حوار مع خضراء
![]() |
– كان يجب أن تُترجم أعمالي إلى 29 لغة قبل أن تجد طريقها إلى لغتي الأمّ
– ليس لدي أوقات معينة للكتابة وحدسي منقاد للإلهام
– أنا كاتب يقظ وتلقائي
– رأيت الغرب يسعى لشيطنة الإسلام فاتخذت موقفاً
ر. ب. ص. يتّفق كلّ المتابعين للكتابة السرديّة وتحديداً الروائيّة على المكانة السامية التي يحوزها الكاتب الجزائريّ ياسمينة خضراء ضمن دائرة القرّاء الفرانكفونيّين إضافة إلى ترجمة أعماله إلى عشرات اللغات المختلفة من إيطاليّة وإنجليزية ويابانيّة…غير أنّ السؤال المحرج لجميعنا كتاباً وقرّاءً هو كيف نقدّم هذا الكاتب العربيّ للقارئ العربيّ؟
* ي / خ: بادئ ذي بدء ليس خطئي أن يبطئ الناشرون العرب في ترجمة أعمالي وتقريبها من القارئ العربيّ. وأعتقد أنّ القارئ العربي ـ كما يبدو لي ـ معاقب بحكم أنّ عالم النشر في مجتمعاتنا لا يولي الكتابة الأهميّة التي تستحقّها. أضف إلى ذلك وسائل إعلامنا التي تكتفي بالمشاهدة ومتابعة ما يكتب في أماكن أخرى. وإلاّ كيف نستطيع تفسير سؤالكم. صحيح أنّه كان يجب أن تُترجم أعمالي إلى 29 لغة قبل أن تجد طريقها إلى لغتي الأمّ، وثلاثيّتي المتعلّقة بالصراع بين الغرب والشرق صدرت أوّلا في لبنان عن دار الفارابي وفي الجزائر، ولا أذكر أنّي رأيت إعلامنا ينتبه إلى ذلك. ومن الغريب أنّ جلّ التلفزيونات استضافتني باستثناء الجزيرة (يقصد قناة الجزيرة) وقنوات المشرق. وهو لعمري أمر لا يحتاج تعليقاً.
قبل أن ندخل في جوهر نصوص محمّد مولسهول السرديّة أو ياسمينة خضراء باعتبارها كنية عزيزة على الكاتب، نودّ أن نتمثّل كواليس الخلْق الروائي لديكم ولحظات المكاشف�� السرديّة التي منها تنبجس الآثار والنصوص. وبعبارة أخرى كيف وجد محمّد مولسهول نفسه يكتب وهو المنتسب إلى مجال الخدمة العسكريّة طيلة عقود من السنين؟ وهل ثمّة أوقات مخصوصة لفعل الخلق والإبداع لديه؟ وهل توجد شروط معيّنة لا تكون الكتابة إلاّ بها ولا تنهض إلاّ عليها؟
* ي / خ: أوّلا أنا متمسّك بكنيتي وهي ياسمينة خضراء. فهو الاسم الوارد على كتبي ولا أرغب في التخلّي عنه… لقد ولجت الأدب من بوّابة الموهبة. فقد وُلدت لأكتبَ. أنا بدويّ وقبيلتي الواقفة على أبواب الصحراء الجزائريّة كانت قبيلة الشعراء. لقد كبرت وترعرعت مع الكتب أحملها في جيوبي وهامتي تجتاب السحب. وفي سنّ 17 سنة كنت قد أنهيت كتابي الأوّل وهو مجموعة قصصيّة. ليست لديّ أوقات معيّنة للكتابة. أنا حدْسيّ منقاد للإلهام. ولا أبالي كثيرا بالمكان والضجيج والمناخ. وعندما أغوص في نصوصي أتملّص من الأشياء المحيطة بي.
ر. ب. ص. لقد أنهيتم مجموعتكم القصصيّة الممهورة بـ “حوريّة” منذ سنّ السابعة عشرة أي في حدود 1973. ولكنّها صدرت سنة 1984. والسؤال هو كيف تفسّرون هذا الصدور المتأخّر وأستطيع القول المتأخّر كثيرا إذ نشرت بعد أكثر من عقد من الزمن؟
* ي / خ: في تلك الفترة لم يكن في الجزائر سوى ناشر واحد وكان خاضعا للدولة. وكان يجب على كلّ المخطوطات أن تتعفّن في رفوف المكاتب والإدارة مدّة تتراوح بين 6 سنوات و14 سنة قبل أن تجد طريقها إلى رفوف المكتبات. فالضغوطات والامتيازات والمحاباة والرقابة كانت تؤخّر صدور الكتاب مدّة طويلة ممّا دفع أغلبيّة كتّابنا إلى تجربة النشر في بلدان أخرى. وقد انتظرت أكثر من ثماني سنوات قبل أن تصدر مجموعتي “حوريّة”. وانتظر آخرون طوال حياتهم دون تحقيق المأمول.
