المونتاج من منظور المدرسة الفرنسيّة

جيل دولوز 1 
ترجمة : رضا بن صالح
باحث وناقد تونسي

جيل دولوز

 نعاين في المدرسة الفرنسيّة الماقبل الحرب(التي كان غانسGance  زعيمها المعترَفَ به من وجهة نظر ما) قطيعةً  مع مبدأ التكوّن العضوي . و لا يتعلّق الأمر بفرتوفيّةVertovisme  سواء تلك المغالية أوالمعتدلة. ولا ندري أيجوز لنا أن نتحدّث عن نزعة انطباعية  كمقابل للتعبيريّة الألمانيّة ؟ إنّ ما يمكن أن يحدّد المدرسة الفرنسيّة هو قيامها على ضرب من الديكارتيّة : تقوم المدرسة الفرنسيّة على مؤلفين يهتمّون  قبل كلّ شيء بكميّة الحركة و بالعلاقات المتريّة التي تسمح بتحديد تلك الكميّة. و يبدو أنّ هؤلاء المؤلّفين ـ كما هو حال السوفيات ـ  مدينون لغريفيتGriffith  بدين كبير  و يرغبون في تجاوز ما بقي تجريبيّا مع غريفيت لبلوغ تصوّر أكثر علميّةً بشرط أن يُفيد هذا التصوّر العلميّ  الإلهام السينمائيّ و يساهم في توحيد الفنون (وهو نفس الهاجس العلميّ الذي نجده مع رسّامي تلك الفترة) .
غير أنّ الفرنسيّين يعدلون عن التكوين العضويّ ولا يتوغّلون كثيرا في التأليف الجدليّ و لكنّهم في المقابل طوّروا مفهوما واسعا عن التأليف الميكانيكيّ للصور ـ الحركة .

