثل المخرج الشاب سيدي محمد الشيقر الذي جعله مساعده في فيلمه الجديد “شاي أسود”، فهو مخرج ذو مؤهلات وأفكار وقدرات هائلة، لا يعقل أن يحرم من فرصته في التعبير عن أفكاره.

“المستتر”.. فيلم يعرض على “نتفليكس” والقادة الأفارقة

كان فيلم “المستتر” للمخرج محمد ولد اشكونه أول فيلم موريتاني يعرض على شبكة “نتفليكس” العالمية نهاية مارس/ آذار 2023، وقد أُنتج بالشراكة مع منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلم والثقافة (اليونسكو)، وقصته مستوحاة من الأساطير والحكايات الشعبية التي لا تزال متداولة في كثير من المجتمعات، لا سيما الأفريقية.

وقد تفاعل رواد مواقع التواصل الاجتماعي وجمهور نواكشوط مع مضمون وطرح الفيلم، حين عُرض في إطار المنافسة الرسمية للمهرجان الدولي للسينما، فكان تجربة جديدة تضاف إلى نتاج موريتانيا السينمائي. ويبدو أن هذه المحاولات التي تتبناها طاقات موريتانية تمثيلا وإنتاجا وإخراجا بدأت اليوم تشد النظر أكثر، وهو أمر قد يغير الواقع لوضع أحسن في قادم السنوات.

فيلم شاي أسود لعبد الرحمن سيساكو

وعلى خطى المخرج عبد الرحمن سيساكو الذي درس السينما في معهد “غيراسيموف” بموسكو، اختار محمد ولد اشكونه أيضا دراسة السينما في الخارج، وكان قرارا صائبا إلى حد كبير، فقد استفاد من تكوين سينمائي لمدة سنتين بجنوب أفريقيا، ثم انتقل إلى الولايات المتحدة الأمريكية وتكوّن هناك، وعمل في مجال المؤثرات البصرية بهوليود.

هذا وقد عرض الرئيس الأمريكي الحالي “جو بايدن” فيلم “المستتر” على القادة الأفارقة المشاركين في القمة الأمريكية الأفريقية ديسمبر/ كانون الأول 2022.

ولا يكتفي سينمائيو الداخل أو الخارج بتمثيل بلدهم أو سينماهم في المهرجانات الدولية التي تقام خارج إقليم الدولة، بل تجد سعيهم قائما للترويج والبحث عن آفاق تعاون مشترك، وقد تجسد لهم ذلك في الجزائر بمهرجان وهران للفيلم العربي سنة 2010، الذي شهد ميلاد فكرة فيلم “أزهار تويليت” للمخرج التونسي وسيم القربي، وقد اعتمد فيه على خيرة الممثلين الموريتانيين، يتقدمهم سالم دندو.

وقد شكل هذا العمل دعوة صريحة لمهنيي قطاع السينما في العالم والمنطقة العربية لتصوير أفلامهم بموريتانيا، في بيئة ذات ديكور مساعد وإضاءة طبيعية يضيف انعكاسها الكثير للصورة. وهو فيلم مدته 13 دقيقة يغيب فيه الحوار، لكنه يستنطق الصورة وتعابير الوجه والجسد، ويرفق تلك الشاعرية بغناء محلي، وموسيقى تصويرية تجعلك تندمج مع القصة، وتنغمس أكثر في تفاصيل المكان.

مهرجان نواكشوط السينمائي الدولي

شهدت العاصمة الموريتانية سنة 2023 ميلاد الدورة الأولى لمهرجان نواكشوط السينمائي الدولي، وهو لم يُؤسَس فقط لاستحداث مهرجان سينمائي أو تقديم عروض أفلام، بل كانت الغاية منه ضمان تكوين جيد للسينمائيين الهواة والمحترفين، في ورشات توزعت على جميع مقاطعات نواكشوط، وأفرزت في الختام إنتاج قصص مصورة شارك بها أصحابها في مسابقة أفلام الورشات.

كما استطاع المستفيدون من ورشة سينما الهاتف معرفة مراحل إنجاز فيلم باستعمال الهاتف النقال، بداية من إعداد الفكرة وكتابة السيناريو، إلى التصوير والتركيب. وهي خطوة يراد منها مواكبة التطور التكنولوجي السريع، وتمكين الشباب من صنع أفلام بما أتيح لهم من إمكانيات. ويأتي هذا الميلاد أو يتزامن مع اختيار نواكشوط عاصمة للثقافة في العالم الإسلامي.

ملصق الدورة الثانية لمهرجان نواكشوط السينمائي الدولي

ولا يزال تركيز رهان اللجنة المنظمة لمهرجان نواكشوط السينمائي الدولي على الجانب التكويني، وذلك في الدورة الثانية المزمع تنظيمها ما بين 15-19 أكتوبر/ تشرين الأول 2024، فقد توسعت الورشات نحو الشمال، لتمتد إلى العاصمة الاقتصادية نواذيبو، ومدينة الزويرات وأطار، على أن تدخل أفلامهم المنافسة الرسمية في ثاني دورة من الفعالية، وستتاح لهم فرصة الاحتكاك بمهنيي السينما من داخل وخارج البلد، في إطار المهرجان الذي يعمل وفق إستراتيجية مسبقة لضمان الاستمرار.

