موضوعية السينما بين الروائي والتسجيلي

عرف تاريخ السينما منذ ولادتها نوعين من الأفلام: أفلام تسجيلية وأفلام روائية. لكن، على الرغم من أن الأفلام التسجيلية هي الأصل ومبتدأ السينما، وحتى جوهرها، حسب رأي دزيغا فيرتوف، فإن الغلبة في السباق بين الأفلام التسجيلية والأفلام الروائية كانت، على المستوى الجماهيري، لصالح الأفلام الروائية، التي ظلت الزاد والوقود الأساس لمحركات صناعة السينما، ومع ذلك، وبالرغم من كل الامتيازات التي كانت ولا زالت تتمتع بها السينما الروائية سواء من حيث التمويل أو من حيث الانتشار الجماهيري بل والقدرة على التأثير في حياة وأفكار وعادات عشاق الأفلام، إلا أن طموحها ظل هو الوصول إلى صيغة تصوير لمواضيع الأفلام بحيث تكون ذات مصداقية واقعية، تيمناً بالسينما التسجيلية التي كان المدافعون عنها والذين يعتبرونها المعبرة عن جوهر السينما الحقيقية التي تعكس الواقع بموضوعية، يتهمون السينما الروائية بأنها لا تقدم ولا تعرض إلا واقعاً مزيفاً مصطنعاً. وتشير الصورة العامة للسينما الروائية المعاصرة إلى نجاحها في تحقيق صيغة فيها نوع من التداخل والتلاحم بين الروائي والتسجيلي، مستخدمة في سبيل تحقيق ذلك ليس فقط أحدث التقنيات، بل بخاصة العديد من وسائل التعبير المستعارة من السينما التسجيلية.
 من هذه الوسائل التي باتت شائعة في السينما العالمية المعاصرة أن يذكر في مقدمة الكثير من الأفلام الروائية أن القصة مبنية وفق أحداث حقيقية، والقصد من هذا إضفاء مصداقية مسبقة على أحداث الفيلم، ومع ذلك فمما لا شك فيه، أن الأحداث المعاد بناؤها في الفيلم الروائي لا يمكن أن تكون حقيقية أو أن تصل في درجة عرضها للواقع إلى ذات المصداقية التي يمكن أن تتمتع بها السينما التسجيلية، فهي تبقى مجرد تمثيل يوهم بالحقيقة حيث إنه يستحيل مطابقة الأصل عملياً والالتزام بتفاصيله بدقة فنياً وسرداً درامياً.
من ضمن الأساليب الإضافية لمحاولة إضفاء المصداقية على الأحداث، والتي باتت تستخدم على نطاق واسع في الكثير من الأفلام الروائية المعاصرة، تصوير مشاهد يجلس فيها الممثلون في مواجهة الكاميرا ويخاطبون المتفرجين مباشرة على شكل مقابلات مع ممثلين، يروون أو يعترفون أو يدلون بشهاداتهم، بحيث يبدو الفيلم الروائي كما لو أنه فيلم تسجيلي يصور ويوثق أحداثاً حقيقية ويقدم أشخاصاً حقيقيين، وبالطبع، فإن مقدار المصداقية في مثل هذه الحالات يعتمد على صدق النوايا وسلامة المنهج. لكن، ما يحصل في غالبية الأفلام هو أن ما يجري مجرد استغلال لإمكانية الإيهام بالحقيقة من أجل زيادة عناصر التأثير على المتفرجين أثناء مشاهدة الأفلام. يختلف الوضع هنا عن التجارب الجادة التي ظهرت هنا وهناك عبر تاريخ السينما والتي كانت تهدف إلى الاستفادة من المنهج التسجيلي لعرض رؤية وتحليل موضوعيين لحدث أو لقضية ما، كما كان عليه الأمر بالعلاقة مع تيار السينما السياسية الذي تبلور على شكل مدرسة في السينما الإيطالية منذ ستينيات القرن العشرين وكانت ذات منهج محدد يعتمد على إعادة