الإيمان بالواقع ضد الإيمان بالصورة..

 مقـــدمة

تواجه من يريد كتابة بحث نقدي عن تيارات السينما التسجيلية أسئلة عديدة:
ماذا يعني تسجيلي؟ وهل من الممكن أن يكون صانع الفيلم تسجيلياً ويبقى في الوقت نفسه روائيا؟
ماذا نعني بمصطلح تيار فني؟  أهو مدارس فنية ظهرت في فترات زمنية مختلفة؟ أم  هي اتجاهات أو حركات انتمى إليها أو توافق معها فنانون عديدون؟ كيف نشأ هذا التيار آو تلك المدرسة أو ذلك الاتجاه وفي أي ظروف؟ وما هي المؤثرات التي قادت إلى انتهاجه واستمراره؟

إن قائمة الأسئلة حول طبيعة الفيلم التسجيلي وواقعيته، وتطور أصوله ومساراته لا تنتهي. كل ذلك يقود إلى نتيجة مبسَّطة: “لو أن تاريخ الفنون هو بدرجة أقل مسألة جمالياتها وليس مسألة سيكولوجيتها، عندها ستظهر على أنها أساساً قصة الشبه أو، إذا رغبنا، قصة الواقعية”. وكان من الطبيعي على كافة المنظرين تقريباً الافتراض بأن المجال المناسب لوسيلة تسجيل الفيلم كان المجال  العياني الواقعي الملموس.
فكرة الفيلم التسجيلي قديمة قدم السينما نفسها، فقد بدأت في النصف الثاني للقرن التاسع عشر مع التجارب الأولى، ووجدت أول تعبير مهم لها في عمل الأخوين لوميير. فقد عمل أوغوست ماري لويس نيكولاس ولويس جان لوميير للفيلم التسجيلي ما عملوه للسينما ككل، وكان ذلك بهدف إظهار الفائدة والقيمة المتأصلتين في تصوير الواقع اليومي، وبهدف توثيق الحياة اليومية.

التسجيلي أو الوثائقي مصطلح مشتق من الكلمة الفرنسية القديمة document  وحينما ظهرت كلمة documentary   كانت تدل في اللغة الانكليزية منذ أوائل القرن التاسع عشر ، على طبيعة الشيء المؤلف من وثائق. ودلت على صعيد السينما على نوع من الأفلام بدأ استعماله من قبل غريرسون، الذي ترك أثرا عميقا على تطور الفيلم التسجيلي في بريطانيا وفي انكلترا وذلك من خلال دراسته المنشورة في صحيفة “نيويورك صن” حول فيلم فلاهرتي “موانا” الذي حينما شاهده أطلق عليه تسمية “الفيلم التسجيلي”. وقد استعار غريرسون الكلمة documentary من كلمةtravelogue   وأستعمله، بعد أربع سنوات، بول روثا، لأول مرة، في كتابه “الفيلم حتى الآن” وعرّفه كفيلم يعني باهتمامات الخاصة، بما في ذلك الأفلام العلمية والثقافية والاجتماعية وكنوع يجده بعض السينمائيين أكثر أهمية من الفيلم الروائي .
احتفت بعض النظريات السينمائية بمادة السينما الخام، التي تسجل العالم المادي والأشياء والأماكن والناس الحقيقيين، التي هي واقعية في الأصل. أما تلك النظريات السينمائية، التي ركزت أولاً على سلطة صانع الفيلم في تحوير الواقع أو التلاعب فيه، فكانت في الأساس نظريات تعبيرية: أي، أنها تعنى بتعبير صانع الفيلم للمواد الخام أكثر من اهتمامها بالواقع المصوّر نفسه. وهكذا صبغ نظرية الفيلم، بأكملها تقريباً، التعارض القائم بين الواقعية والتعبيرية، وسيطر هذان المنهجان على تاريخ نظرية وممارسة السينما، منذ عهد الأخوين لوميير (اللذين خضعا لهاجس نقل الواقعية الخام على الفيلم) وميليس (الذي كان مأخوذاً بشكل واضح، بما يمكن عمله بالمواد الخام).

لقد هيمنت التعبيرية على نظرية الفيلم خلال العشرينات والثلاثينات.  ومن جهته وصف د. و. غرفث “مدرستين” أساسيتين في ممارسة الفيلم، هما الأميركية والألمانية- بينما كانت الواقعية، ولو بشكل ثانوي، أسلوباً مشتركاً في الممارسة السينمائية خلال العقود الأربعة الأولى في تاريخ السينما، ولم تكتمل كنظرية قائمة بذاتها إلا في نهاية الثلاثينات (من خلال الممارسة العملية للتسجيليين البريطانيين بقيادة جون غريرسون) وفي الأربعينات (مع ظهور الواقعية الإيطالية). وكانت هنالك أسباب وجيهة لهذا الازدهار المتأخر: خصوصاً، وأن النظرية الواقعية، اعتبرت الفيلم ضمنياً ذا أهمية أقل، لأنها ارتأت أن الواقع هو أكثر أهمية من “الفن”.
إن كل تاريخ السينما،حسب بعض المنظرين والمؤرخين هو  بمثابة تجاور وتفاعل دائم لـ “اتجاهات” الأخويين لوميير التسجيلية وميليه الروائية.وإذا ما أخذنا السينما التسجيلية، فسنجد فيها اتجاهين، اتجاه نثري وآخر شعري: النثري ينصرف بالدرجة الأولى إلى وصف الحياة كما هي، والشعري، ينصرف، بالدرجة الأولى، إلى تحريف صور الحياة، لكن من أجل فهمها، وليس من اجل تزييفها. يبقى أن نقول أن هذه الإشكالية ما تزال قائمة ومعلقة في النقاشات الدائرة في حقل النظرية السينمائية. وكان هناك وقتها ، حسب الأدبيات السينمائية، مواقف مختلفة،  وبالتالي منهجا فنياً وجمالياً يختلف في تيار السينما التسجيلية، كما يختلف أيضا في تيار السينما الروائية. ومنذ البداية بدأ الخلاف أصلا بين دزيغا فيرتوف وإيزنشتين، وكانت نقطة الخلاف، أساساً، طريقة التعبير والمنهج السينمائي، الذي يحكمها.
وفي الخمسينيات، عاود أندريه بازان مخالفته لإيزنشتين وأكد: إن تطور لغة السينما تميز بوجود تيارين عظيمين متعارضين، مثلهما أولئك المخرجون الذين آمنوا بالصورة والمخرجون الذين آمنوا بالواقع. التيار الأول وجد جوهره في أهمية دور المونتاج, الذي يوحد العناصر غير المرتبطة بالحياة، كما هو الحال عند إيزنشتين، بينما اعتمد التيار الثاني على مقدرة الصورة ذاتها، بدون تجزئة زمنها، على كشف علاقات المكان الواقعي، دون إضافات تأويلية، تنتج من علاقات الصور فيما بينها. وحسب هذا المفهوم، هناك مخرجو صورة واقع وهناك مخرجو واقع صورة.

كامل الدراسة


إعلان