“وقائع الزمن الضائع: البحث عن محمد بيومي
ظهرت الأفلام التسجيلية والوثائقية من أجل تحقيق عدة أهداف من بينها الإعلام to inform ، أي إطلاع المشاهدين على معلومات مهمة في سياق محدد. هذا السياق قد يشمل تناول ظاهرة معينة، أو حدث تاريخي محدد، أو الدور الذي قامت به شخصية معينة في اطار عصر محدد له ملامحه الخاصة، أو قد يشمل مزيجا من كل هذه الجوانب.
وكما أن للفيلم الروائي (أو القصصي أو الدرامي)، متعته التي تنبع من النص السينمائي، فإن للفيلم التسجيلي والوثائقي أيضا متعته ا��تي تنبع من واقعيته ومن مدى تعبيره بصدق عن مادته وعن موضوعه، ومن طريقة السينمائي في عرضه للموضوع، ومن الإيقاع واللغة البصرية التي يستخدمها في عرضه. وليس المقصود بـ”النص السينمائي” هنا السيناريو المكتوب، بل السياق السردي وطريقة البناء وتحديد معالم اللقطات والمشاهد في علاقتها ببعضها البعض، أي “اللغة” التي تخلق “نصاً” – إذا استخدمنا مصطلحات الأدب للتقريب.
يقول رون جونسون وجان بون في كتابهما المهم “فهم الفيلم” Understanding the Film إن تعريف الفيلم التسجيلي documentary حسب الأكاديمية الأمريكية لعلوم وفنون السينما والتليفزيون أنه “الفيلم الذي يتعامل مع مواضيع تاريخية أو اجتماعية أو علمية أو اقتصادية، سواء صور وقت وقوع الأحداث الحقيقية، أو أعيد بناء وتجسيد أحداثه الحقيقية (أعيد تمثيلها)، وحيث يكون تركيز الفيلم الأساسي على المحتوى الحقيقي أكثر من اهتمامه بالجوانب المتعلقة بالتسلية”.
أصل الفيلم
صورة نادرة لمحمد بيومي في شبابه
هنا، في حالة فيلم “وقائع الزمن الضائع” يرتبط اختيار الموضوع أساسا بالأبحاث والدراسات الخاصة التي أجراها المخرج محمد كامل القليوبي، سواء أثناء عمله كناقد وباحث سينمائي قبل أن يتجه للإخراج، أو أثناء قيامه بإعداد أطروحته لنيل درجة الدكتوراه من موسكو في موضوع يتصل مباشرة بـ”تاريخ السينما المصرية” هو دور محمد بيومي في السينما المصرية.
![]() |
المخرج والباحث محمد كامل القليوبي
ورغم أن المخرج السينمائي محمد بيومي (1894- 1963) يعتبر الرائد الحقيقي للسينما المصرية كما أصبح مستقرا الآن، فقد كان كل ما هو معروف عنه قبل أن ظهور فيلم القليوبي عام 1991، أنه أول مخرج مصري يخرج شريطا سينمائيا هو ذلك الشريط القصير الذي يصور أو بالأحرى، يسجل عودة الزعيم المصري الوطني سعد زغلول (قائد ثورة 1919) من المنفى عام 1923. وقد شكل هذا الشريط الوثائقي جزءا من الجريدة السينمائية التي أنتجها بيومي وأطلق عليها جريدة “آمون”. ولم تكن قد توفرت الفرصة لمشاهدة أي من أعداد تلك الجريدة السينمائية إلى أن حصل التليفزيون المصري في الثمانينيات على نسخ من بعض أعدادها نتيجة اتفاق خاص مع أرشيف الفيلم البريطاني.
غير أن الاهتمام بتقديم الحقائق أو إعادة تجسيدها والتركيز على “واقعية الصورة” لا ينفي وجود ما يؤدي إلى إحساس المشاهد بالمتعة أيضا في هذا النوع من الأفلام، التي قد تشمل أيضا الكثير من جوانب التسلية والمرح (ولعل أفلام المخرج الأمريكي الشهير مايكل مور أفضل مثال على ذلك).
ولكن هل من الممكن أن يأتي تناول السينمائي لموضوع ما
أو شخصية معينة في فيلم تسجيلي كامل، بمعزل عن فكر ورؤية وموقف السينمائي نفسه من المادة التي يتعامل معها، أي أن يأتي “موضوعيا” مجردا من أي عنصر يتعلق بالموقف الفكري والجمالي بل ومن البعد “الأيديولوجي” الذي يحكم أيضا نظرة السينمائي للفيلم؟
في هذه الدراسة سأتناول كيف تعامل المخرج المصري محمد كامل القليوبي مع فيلمه التسجيلي الطويل “وقائع الزمن الضائع” (1991) وكيف كان تأثير الدراسة النظزية التي قام بها المخرج على الطابع العام للفيلم، وهل يمكن القول إن الفيلم ينتمي للمدرسة “السوفيتية” في السينما التسجيلية، وما هي ملامح الفيلم بالتفصيل وهل نجح في توصيل رسالته ومحتواه إلى المشاهدين عن طريق الأسلوب الذي استخدمه مخرجه؟
لقد درس القليوبي السينما في المعهد العالي للسينما في القاهرة قبل أن يسافر إلى موسكو عام 1978 حيث حصل من معهدها الشهير للسينما على درجة الدكتوراه. ولاشك أن الدراسة في موسكو في تلك الفترة تحديدا، قد تركت تأثيرها على طريقة وأسلوب عمل القليوبي في الفيلم. وهذا ما سنسعى خلال هذه الدراسة لتسليط الضوء عليه. ولكن بدايةً، يجب أن نحدد كيف سنتعامل مع هذا الفيلم.
محد بيومي رائد السينما المصرية
يقول المنظر السينمائي بيل نيكولز Bill Nichols في كتابه “مدخل إلى الفيلم التسجيلي” Introduction to the Documentary “لكل فيلم تسجيلي ثلاث قصص على الأقل تتداخل معا: واحدة تتعلق بمخرج الفيلم، والثانية بموضوع الفيلم، والثالثة بجمهور الفيلم. وهذه القصص كلها، وإن بطرق مختلفة، تعتبر جزءاً مما نتطرق إليه عندما نتساءل عن ماذا يدور فيلم معين (ما الذي يتناوله، وما هو موضوعه واهتمامه)، وهو ما يعني أننا عندما نشاهد فيلما معينا ندرك أنه يصدر عن شخص ما، ومن موقف ما. هناك قصة تتعلق بكيف ولماذا صنع الفيلم. هذه القصة عادة ما تكون شخصية وترتبط بصانع الفيلم بدرجة أكبر في حالة الفيلم التسجيلي أكثر كثيرا منها في حالة الفيلم الروائي”.
![]() |