ر. ب. ص: “صفّارات بغداد”، “الاعتداء”، “سنونوات كابول”، “ما يدين به النهار لليل” كلّها روايات تستمدّ نسغها من الحرب. فهل يترجم ذلك نزوعا إلى كتابة الرواية المنتسبة إلى الواقعيّة المدرسيّة؟ أو يدفعكم إلى ذلك البحث عن موضوعة لا تني تتحوّل باستمرار؟ أم تراه الغوص في موضوعة راهنة قد تشكّل معيناً للحزن والكآبة؟
أنا أكتب وفق الموضوعات التي تشغلني وتهمّني. وعندما رأيت أنّ الغرب يسعى إلى شيطنة الإسلام وتحويل المسلم إلى إرهابيّ فظّ، عندما رأيت مثقّفين عربا يتنكّرون لدينهم ولوطنهم لتتاح لهم فرصة الظهور في التلفزيونات، عندها قرّرت أن أتّخذ موقفا وأن أتفاعل. ومن ذاك الموقف كانت ثلاثيّتي. وعدت في كتابي الأخير إلى تاريخ بلادي زمن الاستعمار. ومن الوارد غداً أن أكتب كتاباً إباحيّاً. أنا كاتب يَقِظ وتلقائيّ. فكلّ حدث وكلّ أغنية يمكن أن يقدحا فيّ الإلهام.
ر. ب. ص: تبدو وضعيّة الشخصيّة / الدكتور أمين في رواية الاعتداء غير مقنعة: فمن ناحية نراه يخون ذاكرته وجذوره تحت مسمّى التكيّف مع المجتمع الذي يحتلّ الأرض والتاريخ. ومن ناحية أخرى يعيش قطيعة فكريّة مع زوجته التي قرّرت أن تفدي فلسطين في عمليّة استشهاديّة. وتفترض علاقة الحبّ المتينة بين الدكتور أمين وزوجته سهام تشاركاً في الأفكار والمُثُل وهي أمور لا نعثر عليها مع الدكتور أمين. فما تفسير ذلك؟ أو ما تبريره؟
* ي / خ: الاعتداء هو كتاب التساؤلات. ما معنى الاندماج في بلد مُغتصَبٍ؟ وما معنى الحبّ في زمن الكراهيّة والميز العنصريّ والقمع والإذلال؟ وهل نستطيع أن نستمرئ سعادتنا بين المضطهدين؟ وهل من الممكن أن نتخلّى عن شعبنا من أجل جواز سفر بالتبنّي؟ والاعتداء؟ أي الاعتداءين الأكثر وحشيّة؟ اعتداء سهام أو اعتداء إسرائيل؟ ما يقع في فلسطين لا يمكن تصنيفه أو تحديده. وكلّ جراحات العالم تصدر عن هذا الوطن الشهيد والمغتصب والمتروك للجلاّدين في صمت الضمائر الطيّبة. وأشعر بالتعاسة في كلّ مرّة أسمع فيها طفلا يصيح وفي كلّ مرّة تلطم امرأة خدّيها وفي كلّ مرّة تصيح عائلة غضباً وكدراً لأنّ سفينة أو صاروخا أو رصاصة طائشة قد عمّقت الهوّة أكثر. والأكثر مأساويّة هو لين المجتمع الدولي بله تواطؤه في أطول مذبحة في تاريخ البشريّة. وأنا مغتمّ كثيرا لأنّه لن يكون ثمّة سلام على الأرض مادامت فلسطين لا تعرف السلام. وكلّ الوقائع لا تشير إلى تحقّق هذا السلام في القريب العاجل.
ر. ب. ص: لقد لاحظنا أنّكم تكتبون وفق وتيرة متسارعة وقارة وبمعدّل كتاب ونصف كلّ سنة (معرض المساطيل، خريف الأوهام، موريتوري…) وقد يذهب في ظنّ القرّاء أنّ هذه السرعة في الكتابة قد تؤثّر سلبيّا في جماليّة الآثار وتخفّف من قوّة الفعل السرديّ ولسنا نصادر على كلّ التجارب إذ قد تكون الوتيرة سريعة مع احتفاظ الآثار بتوهّجها وقوّة نسغها ونسيجها.
