تحرر السينما السورية من أغلال الاستبداد.. آفاق النهضة وتحدياتها

بعد نهاية 54 عاما من حكم الطغيان والاستبداد، تنفض السينما السورية الغبار عن نفسها، استعدادا لخوض غمار تجربة جديدة، وسط أجواء من الحرية والتفاؤل غير المعهودين.

فقد بدأ مخرجون ونقّاد وطلبة علوم سينمائية يبحثون عن مساحة أكبر لفن عانى عقودا من ضروب الجور والتنميط والتهميش، تحت مؤسسات عشش فيها الفساد والمحسوبية، ونظام سياسي احترف إقصاء كل من تبنى حدثا أو حكاية أو لقطة عابرة لا تنسجم مع سرديته الرسمية.

مبنى المعهد العالي للفنون السينمائية بدمشق

وبالتزامن مع سقوط النظام، وفرار الرئيس المخلوع بشار الأسد في 8 ديسمبر/ كانون الأول 2024، وجدت السينما نفسها أمام تحدّ من نوع آخر، عنوانه الأبرز “سوريا بلا سينما ولا سينمائيين”، وبلا منابر نقدية، ولا نواد سينمائية، ولا فعاليات تحتضن صناع هذا الفن، وتعرف بهم وبأعمالهم للمهتمين.

دفع ذلك المخرجين والمتذوقين والطلبة وأولي الغيرة على هذا الفن إلى إطلاق فعاليات تعيد للسينما السورية اعتبارها في موطنها، ذلك بعد أن حصدت في الخارج أرفع الجوائز العالمية، خلال سنوات الثورة ابتداء من عام 2011، مؤكدة جدارتها في حمل حكايات وقضايا شعب ذاق أبناؤه كل صنوف العذاب والقهر، قبل أن يهزموا صورة الشر، ويحطموا أصنام الطغاة.

فعاليات النهوض بالسينما بعد سنوات الكبوة

لم يكد يمضي شهر على سقوط النظام، وعودة الحياة تدريجيا إلى البلاد، حتى اختمرت في ذهن الشابين قصي الشهابي وجورج أشقر فكرة ناد سينمائي يحمل اسم “صالون دمشق”.

فقد شعرا أثناء جلوسهما في مقهى دمشقي بعد التحرير، بضرورة أن يسهما من موقعهما -وهما طالبان بالمعهد العالي للفنون السينمائية بدمشق- بتقديم شيء ملموس للمشهد السوري المستجد، بكل ما فيه من عنفوان وإرادة، لإعادة البناء وكنس مظاهر الخوف والهوان.

صالون دمشق السينمائي يعرض فيلمه الأول “نجوم النهار”

يقول جورج أشقر، وهو أحد مؤسسي الصالون السينمائي، لموقع الجزيرة الوثائقية: كان الغرض من النادي أن نخلق مساحة فنية للنقاش والحوار، ولعرض أعمال سينمائية تتناول جوانب من الحياة السياسية والمجتمعية في سوريا، وستكون غالبا أفلاما كانت ممنوعة من العرض، وأخرى لأسماء سورية جديدة في عالم السينما، بالإضافة إلى عرض أفلام عالمية يمكن إسقاط أحداثها ودلالاتها على التجربة السورية.

نفض الغبار الفكري.. دعوة لاستغلال سياق التغيرات

يتحدث جورج أشقر عن الدور الشبابي قائلا: إن دورنا -نحن الشباب السينمائي السوري- اليوم هو ببساطة تفعيل البيئة السينمائية في سوريا، لأنها لم تكن فعالة سنوات كثيرة، ولكن المفاجئ في الأمر هو الإقبال الكبير الذي شهدته فعاليتنا (صالون دمشق)، والرغبة الواضحة لمرتادي النادي أنفسهم بتفعيل السينما ودورها، لا بل وإنتاج الأعمال السينمائية أيضا.

ويرى قصي الشهابي أن على الشاب السوري الانطلاق من ذاته، وأن ينفض غبار هذه السنوات عن ذهنه وطريقة تفكيره، داعيا أقرانه إلى “استغلال المساحة التي خلّفها سقوط النظام، للتفاعل مع المجتمع وتوظيف الفن في سياق التغيرات الاجتماعية والسياسية المتسارعة”.

