الوثائقي يتميع

 

بعض مخرجي الفيلم الوثائقي استولت عليهم شهوة السينما، فأمعنوا في توسيع المنطقة الرمادية الفاصلة بين ما هو تسجيل للواقع، وما هو محض خيال.
وكما في كل فن من الفنون فإنه تأتي فترات تتميع فيها الحدود، وتضيع الفروق بين جنس وآخر. ذلك شيء يصنعه أهل الفن، ثورة على القيود أو عجزاً عن الإبداع ضمنها.
والفن قيد، والصنعة قيد؛ مثلما هما حرية وانطلاق.
أوصل بعضهم الفيلم الوثائقي إلى أن يصبح تمثيلاً كله. وأوصل بعضهم الفيلم الروائي إلى أن يتعهد الالتزام بما حدث حقاً وفعلاً، إلى درجة أنك صرت تحشره في زمرة الوثائقيات.
وأضرب مثلاً لكل فئة.
السلسلة الوثائقية التي أنتجتها البي بي سي بعنوان “أيام هزت العالم” في أربع وخمسين حلقة: إنها تعتمد الإثارة، والانتقاء من الواقع على نحو يحملك على أن تستبدل بالواقع الذي درسته في كتاب المدرسة الصورة الجديدة التي رسمها لك الوثائقي. حتى في وجوه الشخصيات المهمة فأنت مدعو إلى أن تمسحها من عقلك، وتضع بدلاً منها صور الممثلين الذين يقومون بالأدوار. ومع تعمد الإثارة تضطرب أهمية الأحداث في ذهن المشاهد فلا يعود قادراً على أن يزن قيمة الحدث ببرود. فرب حدث صغير يتم تكبيره وحدث كبير يتم تجاهله كي يصل المخرج إلى حجم الإثارة المنشود، وكي يجعل قصته حلوة. وليس هذا شراً كله: فالفيلم الوثائقي المصنوع بهذه الطريقة أمتع وأكثر جاذبية لمعظم مشاهدي التلفزيون. لكن المتعلمين تعليماً جيداً يشعرون بالملل سريعاً: يشعرون أن المخرج – حتى وإن بحث موضوعه بعمق – يريد تكثير قطيعه، لا تعميق الفهم لدى مشاهديه. وهو يستغل عمق بحثه وتوفر مستشارين جيدين لديه في جانب المعلومات والحقائق لكي يتجنب الوقوع في خطأ في التفاصيل. فأما في الرؤية في عمومها فهو غارق في الخطأ إلى أذنيه.
والمثال الثاني فيلم “السقوط”، وهو فيلم روائي ألماني نمساوي أخرجه أوليفر هيرشبيغل عن الأيام الأخيرة لأدولف هتلر. والفيلم مستند إلى تسعة كتب كبيرة. التزم المخرج بالحقائق التزاماً حرفياً وجند الباحثين وأنفق المال حتى يكون فيلمه صورة صادقة لما حدث. ولم يقدم تفسيراً للتاريخ. ولم يكثر من الانتقائية، التي يراها كثيرون مرغوبة في الفيلم الروائي التاريخي.
أرى أن الفيلم الروائي يستطيع الاقتراب من الوثائقي بدون خطر كبير. وأما الوثائقي فهو أكثر هشاشة.
الفيلم الروائي التاريخي يظل فيلماً روائياً حتى لو صور الواقع بتفاصيله الدقيقة. ذلك أنه قائم على الممثلين، ومحافظ على عموده الفقري الكبير: الحكاية. فهو محافظ على عنصرين أساسيين. فأما الوثائقي فهو عندما يوظف عنصر الممثلين يصبح معرضاً لعدد من المشكلات: انخفاض تصديقنا بأنه نقل الحدث كما حدث. وتسريبه صورة بصرية مشوهة إلى الذهن مختلفة عن الواقع، وفي هذا تشويه لمعرفتنا بالحدث.
 وأما عنصر القصة فقد يؤدي بمخرج الوثائقي إلى تشذيب الحقائق واستبعاد أجزاء منها لكي تسلم له القصة.
القصص الجميلة في هذا العالم كثيرة، وأجملها ما كان له أساس في الواقع، ولكنه تعرض للتحريف على يد قاص ماهر.
القصة أجمل من الواقع، وأكمل، وأشد سلاسة ومنطقية من الواقع. وأحداثها مرتبة ترتيباً يساعد على التلذذ بالاستماع إليها. والوثائقي يستعين بالقصة كي يصبح مسلياً. ولكنه قد يزداد اعتماداً عليها فيزور الواقع بالانتقائية. 
ليست هناك وصفة صحيحة للوثائقي وأخرى للروائي. والحدود بينهما ستظل رمادية. ولكن اتساع الشريط الحدودي سيزيد من الوهم في هذه الدنيا، وسيكون مثار سخط الأكاديمي الحريص على الحقيقة التاريخية.
أسوأ ما في الخلط الحاضر بين الوثائقي والسينمائي تسلل مخرجين تلفزيين إلى مجال يقتضي رؤية فنية لا يملكونها. وقد صرت ترى كثيراً من الوثائقيات الرديئة التي يحاول أصحابها تحسينها بإضافة بعض المشاهد التمثيلية إليها. ويعمد بعض هؤلاء إلى استخدام المصطلح هراوة يقرعون بها رؤوس النقاد. فلا يوجه إليهم نقد إلا وقالوا: هذا شيء عالمي اسمه “الدوكيودراما”، وكأن توفر مصطلح يجمع الملح والسكر يجعل الشراب مريئاً.
سموها دوكيودراما، أو أي اسم آخر، المهم أن تكون المادة جيدة. وكون التوجه ذا بعد عالمي لا يجعله جيداً. فالأزمة المالية عالمية، والإيدز عالمي.  
إذا استمر هذا التميع الذي يتعرض له الوثائقي فقد نشهد ردة إلى الفيلم التوثيقي الصرف. وسوف ننتقد هذه الردة، مثلما ننتقد التميع الحاضر.

* عارف حجاوي: مدير البرامج في قناة الجزيرة الإخبارية 

كامل المقال

   
  
 
  


إعلان