الوثائقي بين ” وهم الموضوعية ” و ” واقع الذاتية”

 في البدء كان التاريخ…

لم يثر الفيلم الروائي النقاش الذي أثاره في المقابل الفيلم الوثائقي. فقد تجاوزت المقالات والدراسات والأبحاث الصادرة عن الفيلم الوثائقي بشكل كبير جدا ما نُشر حول الفيلم الروائي فهذا الأخير تحددت معالمه بصفة نهائية في بداية عشرينات القرن الماضي لتتكرس  حين نطقت وبذلك تحررت من كل القيود لتسبح في عالم الخيال والإبداع بدون حدود بينما استمر النقاش – ومازال – حول الفيلم الوثائقي حيث اختلف حوله مخرجوه ومنتجوه وباقي الفاعلين فيه وحتى مستهلكوه.
فلقد اختلف الجميع مع الجميع حول تسميته، فهناك من يسميه الوثائقي وهناك من يفضل التسجيلي باعتبار أن التوثيق ليس هو التسجيل حسب البعض خاصة في مصر وسوريا. وهناك من أطلق عليه في الخمسينات تسميات أخرى كأفلام الواقع بينما يختار آخرين أفلام المعرفة أو التوعية. فالمخرج اللبناني جان شمعون يعبر بوضوح عن رأيه بالقول: ” أنا ضد كلمة تسجيلي ولدي موقف من هذه الكلمة، وأعتبرها ارتجالية وغير دقيقة بالمعنى العلمي.” أما المخرج الفرنسي الراحل جان رونوار فقد لخص رأيه في جملة واحدة: ” كل ما يتحرك فوق الشاشة هو سينما ” كرد على كل من كان يحاول الفصل بين الأفلام واعتبار الفيلم الوثائقي سينما من درجة ثانية.
وهذه الاختلافات في الحقيقة هي تعبير عن اختلافات في وجهات النظر في كيفية معالجة المواضيع المصورة والخوف من ” خيانتها”.
كما تعكس أيضا غنى هذه السينما المرتبطة أشد الارتباط بقضايا الناس ومحيطهم البيئي والجغرافي والتاريخي والثقافي وهلم جرا.
المدافعون على الفيلم الوثائقي يعتبرونه الأب الشرعي للفن السابع لكون جميع الأفلام الأولى للأخوين الفرنسيين لوميير هي أفلام وثائقية وبالتالي فإن السينما خلقت ونشأت وثائقية حيث يستعرضون ما صوره الأخوين لوميير في معملهما الصناعي بمدينة ليون الفرنسية في البداية كخروج العمال من المعمل أو دخولهم إليه ثم صورا محطة القطار ووصول القطار إليه وكذا بعض المشاهد العائلية ورحلاتها. ولم تكن تتجاوز، بعض منها، ثلاث دقائق في أحسن الأحوال.
إن ما قام به الأخوين هو تجريب سينمائي عفوي وفي آن واحد تسجيل لحظات اجتماعية وبالتالي تم توثيقها بالصور التي يمكن دراسة تلك الفترة التي لم تكن إلا تتويجا للتطور الصناعي.
فتلك الأفلام وثائق ذات قيمة إنسانية وحضارية مهمة، نقلها الأخوين بدون رتوش إذ كانا يصوران ما يسمح لهما به الشريط دون تدخل منهما بمعنى لم يمارسا المونطاج – الذي لم يكن معروفا حينها – لتحوير الصورة إلا في ما بعد من طرف جورج ميلييس الذي أدخل على آلة التصوير تعديلات تقنية لتعطي نتائج مخالفة يمكننا اعتبارها تجاوزا ” خدع سينمائية ” دون علمه المسبق بها. وبذلك فقدت الصورة السينمائية موضوعيتها المطلقة لتنتقل إلى مرحلة جديدة مغايرة تماما بالتدخل الملموس لأصحاب الفيلم من هنا أصبح البعض يفصل بين مختلف الأفلام. وأصبح العنصر الذاتي يحضر في باقي الأفلام.
لقد واكب التطور التقني لهذا الفن ظهور نظريات في أشكال التعبير خاصة حين تبناه السورياليون الذين وجدوا فيه الإمكانيات الواسعة للتعبير الحر وبذلك نزعوا عن السينما تلك ” الواقعية المتوهمة ” نحو إبداع خيال جديد بالاعتماد على الإضاءة والإكسسوارات بموازاة مع ظهور بشكل مواز فن المونطاج الذي هو كتابة جديدة في السينما يسمح لك بصياغة الأحداث وعرضها على الشكل الذي يرغب فيه المخرج.
وبذلك تفرع الفن السابع إلى سينما خيالية (أي التي ستحمل إسم الروائية) وسينما وثائقية. ففيما عرفت الروائية انتشارا واسعا ومردودية مالية مهمة بسبب جماهيريتها لتخلق لنفسها سوقا تجاريا بكل مقومات التجارة عرف في المقابل الفيلم الوثائقي انحسارا ليرتبط أكثر بالنخبة العالمة من المثقفين والباحثين والمؤمنين بكون السينما وسيط ثقافي ومعرفي وليس للتسلية.
كما وظفت الطبقة السياسية (خاصة الحاكمة) السينما في اتجاهين: الرواية لتسلية الناس والترويج التجاري، والوثائقية لتوجيههم خاصة مع انتشار الاستعمار الأوروبي نحو ما سُمي بالعالم الثالث (إفريقيا وآسيا وأمريكا اللاتينية) بل ستوظفها الأنظمة الفاشية والاستبدادية في إيطاليا وألمانيا وإسبانيا والاتحاد السوفياتي بمجموعة كبيرة من الإنتاجات الدعائية لأنظمتها.
تحول الفيلم الوثائقي عندها إلى وسيلة دعائية تؤجج بها عواطف شعوبها وتخديرها بتأطيرها إيديولوجيا إذ كانت الجماهير تعتبر الفيلم الوثائقي هو الحقيقة بعينها لا يأتيها باطل من أمامها أو خلفها.

* أحمد بوغابة : صحفي وناقد سينمائي مغربي

كامل المقال


إعلان