لقطة من عرض “نجوم النهار” في صالة زوايا ضمن صالون بدمشق

ويشدد الشهابي على أهمية الفن في هذه المرحلة من تاريخ البلاد، فسيكون لها تأثير هائل وبعيد المدى، ولذا “يجب على الفنان التأكيد على أهمية الفن من خلال الفن نفسه، فيوظفه ويستغله بأكبر قدر للتأثير، وبذلك لا يعطيه أهمية أكبر مما هو عليه ولا أقل، بل مهمته تكمن في معرفة مكانة هذا المنتوج الفني أو ذاك، وتقدير أهميته وخصوصيته”.

وقد عرض نادي صالون دمشق السينمائي فيلمه الأول “نجوم النهار” قبل أيام، بحضور مخرجه أسامة محمد في صالة “زوايا” بدمشق.

تحرير مؤسسات السينما من أغلال الفساد

يعرج قصي الشهابي في حديثه لموقع الجزيرة الوثائقية على عيوب المؤسسات الإنتاجية والتعليمية للسينما في سوريا، مؤكدا أنها في عهد النظام السابق كانت سواء مع غيرها من مؤسسات الدولة، من حيث حجم الفساد ودور المحسوبيات.

فجميعها “كانت تعاني من نفس حالة الترهل، وبحاجة إلى اتخاذ ذات الإجراءات، من دون أن تكون لمؤسسة ما خصوصية تختلف عن الأخرى، فجميعها نفس الآلية ونفس البيروقراطية، التي تعمل على الحد من الطموحات، بل تحطيمها وصولا إلى التسبب بضمور المواهب، إن وُجدت”.

ولم يكن أمام السوري سوى بابين؛ أولهما باب التملق الذي يجب أن يقدم فيه صكوك الطاعة والولاء لكل من هب ودب في مؤسسات الدولة ليبلغ مرامه، وثانيهما باب الاعتماد على الذات، وغالبا ما يفشل طارقه، لمحدودية الموارد والفرض وضعف الإمكانيات.

جورج أشقر صاحب فكرة نادي “صالون دمشق” السينمائي

ويتحدث عن المؤسسة العامة للسينما، وهي المؤسسة الوطنية الوحيدة للإنتاج الفني السينمائي في البلاد، ويرى ضرورة أن يدرك القائمون عليها أنها أولا “عامة” وليست خاصة بأفراد معينين، وثانيا أنها يجب أن تعمل بعيدا عن الشعارات لإعطاء الفرص للمواهب الجادة، والمساحة لوجهات النظر المختلفة، بعيدا عن الموقف أحادي الجانب، كما كانت على عهد النظام.

“حان الوقت ليشاهد السوريون أفلامهم”

يرى قصي الشهابي أن على المؤسسة العامة للسينما أن تفتح المجال، وتيسر التعامل مع جهات الإنتاج المستقلة المنتشرة في أنحاء العالم، بالإضافة لضرورة التعامل مع آلية عمل الرقابة، لئلا تتحول من رقابة سياسية إلى أخرى أخلاقية.

أما ميار مهنا، وهي صحفية وطالبة سيناريو ونقد سينمائي بالمعهد العالي للفنون السينمائية، فإنما تخشى الرقابة، ولا ترى أنها ستذوي في سوريا قريبا.

لكنها متفائلة بعودة عدد من الوجوه السينمائية البارزة إلى سوريا، بعد سنوات من الغياب، وتؤكد أهمية صلة الوصل التي عادت لتنشأ بين السينمائيين في الداخل والخارج السوري، بعد طول قطيعة.

فالخبرة الطويلة التي اكتسبها السينمائيون في الخارج ستتسرب للطلاب والمشتغلين في الداخل، وهذا مكسب كبير يمكن التعويل عليه، لدوران عجلة الإنتاج مرة أخرى، وتطوير الرؤى والأدوات الفنية للمخرجين والنقاد والممثلين الجدد، والاطلاع على خلفية الإنتاج في السينما العالمية.