ولا يقترب المهرجان من مختلف الأجيال السينمائية في موريتانيا فقط، بل يلامس صناع القرار ويجعلهم شركاء في الحدث، مثل جهة نواكشوط (أي المجلس البلدي)، ووزارة الثقافة والفنون، وبعض المؤسسات العمومية والخاصة التي تسعى لدعمه وضمان استقراره، ليكون له مصير أفضل من مهرجانات بدأت تجد طريقا جيدا، ثم تعثرت واختفت عن المشهد.

جدير بالذكر أن جدية اللجنة المنظمة في جعل المهرجان حدثا سينمائيا بارزا في البلد، تظهر أيضا في نوعية الأفلام والأسماء المشاركة، فقد تميزت أول دورة باستقدام المخرج الموريتاني العالمي عبد الرحمن سيساكو رئيسا للجنة تحكيم الأفلام الطويلة، إلى جانب المخرج السينغالي “موسى توري”، وعدد من السينمائيين من داخل وخارج موريتانيا.

ويعول فريق المهرجان ومديره محمد المصطفى البان على برنامج مهم لثاني دورة، ستحضر فيها السينما الفلسطينية بقوة، من خلال أفلام “المسافة الصفر” التي أنجزت من داخل قطاع غزة، خلال الحرب الحالية المستمرة.

لالة كابر.. مخرجة جريئة واجهت الخوف وسطوة المجتمع

لا يستقيم مسار السينما في موريتانيا إلا بالحديث عما قدمته نسائها، فلم يكن هينا على سينمائيات موريتانيا الحضور في مجال ظل سنوات كثيرة حكرا على الرجال، وقد قوبلن في البدء بالرفض، ثم خضع لهن المجتمع المحافظ الذي يخضع لسلطة القبيلة، ويحتكم للعرف والتقليد لهذا الواقع.

لم يرحب المجتمع بالأمر، ولكنه مع الوقت تقبل حضور المرأة موضوعا وعنصرا فعالا في السينما وفي باقي القطاعات والفنون، وقد تعزز موقع ومكانة نساء موريتانيا بفضل نضالهن المستمر، والمكاسب التي حققنها، بإصرارهن على إخراج قصصهن من الفكر إلى الشاشات، وهي تجارب مرت بمخاض عسير، بدأت بالرفض وانتهت بالتقبل.

عبد الرحمن سيساكو ومساعداه عبد الرحمن أحمد سالم ومحمد سيدي الشيقر

مثال ذلك فيلم “مشاعر أخرى” الذي أنتجته دار السينمائيين الموريتانيين سنة 2010، فقد استُقبل بالاعتراض والرفض والتهديد، بسبب الأحكام المسبقة التي صدرت بحقه قبل مشاهدة الجمهور لمضمونه.

تقول مخرجة الفيلم لالة كابر: وصلتني تهديدات قبل عرض الفيلم في حال تضمن مشاهد مخلة بالآداب. وحتى عائلتي التي كانت تساندني قالت إنه سيكون آخر عمل لي في السينما. وقد عرضت علي بعض السفارات حق اللجوء مع توفير الحماية الكاملة، ولكني كنت ولا أزال متمسكة بحقي وشغفي، فتحسين صورة ووضعية المرأة التزام بالنسبة لي.

تلك الجرأة التي لازمت لالة كابر في أفلامها، ودفاعها المستمر عن قضايا ظلت في خانة المسكوت عنها، تضاف إليها معارك خاضتها سينمائيات أخريات، لا يزال سعيهن قائما لتغيير الأوضاع، من غير المساس بخصوصيات المجتمع الذي ينتمين إليه، مثل السالمة بنت الشيخ الولي، ومريم بنت بيروك، ومي مصطفى خريجة المعهد العالي للسينما بالقاهرة، مع مراعاتهن لحدود المسموح والممنوع الذي يتباين من مجتمع لآخر.

“لحظة صمت”.. فيلم أخرج طائفة الصم من عزلتها

يرتكز الحديث عن السينما الموريتانية على خصوصياتها، ويقوم على المكاسب التي تحققها للقطاع وللمجتمع، فقد أنجزت المخرجة لالة كابر أفلاما عن فئة الصم ذات الأرقام الهائلة التي لا يوجد إحصاء دقيق لها، وقد أشركتهم في التمثيل، وجعلتهم في فيلمها القصير “لحظة صمت” يحتكرون المناصب، بينما يواجه أولو الحواس الكاملة بعض المشاكل والصعوبات.