*ي / خ: يبدو من هذا السؤال أنّكم لم تطلعوا على كلّ كتبي. وقد عملت على أن أخرج كلّ كتاب في حلّة أفضل من حلّة سابقه. وبهذه الطريقة فحسب أنا أكتب. ومعدّل الكتابة لا يعني شيئا. ويمكن أن تمضي عشر سنوات في تأليف كتاب رديء، كما يمكن أن تنجح في تأليف عمل رائع خلال أربعة أسابيع. وفضلا عن ذلك لست ميّالا إلى السهولة في التأليف ولست ميّالا إلى الاستسهال فثمّة دوما متربّصون ينتظرون عند أوّل منعطف في الطريق.
ر. ب. ص: لقد أدنتم طويلا نظام العسكر المتحكّم في الجزائر ولكنّكم قبلتم أخيراً إدارة المركز الثقافي الجزائريّ بباريس. وهذا القبول يطرح سؤاليْن: هل تغيّر النظام القائم تغيّراً راديكاليّاً؟ أم هل تبيّن لكم أنّكم كنتم على خطأ؟
* ي / خ: من المؤكّد أنّكم تخلطون بيني وبين شخص آخر. وعلى النقيض من ذلك فقد بقيت ذاك الذي يدافع عن شرف الجيش الجزائريّ وشجاعته اللذين كانا عرضة للحملة الإعلامية الفرنسيّة، بأوامر من مساومات الجزائر العاصمة، ضدّ الجزائر. ومع ذلك فقد أدنت دوماً النظام الجزائريّ وأنظمة البلدان العربية المهملة والمحرومة. ولقد قبلت أن أدير المركز الثقافي الجزائريّ بباريس لأنّي إنسان حرّ ولأنّي في خدمة بلادي. وأنا من الناحية الماديّة أعيش من ريع كتبي. لقد بعت الملايين من النسخ ومازلت أبيع الكثير. لكنّ بلادي في حاجة إلى أطفالها وقد أجبت “حاضر” كما هو عهدي عندما كنت منخرطاً في سلك الجيش.
ر. ب. ص: لقد لاحظنا في شأن روايتكم الأخيرة “ما يدين به النهار لليل” أنّها لم تلق القبول الحسن في فرنسا ونحن نتحدّث عن القبول الحسن حتّى لا نتحدّث عن التجاهل التامّ من قِبل الدوائر الفاعلة في المشهد الثقافي الفرنسي والبلدان التي تتحرّك في فلكه. فهل نفسّر هذا التجاهل بنزعة الرواية إلى إدانة الحقبة الاستعماريّة والحرب في الجزائر على أساس أنّ هذا الموضوع لا يتّصل بأفق انتظار القارئ الفرنسيّ والغربيّ؟ أو أنّ الأمر يتعلّق بالمنطق المزدوج الذي يمارسه النقّاد الغربيّون إذ يهلّلون للنصوص التي تُرضي معاييرهم وأفق انتظارهم ونظرتهم “الايكزوتيكيّة” إلى الشرق بينما يتجاهلون الأعمال التي تفضح المجتمع الغربيّ وتكشف زيف مظهره خصوصاً إذا كانت هذه الأعمال منسوبة إلى مؤلّفين ليسوا من أصول غربيّة؟
* ي / خ: لم يلق القبول الحسن في فرنسا؟. الجواب هو: لا. فأغلب الجرائد تحدّثت عنه، أضف إلى ذلك مجموعة من الخطابات النقديّة القيّمة. وهو ماثل في قائمة الكتب الأكثر مبيعاً واحتلّ الصدارة في بلجيكا والمرتبة الأولى في الموسم الأدبي الفرنسي في كندا. وتكمن مشكلتي مع المؤسسات الأدبيّة الباريسيّة التي تتضامن ضدّي تماما مثلما وقفت ضدّ بوجدرة وكاتب ياسين ومحمّد ديب وضدّ كلّ أولئك الذين يرفضون بيع أرواحهم للشيطان بالتخلّي عن قيم شعوبهم ودينهم. وأعتقد أنّ هذا الموقف من تلك المؤسسات إنّما يصدر عن الميز العنصري والغيرة والضغينة.
المحاورة والتعريب: رضا بن صالح