قصي الشهابي صاحب فكرة نادي “صالون دمشق” السينمائي

تقول ميار: أرى أنه قد حان الوقت ليشاهد السوريون أفلامهم، بعد أن كانت مشاهدتها زمن النظام السابق تهمة بحد ذاتها. فمن المعروف أن مخرجين سوريين أنتجوا أفلاما قيّمة حول الثورة السورية، ولا يمكن لأي سردية سورية تدعي الموضوعية أن تتجاوز هذه الأفلام، ففيها وقائع، ووجهات نظر، وشهادات سورية يجب أن يُلم بها.

أداة مقاومة السردية الرسمية

في سياق العلاقة بين السردية والسينما، يرى علي سفر -وهو باحث وناقد سوري- أن السينما كانت إحدى أدوات المقاومة، ضد السردية الرسمية للنظام عن “حربه ضد الإرهابيين”.

ويقول: لولا الأفلام السينمائية الوثائقية التي أنجزت عن المأساة السورية، والأفلام الروائية التي قدمها صناع سينما سوريون وعرب وعالميون، لكان ثمة تجويف فارغ في مسار صناعة المشهد الحقيقي عن سوريا الثائرة.

ميار مهنا صحفية وطالبة سيناريو ونقد سينمائي

ويذكر -في حديث لموقع الجزيرة الوثائقية- أن هذا النتاج السينمائي يحتاج إلى إعادة تظهيره أمام الجمهور السوري، ويقول: ذلك لكي يرى الدور الهائل الذي لعبته السينما في مسار خلق التعاطف مع آلامه. كما أنه يحتاج إلى توثيقه ووضع هذا الأمر أمام جمهور الدارسين، وهذا ما أعمل على استكماله بعد أن أنجزت نسخة أولى من دراسة نقدية عن “الدور الذي تلعبه الثورات في تغيير الصورة النمطية عن الجماعة البشرية”، من خلال التركيز على الحالة السورية.

هواجس النهضة بعد 54 سنة من التغييب.. أسئلة المستقبل

يكاد يكون علي سفر الناقد السوري الوحيد الملم بتاريخ السينما السورية وخفاياها، وقد تدارسها في كتابه المرجعي “حبر الشاشات المطفأة.. تحري أحوال السينما السورية ونقدها”، وهو من النقاد القلائل القادرين على إجابة سؤال: كيف سيكون دور السينما في سوريا بعد سقوط النظام؟

وفي إجابته عن هذا التساؤل، يقول إن هناك إلحاحا يجول اليوم في عقول صناع السينما السورية، في كل مكان يتصل بضرورة النبش في التاريخ، واستخراج لحظاته الأشد تأثيرا، واتخاذها حكايات سينمائية.

أسامة محمد وزوجته من عرض فيلم “نجوم النهار” في صالة زوايا ضمن صالون دمشق

ثم يقول: أحدد هذا الهاجس بوصفه نقطة انطلاق سياسية، تؤدي من خلاله السينما جزءا من فعاليتها في المرحلة القادمة، ولكن علينا قبل ذلك أن ننظر إلى استجابة الجمهور، والإحاطة بردّة فعله، تجاه النظر في السياسة وتمثيلاتها المحلية، ففي الظرف الحالي نلاحظ أن الجمهور يولي اهتماما كبيرا للسياسة، ونرى فئات واسعة من الشعب السوري تحاول تشكيل الأطر السياسية، والانضمام للقوى والأحزاب.

وعليه يطرح سؤالا للتفكير: هل السينما السورية مستعدة لأن تنتج أفلاما تتوازى في مضامينها مع النهوض السياسي الراهن؟

ثم يجيب نفسه: الأمر مشروط بتقدم السينما ذاتها، بوصفها مشروعا ثقافيا وفنيا وتجاريا في الفضاء العام الذي يعاد تشكيله. فقد دُمرت السينما طيلة 54 سنة بوصفها فعالية حرة، ولذلك يمكن اعتبار العمل على استنهاضها فعلا سياسيا بحد ذاته.

