الوجه الآخر للسينما الوثائقية
عندما تكتمل الحقيقة تصبح تخييلا
حسن حبيبي
أكاديمي مغربي
مدخل
أصبح من نافلة القول أن الفيلم الوثائقي قديم قدم السينما، وأن أي تعريف له يظل بالضرورة قاصر في علاقته بتنوع هذا الجنس الإبداعي عبر الزمان والمكان، ومع ذلك يمكن القول أنه جنس سينمائي يسعى إلى وصف أو إعادة بناء الواقع من خلال معالجة إبداعية تواجه العالم بشكل مباشر. إن الروائي والوثائقي هما محوران لنفس الفن الذي يحيا من خلال واقع ملموس، وتبدو اليوم الحدود بينهما غير واضحة تماما. على العكس من ذلك، تبدو هذه الحدود متجلية بين الأفلام الوثائقية والتقرير الصحفي والروبورطاج وكل أشكال تلفزيون الواقع التي تبتعد فيها عملية التقاط الصورة “المباشرة” أكثر فأكثر عن فن الإخراج، وحده القادر على استعادة ثراء وتعقيد الواقع.
في هذه الورقة سوف نعرض لبعض التجارب السينمائية التي اشتغل فيها أصحابها على العلاقة المركبة بين الخيال والواقع، والتي تبدو في نظرنا مهمة للغاية لفهم الكيمياء الذي ينتفي معه كل فصل بين المكونين سالفي الذكر. ولن نستعمل اصطلاح الوثائقي والتخييلي في هذا المجال إلا إجرائيا.
الفيلم الوثائقي واقع يولد من خيال
عادة ما يتم تصنيف الأفلام الوثائقية، أو الأفلام التي تتخذ من الواقع سندها الأول، خارج مدار الأفلام التخييلية أو الروائية، وبالتالي فالحديث هنا يتم حول نوعين من السينما، وثائقي مقابل تخييلي، لكل منهما وظيفة معينة ومختلفة: الأول يمتح من الواقع يستقرأه ويعيد إنتاجه، بينما ينحو الثاني إلى الخيال أو التخييل. واحد يهدف إلى تعميق فهمنا للواقع، والآخر يساعدنا على الانفلات من هذا الواقع.
قبل بضع سنوات فقط، كان الفيلم الوثائقي يتم تعريفه بكونه تصوير لفاعلين يؤدون أدوارهم في سياقات مباشرة وواقعية، وذلك استنادا على العناصر الثلاث التي يرتكز عليها الفيلم الوثائقي: قصة ووقائع حقيقية دون تأليف، أشخاص حقيقيون ومكان حقيقي. إلا أن هذا التعريف يظل قاصرا إذا ما علمنا أن الفيلم الوثائقي يجد نفسه اليوم مطالبا بضبط آليات اشتغاله وطموحاته الفنية والإبداعية التي لا تقل أهمية عن طموحات الفيلم الروائي أو التخييلي، باعتباره بناء متماسك يعتمد الموضوعية، ويربط ما بين الحاضر وتجلياته وأبعاد الماضي واستشراف المستقبل، مع إعطاء كل هذه لحظات الإشراق السينمائية والبعد الدرامي اللائق باعتماد المنحى الشعري وليس التقريري.
والواقع أن الصورة الفيلمية، علاوة على كونها وثيقة، فهي تتوسط للواقع وتأول له، وبالتالي فهي لا تشكل الوعي، كما يذهب الاعتقاد في أحيان كثيرة، بل تعيد تشكيله من خلال عناصرها التركيبية وتشد الانتباه أكثر مما تفعل صورة العالم الحقيقي، وعليه فالصورة، مهما كانت صادقة، لا يمكنها تجاوز مهمتها هذه إلى الاضطلاع بمهمة نقل الواقع، خصوصا في البناء السردي الذي تلعب فيه الصورة أحيانا دورا مركزيا. من هنا تأتي العلاقة المركبة بين الواقع والتخيل في الفيلم الوثائقي، والتي تستدعي منا أكثر من وقفة لفهمها، أخذا بعين الاعتبار أساس الفيلم الوثائقي الذي هو مقاربة الواقع المعيش فنيا دون الغرق في التقريرية الإخبارية.
![]() |