الفيلم الوثائقي بين الذاكرة والتاريخ

 

أكرم العدواني
مخرج تونسي

يوما ما قال الفيلسوف الفرنسي الراحل بول ريكور:”سأبقى دوما قلقا من مشهد عالم طغت عليه الذاكرة من ناحية و طغى عليه النسيان من ناحية أخرى.. إن الإفراط الذي نراه اليوم في كل من الذاكرة و النسيان يجعل الحاجة إلى سياسة حكيمة في التعامل مع الذاكرة أحد أهم إشكاليات العالم المعاصر”

و الحديث عن الذاكرة يقودنا مباشرة إلى أدوات تشكيل الذاكرة في واقعنا المعاصر اليوم و التي يمكن اعتبار الفيلم الوثائقي التاريخي من أهمها بلا شك.. وهي أداة يبقى تاريخها نفسه غائبا ناهيك عن كل الإشكاليات و التناقضات التي تشوب العلاقة المفترضة ما بين الفيلم الوثائقي التاريخي و البحث التاريخي.

عمليا يبدو الخط الفاصل في أي فيلم وثائقي بين الموضوعية و الرؤية الخاصة لصانع الفيلم رفيعا جدا فالشريط الوثائقي خاضع بالضرورة لتمشي المؤلف ومقاربته الذاتية للموضوع على مستوى المعالجة و آليات التصوير واختيار الزوايا والمشاهد والمتدخلين و – خاصة- المونتاج. مما يجعل من الفيلم الوثائقي عملا إبداعيا شديد الخصوصية وبعيدا عن الموضوعية المفترضة التي يتم إدراجه عموما في إطارها.

في تاريخ السينما كان الفيلم الوثائقي مرتبطا عادة بالتوظيف السياسي من الدعاية الشيوعية التي انخرط فيها عشرات السينمائيين السوفيت الكبار مثل كوليشوف وبروتوزانوف وبودوفكيني عبر أشرطة على غرار (الخط العام) لإيزنشتاين وصولا إلى الأنظمة النازية والفاشية في الأربعينيات حيث عرفت فرنسا خلال سنوات الحكم النازي الأربع أكثر من مائتي فيلم وثائقي بدعم من نظام الجنرال فيشي.

و في الستينيات والسبعينيات كان الهوس الإيديولوجي الذي صاحب الحرب الباردة يجعل من الفيلم الوثائقي أداة أساسية في إدارة الصراع حتى في دول الجنوب كانت وثائقيات مخرجي أمريكا اللاتينية المعادين للرأسمالية مثل أوكتافيو جيتينو وفرناندو سولاناس تلهم أجيالا من الشباب اليساري عبر العالم. وفي العالم العربي شهدت الصور والوثائقيات القادمة من أفغانستان خلال مرحلة الجهاد الأفغاني صدى واسعا وكانت شديدة الأهمية في تعبئة الضمائر.

خلال كل هذه الفترات كان الفيلم الوثائقي متميزا في دعايته التي تبدو أكثر “واقعية” من غيرها وفي الكذب المتميز الذي تمثله صور أرشيف تم تصويرها في ظروف خاصة وعبر رؤية يحددها السياسي والذاتي بل وأحيانا عبر أرشيف مزيف من الأساس مثل المصافحة الشهيرة بين هتلر وبيتان والتي مر وقت طويل قبل أن يتأكد أنها لم تقع أصلا وأن اللقطة الضيقة على اليدين المتصافحتين قد تمت إضافتها لاحقا. هذا يضيف إلى مشكلة المعالجة بتعقيداتها مشكلة مصادر الأرشيف نفسها ومدى صحتها وهي أشياء يعجز المشاهد عن الانتباه إلى أي التباس ممكن فيها وهو الواقع ضحية صور تبدو معبرة عن الحقيقة الخالصة.

ومع ظهور التلفزيون وتحوله إلى فضاء الاستغلال الأساسي لهذا النوع من السينما بل وكمنتج لها صارت لعبة التوظيف أكثر تعقيدا وربما يمكن القول إن الفيلم الوثائقي لم يكن يوما قريبا من “سينما الحكومات” مثلما هو عليه اليوم.

إننا اليوم بحاجة حقا لرفع هذا الالتباس بنزع القدسية عن الفيلم الوثائقي وإبراز دوره الحقيقي كعنصر من عناصر الذاكرة وليس كتاريخ.

فالذاكرة هي كل ما تبقى لدى الأفراد أو المجموعة من الماضي سواء أكانت أماكن أو وقائع أو أشياء أو رموزا.. والصورة أو الأرشيف المصور هو جزء من هذه الذاكرة.

أما التاريخ فهو “تفكير في الذاكرة” يضع في اعتباره المنسي و المخيال و الرمزي و الدلالات و السياق في تمش منهجي صارم بل يمكن القول بأن دور البحث التاريخي هو التشكيك في كل ما هو مصدر من مصادر الذاكرة.

فالفيلم الوثائقي باعتباره في مادته الخام المصورة وحتى في شكله النهائي لا ينفصل عن رؤية المخرج أو الكاتب ولا عن سياقه الموضوعي السياسي والاجتماعي وحتى ظروف تصويره فهو لا يمكن أن يكون إلا مصدرا للتفكير في السياق الذي أنتجه باعتباره “بقايا” أو عنصرا من عناصر الذاكرة.

إن طغيان الذاكرة على التاريخ في عالم اليوم عبر الخلط الذي تصنعه لدى الإنسان وسائل الإعلام بين المفهومين لا يمكن إلا أن يضر بهذه المحاولة الشجاعة التي يقوم بها الفيلم الوثائقي منذ مائة عام في مواجهة موت الذاكرة الجماعية وزوالها وذلك بجعله عنصرا من عناصر هدم الحقيقة التاريخية بدل أن يكون موضوعا للبحث.

و هكذا يمكن أن نختم كما بدأنا بقول آخر لبول ريكور: “علم التاريخ وفيٌ لإيمانه المبدئي بأنه رحلة بحث. إنه ليس تساؤلا مؤرَقا حول زيف الذاكرة بل هو رد صارم على هذا الأمر الواقع المفروض علينا بالتشبث بخيار البحث العلمي والتشبث قدر الإمكان بالمعرفة وحدها كهدف”

 ديسمبر 2008


إعلان