جماهير حاضرة لعرض “نجوم النهار” في صالة زوايا ضمن صالون بدمشق

ولضمان نهوض السينما السورية، يوصي علي سفر الفاعلين السينمائيين السوريين باستعادة الإنتاج السينمائي السوري، الذي أُنتج في المنافي، لكي يتمكن الجمهور من مشاهدته في الداخل، ضمن الصالات المتاحة في سوريا، وفي النوادي المحلية.

ويوصي أيضا بتوفير الأفلام السينمائية العالمية التي اقتربت من ثورة السوريين وتداعياتها، وعرضها للجمهور لتطوير علاقته بالسينما ودورها. ويقول: لكن الشيء الأكيد هو أننا نحتاج إلى ورشة عملاقة للثقافة في سوريا، تُطرح فيها الرؤى المعاصرة، مع ضرورة ألا تترك إدارة هذا الشأن بيد المؤسسة الرسمية، بل يجب أن يكون ذلك بشراكة مع الشركات الخاصة وقوى المجتمع المدني.

“أملنا بخلق سينما حرة تعبّر عن الوجع والأحلام”

يعقد مخرجون سوريون آمالهم على عودة الإنتاج السينمائي للبلاد بعد السنوات العجاف التي شهدها في عهد آل الأسد، وترى المخرجة السورية هبة خالد أن السينما في سوريا ستواجه في المرحلة المقبلة تحديات عدة، أبرزها: ضعف التمويل، والمعالجة الدقيقة للقصص الحساسة التي ستروى، وصعوبة استعادة ثقة الناس بعد سيطرة السلطة طويلا على كل شيء، بما في ذلك الإنتاج السينمائي، ذلك بالإضافة للخوف من رقابة جديدة تعيد إنتاج نفسها.

المخرج أسامة محمد يتحدث إلى الحضور

وهي ترى أن التحدي الأكبر أمام السينمائيين السوريين اليوم، هو اجتراح طريقة للحفاظ على شجاعتهم وسط كل الصعوبات، وإيجاد الكيفية التي يجعلون بها السينما أداة تجمع السوريين بدل أن تفرقهم.

ومع ذلك فهي تؤكد وجود أمل يتحدى تلك المخاوف، وتقول في حديث لموقع الجزيرة الوثائقية: الأمل موجود، وأملنا بخلق سينما حرة ومستقلة تعبّر عن وجع السوريين وأحلامهم بلا خوف، وتعمل على توثيق الحقيقة، وتساعدنا على التصالح مع الماضي، وبناء جسر تجاه المستقبل.

بعث السينما من ركام الخراب

يتحدث الناقد علي سفر عن الشروط اللازمة لتوفر إنتاج سينمائي سوري في المرحلة المقبلة، فيقول إنه بعد بحثه في عدد من الفرضيات حول الإنتاج السينمائي السوري، وجد بأن التخريب الذي قامت به الفئة البيروقراطية البعثية -التي أدارت المشهد الثقافي بالقوانين والأوامر الزجرية- كان كبيرا.

كما يرى أن القطاع الخاص في سوريا كان يحاول -عبر وجوه لا يُشك بوطنيتها- أن يتكيف مع الواقع المستجد، وقد بذل الجهود من أجل ألا يخسر السوريون السينما في حياتهم، لكن لا يمكن أن تحصل على نتائج، ما دام الواقع كله بات معطوبا.

حديقة المعهد العالي للفنون السينمائية بدمشق

ومن هنا، فهو يرى أن “النهوض السينمائي” يجب أن يبنى اليوم على أدوار متعددة، لا يسيطر واحد منها على غيره، فيمكن للقطاع الخاص أن ينتج الأفلام بالتجاور مع القطاع العام، مع إمكانية توفر فرص مهمة لنشوء السينما المستقلة في سوريا، للحصول على نتاجات تجريبية مغايرة.

وتنشط حديثا مبادرات سينمائية شبابية سورية واقعية وافتراضية، في دمشق وحمص وحلب وغيرها من المدن السورية، لتعريف جمهور المهتمين بالسينما بالأعمال السورية الأكثر تأثيرا، التي أُنتجت قبل الثورة أو خلالها.


إعلان