المخرجة والناشطة لالة كابر رفقة الرئيس الموريتاني محمد ولد الشيخ الغزواني

وبعيدا عن الإسقاطات والرمزية التي تضمنها الفيلم، يمكن القول إنه بفضل السينما والصورة، وبعد انتشار الفيلم على نطاق واسع في موريتانيا وتتويجه خارجها، أصبح صوت الشخص الأصم مسموع أكثر، واستطاع تحقيق بعض المكاسب والحقوق، منها إنشاء أول مدرسة للعمل الاجتماعي، وهي مؤسسة تتبع لوزارة العمل الاجتماعي والطفولة والأسرة، وتهتم بتدريس لغة الإشارة أكاديميا لمدة سنتين.

وبوصفها رئيسة لمنظمة راما للخدمات الاجتماعية، أطلقت لالة كابر الأيام الثقافية للصم، وهي تهدف لتمكين الصم وتعزيز مساهمتهم في كل القطاعات، بما فيها قطاع السينما، وهذا ليس إلا نموذجا يسيرا عن الإضافة التي تقدمها المرأة الموريتانية في أكثر من مجال.

مريم بنت بيروك.. حاملة الصورة الموريتانية في محافل السينما

كان لزاما على الموريتانيين والعالم أن يشاهدوا الوجه الآخر لنساء هذا المجتمع، بعيدا عن الصور النمطية التي تصدرت المشهد وصدرتها الصورة للعالم، وهو ما كانت تعمل عليه مريم بنت بيروك، وهي أول مخرجة في البلد، وصاحبة وثائقي “الباحثات عن الحجر” المتوج سنة 2009 بجائزة الأمل الوثائقي بمهرجان السينما الأفريقية ببروكسل (بلجيكا).

وقد جعلت الكاميرا تنسجم أكثر مع مجتمعها الذي يوفّر مادة مهمة وملهمة لصناعة الوثائقيات، وقصصا بالغة الأهمية في عرض المحيط أو تلك المتجذرة في عمق الصحراء.

مريم بنت بيروك أول مخرجة في موريتانيا

مسار مريم بنت بيروك مثقل بالمناصب والتدريب الخارجي في باريس ودمشق وتونس، وقد مهّد الطريق لأخريات انتسبن فيما بعد لعالم الصورة، سواء كان سينما أو تلفزيونا أو الاثنين معا، فأصبحن يتنقلن بين مهرجانات العالم حاملات معهن صورتهن الحقيقية في السينما.

وكان لتلك الأفلام حظ من التتويج، ولصاحباتها نصيب من التكريم، كالتكريم الذي حظيت به منذ أقل من سنتين المخرجة والناشطة لالة كابر في المهرجان العربي للإذاعة والتلفزيون بدورته الـ22 في الرياض بالمملكة العربية السعودية.

وعود الدولة.. تحركات لوضع السينما على الطريق

بات ضروريا اليوم التفكير في غد أفضل لسينما موريتانيا وأبطالها، وتفعيل بعض الآليات كإنشاء صناديق دعم، وتبني برامج جادة لمشاريع دائمة، وبناء قاعات سينما جديدة، وإدراج التربية الفنية في الأطوار الدراسية، فقد يُتم ويُثمن تلك المبادرات التي حاولت إنعاش القطاع، بعيدا عن استثناءات صنعتها محاولات فردية لا يمكنها أن تصمد أكثر مما فعلت.

وحتى لا يكون تمثيل السينما الموريتانية في المهرجانات الدولية شكليا أو محتشما، فلا بد من خلق بيئة سينمائية صلبة، تكون كل خطوة لها تكمل التي بعدها، وقبل أن ينتهي مشروع يمهد لميلاد آخر، فمن حق الموريتانيين سينمائيين أو متابعين أن يروا أفلاما تشبههم، تمثلهم وتعبر عن هويتهم وأفكارهم، بعدما صنعوا أشياء جميلة من لا شيء.

ويتطلع السينمائيون في موريتانيا أن تتوج إسهاماتهم ونضالاتهم -التي لم تنقطع يوما- بأرضية صلبة، وبنى تحتية تليق بتطلعاتهم، وإصلاحات جذرية تتلمس المشكلة وتطرح الحلول بجدية، فالرهان والقرار اليوم بيد الدولة، ويبدو أنها بدأت تتحرك قليلا.

وفي هذا السياق يقول المخرج والمدير المؤسس لمهرجان نواكشوط السينمائي الدولي محمد المصطفى البان، إن الرئيس محمد ولد الشيخ الغزواني منذ ولايته الأولى كانت الفنون والسينما بشكل خاص ضمن أولوياته وحاضرة في برنامجه الانتخابي.

وقد تُرجم ذلك الاهتمام في استحداث المعهد الوطني للفنون، ويضم أربعة مصالح؛ هي المسرح، والفنون التشكيلية، والموسيقى، والسينما، بالإضافة إلى إطلاق جائزة رئيس الجمهورية للفنون، وهي مخصصة لتشجيع الإبداع وتطوير الفنون وترقيتها.

ويقول البان إن الرئيس أصدر تعليمات بالشروع في إنجاز أول فيلم موريتاني طويل، وفي كل مرة يعبر عن سعادته وارتياحه لما تقدم عليه من خطوات، وما يقدمه الفنانون الموريتانيون من إنتاج وتمثيل مشرف لمختلف الفنون.


إعلان