بناء الوقائع المعاصرة ويستفيد من الوقائع المعاد بناؤها للوصول إلى تحليل ما يعتمد على معلومات موثقة وللتعبير عن موقف، وذلك على يد مجموعة من المخرجين، من أبرزهم فرانشيسكو روزي، وهي المدرسة التي تأثر بمنهجها الكثير من المخرجين المعاصرين، ومنهم، على سبيل المثال لا الحصر، المخرج الأمريكي أوليفر ستون، خاصة في فيلمه الروائي الطويل الذي سعى فيه لأن يسرد بتفصيل موثق وقائع اغتيال الرئيس الأمريكي جون كينيدي. وكان فرانشيسكو روزي قد لجأ إلى المقابلات المباشرة مع أشخاص حقيقيين، وليسوا ممثلين، يفترض أنهم على صلة ما بالحدث الذي كان يقدمه في فيلمه الشهير “قضية ماتي”، والذي صاغه على شكل تحقيق سينمائي، يستقصي فيه وقائع مقتل ماتي رئيس شركة النفط الإيطالية على خلفية صراعه مع الاحتكارات النفطية العالمية، وكان روزي قد كلف احد الصحافيين بجمع المعلومات حول مقتل ماتي، لكن الصحفي، وبعد أن جمع معلومات غزيرة تعرض بدوره للاغتيال. ويظهر المخرج فرانشيسكو روزي شخصيا في بداية ونهاية الفيلم وهو يستجوب ويقابل أشخاصاً حقيقيين ليستكمل المعلومات الضرورية لفيلمه.
نعثر في تجربة روزي في فيلمه “قضية ماتي” على نموذج وجانب مهم آخر من محاولات السينما الروائية التشبه بالسينما التسجيلية، وهي محاولات كانت قبل روزي واستمرت بعده، غايتها الوصول إلى عرض موضوعي للقضايا المطروحة في الفيلم بطريقة تتجرد من أهواء المخرج ومشاعره الذاتية، لهذا غالبا ما تروى القصة على شكل مذكرات، أو بواسطة راوٍ يروي بحيادية حكاية تخص غيره ويقدم نفسه على أنه مجرد شاهد.
من أبرز الأمثلة في تاريخ السينما الروائية العالمية على تجربة إخراج فيلم بمعالجة موضوعية لمادته، التجربة التي أدهشت العالم قبل أكثر من ستين عاماً عندما فاجأ مخرج سينمائي ياباني غير معروف في حينه عشاق السينما يوم عرض في مهرجان سينمائي أوروبي فيلماً أصبح يعتبر من روائع السينما العالمية الخالدة. والفيلم هو “راشيمون” الذي يحكي عن جريمة قتل نفذها في الغابة قاطع طريق ضد نبيل مسافر مع زوجته حيث تم قتل الزوج واغتصاب الزوجة. قامت فكرة الفيلم على تصوير الحدث عبر استعادته وإعادة تمثيله، أولا، بواسطة أصحاب العلاقة المباشرة بالحدث وهم قاطع الطريق نفسه والزوجة والزوج القتيل الذي أدلى بشهادته بعد استحضار روحه، وثانيا، بواسطة رجل غريب من المفترض أنه محايد، هو حطاب كان يمر بالصدفة في الغابة زمن وقوع الحدث، فصار شاهداً عليه. أدلى الثلاثة الأول بشهاداتهم أمام المحققين، غير أن المحققين لم يتمكنوا من الوصول إلى الحقيقة لأن كلا من الشهود الثلاثة، أدلى بشهادة مناقضة لا تتضمن فقط تفسيراً مختلفاً للواقعة يخدم مصلحة الشاهد الشخصية بل أيضا تفاصيل مغايرة للواقعة. أما الشاهد الذي يفترض فيه أن يكون محايداً فلم يدل بشهادته أمام المحققين، بل روى الحادثة لغرباء احتمى معهم من المطر تحت بوابة معبد وسط الغابة، ومع ذلك فهو أيضا كان متردداً في قول الحقيقة

عدنان مدانات : أكاديمي أردني متخصص في السينما.

كامل المقال


إعلان