بيليشيان الرائي

عندما نشاهد بعضا من رؤى السينمـائي أرتفـازد بليشـيان، نصـاب بالذهـول. نتحسس النوم في جيوب اليقظـة، ونسـأل الحـلم إن كان هـنا. نترنّح قـليـلا، فنصون كرامة التوازن بإعادة النظر. يداهمنا فـيض هـو الفـيض وحركة هـي الحركة. ألم يتشكّل بحشيشة الفرح. طـيران فوق سحب لا ظلال لها. تحليـق بأجنحة الدوام، إلى ما قبل الخير والشرّ.
تأتينا سينما بيليشيان كوخزة ضوء في الأذن. كشوكة صوت في العين. يتأرجح الشعر أمامنا ساخرا مـن الشكّ واليقين وأسرار الموت والبعث. نستـحي أمـام عدسة تحدّق في عـيوننا، ولا نرى غير الحاضر حاضرا، فنبحث عن قول نقـول فيسعفنا الخرس يقينا.

 أرتفازد بيليشيان

حـين تحـدّث النـاس سنة 1977 عن وفـاة تشارلي تشابلن الذي هـو نفـسه شـارلو، أصبـت بالدهـشة. كنت في الرابعة عشر من عمري، ولم أفهم كيف يـمكن لـرجل وجد مـنذ الأزل أن يـبـقى حيـّا إلى ذلـك الـوقت. كيـف يمكن لأسطورة بذلك الحجم أن تبقى مخفية عن الناس؟ 

 وبعد مـرور أكـثر مـن ثلاثيـن سنة، أصبـت بنفس الدهشة عندما علمت عن طريق الأنترنت أن بيليشيان لا يزال حيّا ويعيش في موسكو.  لكـنّي، وفـي غفلة مـن حساب العقـل أدركـت أن الكبار يجتازون عصورهم بسرعة ويغيبون، فلا عمر لهم يبدأ وينتهي، بل وجودا متأكد الدوام كأنه الدنيا ولا تنتـهي. أو هـم مثل أعمالهم خـالدون، يمرّ الموت بالقرب منهم ولا يقف. 
ولد أرتفازد بليشيان يوم 22 فيفري سـنة 1938 بلينيناكان بأرمـينا، وهي مـن المدن التي حطّمها زلزال 1988. عاش صباه في مدينة كيروفاكان أين تلقى تكوينا في تقنية صناعة الآلات ثم تخصص في وضع التصاميم قبل أن يصبح صانع معدات تقنية. أحب السينما كمشاهد، وكانت له رؤى لا تحتملها الكلمات ولا تترجمها الآلات، فدخل سنة 1963 مـعهد الفغيك(معهد السينما بموسكو) ليباشر سنوات الدراسة في اختصاص الإخراج، علّه بعدها يستطيع التعبير عما يجول في رأسه.
ومع أن الرجل عمل كثيرا وكتـب كثيرا وكـان طليعيا دائـما، فلـم تتسع شهرتـه ولـم يعرف كـثـيرا خارج حـدود الاتحاد السوفييتي سابقا، ولم يحض بالمكانة التي يستحقها إلا مع بداية سنوات البرسترويكا. وكان من أوائل الفنانين الذين انتبـه لـه ولموهبته خارج بلاده، المخرجُ جان لوك غودار والناقد سيرج داني الـذي كـتب فـي مجلـة اللّبيراسيون الفرنسية : “سينمائـي حـقيقي وغير قابـل للتصنيف. يرتكز فـي عمله عـلى المونتاج الذي كفوا عن العمل فيه منذ دزيغا فرتوف(1)…فجـأة شعـرت ببـهجـة سبـبـها أنـني وجدت نفسي أمـام الحلقـة المنقوصة للتاريخ الـحقيقي للـسينما.(2) ومـنـذ شـهر مارس من عام 1992، تاريخ عرض أول خمسـة أفلام للمخرج بإحدى القاعات الوطنية بباريس، بـدأ البعض ينتبه لبيليشيان، رغـم أنـه بـقي دائـما في عداد المجهـولين، لأن رؤاه ليست في متناول إدراك الجميع، ولأن سينماه لا تتصف بالنمطية. مثل هؤلاء المبدعين يجدون دوما من يسدّ أمامهم الطرق. 

نعيم بالرحومة : مخرج وناقد تونسي

كامل الدراسة


إعلان