و لأنّ العبارة ـ التأليف الميكانيكيّ ـ  تبدو غامضة وجب أن نتصوّر عددا من المشاهد التي غدت جزءا من أنطولوجيا السينما الفرنسيّة مثل :” الحفل الشعبيّ “لإيبستاين Epstein و” قلب مخلص” و الحفل الراقص لليربييه l’Herbier ” و إلدورادو” و ” فرندولات غريميون”Grémillon ( منذ مالدون). و من الأكيد أنّ  رقصة جماعيّة ستنهضُ على  تكوين عضويّ للراقصين و تكوين جدليّ لحركاتهم ،و لا نقصد الحركات البطيئة و السريعة فحسب بل كذلك تلك الحركات المستقيمة و الدائريّة . و لكن ، و نحن نميّز تلك الحركات، نستطيع أن نستخرج أو  أن نجرّد جسما واحدا سيكون  الــ “راقص” ، الجسم الوحيد لكلّ الراقصين ، و نجرّد حركة واحدة ستكون الـــ ” فاندانغوFandango ” ليربييهl’Herbier  هي حركة الفانداغيين التي صارت مرئيّة (12) . و يجب أن نتجاوز العلل و المسببات لنستخرج الكميّة القصوى للحركة ضمن فضاء محدّد . و بهكذا طريقة طوّر غريميون فرنندلهُ الأوّلَ داخل فضاء مغلق يفرزُ كمّا هائلا من الحركة.
وبالنسبة إلى فرندلات غريميون و أفلامه الأخرى فإنّنا لا نستطيع  القول إنّنا إزاء فرندولات و أفلام مغايرة  ولكن حريّ بنا القول إنّنا إزاء فرندول لا يكفّ غريميون عن استخراج لغزه أي كميّة الحركة فيه وهو مسلك قريب ممّا أنجزه  مونيهMonet  الذي لم يكفّ عن رسم النيلوفر. و في  أقصى الحالات ستكون الرقصةُ آلةً قِطَعُها الراقصونَ . و بالفعل فقد وظّفت السينما الفرنسيّة الآلة لتحصّل تأليفا ميكانيكيّا للصور ـ الحركة . أمّا النوع الأوّل من الآلة فهو الإنسان الآليّ بما هو آلة بسيطة أو بما هو إواليّة صناعة الساعات ، بما هو تشكيل  هندسيّ لأجزاء توحّد الحركات  أو تنضّدها و تحوّلها في الفضاء المتجانس حسب العلاقات القائمة .
و لا يشهد الإنسان الآليّ ، كما هو الحال مع التعبيريّة الألمانيّة ، على حياة متَوعَّدَة تتلاشى في الليل. و لكنّه يدلّ على حركة ميكانيكيّة جليّة هي قانون الأقصى لمجموع صور توحّد الأشياء و الأبعاد ، توحّد الحيّ و الجامد بتجنيسها . و ستندرج الدمى المتحرّكة و العابرون و ظلال الدمى و ظلال العابرين ضمن علاقات تضعيف و تناوب و عودة دوريّة و ردّة فعل متسلسلة  جدّ رقيقة . ويشكّل جميعها ( التضعيف ، التناوب…)  الكلّ الذي تُعزى إليه الحركة الميكانيكيّة . و على هذا الأساس كان شأن هروب الفتاة في شريط الأتاليّة L’Atalante لفيغوVigo و كذلك الأمر مع رينوارRenoir مِنْ  حلم ” بائعة أعواد الثقاب الصغيرة ” إلى العمل الضخم ” قاعدة اللعبة” . و سيمنح رونيه كليرRené Clair هذه الصيغة كليّتها الشعريّةَ وهو الذي سيمنح الحياة  للتجريدات الهندسيّة ، في فضاء متجانس ، مضيء رماديّ و مسطّح . و يلوح الموضوع المحسوس موضوع الرغبة مثل محرّك أو نابض فعّال في الزمن ـ أي في الحركة الأولى ـ الذي يولّد حركة ميكانيكيّة يُسهم فيها بشكل تصاعديّ عددٌ من الشخصيات ، شخصيات تتجلّى في المكان باعتبارها أجزاء منْ كلٍّ متكاثر و مُمكْنَن ( ” قبّعة قشّ مِنْ إيطاليا ” و ” المليون”). و تُعتبرُ الفردانيّة أساسا في كلّ المجالات : يقف الفرد خلف الموضوع أوبالأحرى يلعب الفرد دور نابض أو محرّك مطوّرا تجلّياته عبر الزمن فهو شبح ، حاوٍ ، شيطان أو عالِمٌ مجنونٌ منذور إلى التلاشي حين تبلغُ الحركةُ التي يقف وراءها ذروتهَا أو حين تتجاوزُها . و حينئذ تستقرّ الأشياء وتستعيد نظامها.
وإجمالا ستكون مثل باليه آليّ يشتغل محرّكُه عبر الحركة . أمّا النوع الثاني من الآلة  فهو الآلة البخاريّة و الناريّة تلك الآلة الطاقويّة القويّة التي تولّد الحركة مِن شيء آخر . و لا تكفّ هذه الآلة عن تأكيد تناثل تجمع هي طرفيه الميكانيكيّ و الحيّ منهما، الجوّانيّ و البرّانيّ ، عامل الميكانيك و القوّة و ذلك وفق سيرورة رجع داخليّ أو تواصل مكبَّر. ويتمّ تعويض العنصر الملهويّ الدراميّ بعنصر ملحميّ تراجيديّ . و في هذه الحالة تتمايز المدرسة الفرنسيّة عن المدرسة السوفياتيّة التي لمْ يكفّ أصحابها عن توظيف آلات طاقة كبيرة( و لا يتعلّق الأمر بإيزنشياين Eisensteinو فيرتوف فحسب بل كذلك برائعة تورينTourine أي شريط ” تركسيب Türksib “). وبالنسبة إلى السوفيات تمثّل الآلة والإنسان وحدة جدليّة فعّالة تتجاوز التقابل  بين العمل الآليّ و العامل البشريّ. في حين أنّ الفرنسيّين يتبنّون تصوّرا حركيّا cinétique عن كميّة الحركة في الآلة و عن وجهة الحركة في رُوحٍ ما.

(1)Gilles Deleuze :  cinema 1 . Les éditions De Minuit . Paris . 2006 
جيل دولوز : فيلسوف فرنسيّ  عالج مسائل فلسفيّة كثيرة من أهمّها المسائل الدلاليّة و قضايا المعنى و صيغ التعبير المختلفة كما تعرّض إلى التصوّرات الفلسفيّة لدى سبينوزا و وظّف الأساطير و الآثار الأدبيّة للوقوف على آليات التفكير و التعبير لدى الإنسان. من مؤلفاته :سبينوزا و مسألة التعبير(1968) /منطق المعنى(1969) /فوكوا (1986) / سينما 1 ( 1982) / سينما 2 (1985) / المستنزَفُ (1992) و له مؤلفات أخرى عديدة بعضها فرديّ و بعضها بالاشتراك مع فيليكس غاتاري.
** هذا المقال هو جزء من فصل كامل عقده دولوز لمعالجة المدارس المونتاجيّة الأربع : المدرسة الأمريكيّة العضويّة  و المدرسة السوفياتيّة  الجدليّة و المدرسة الفرنسيّة  الديكارتيّة و المدرسة الألمانيّة التعبيريّة. ويمتدّ هذا الفصل على الصفحات: 46 ـ 82 .

كامل المقال


 


إعلان