الوثائقي حصن العدسة ضد العولمة

قراءة في فيلم “مصر: حياة في كنف التاريخ ” لبيار برويرس (PierreBrouwers )”

بقلم: أحمد القاسمي – تونس

يشهد الفيلم الوثائقيّ على أيامنا طفرته الكبرى فيختطف من الروائيّ جوائزه في التظاهرات السينمائيّة ويستقل بأخرى  فيستأثر بشاشاتها ويحتكر من عديد الفضائيات حيّزها الزمنيّ كلّه ، أو يجتذب إليه كبار المخرجين  حتى يكاد يصرفهم عن غيره من أنماط السينما مشكّلا جمهوره الخاص ناحتا أفاقا للتقبّل مخصوصة، حتى غدا لاهتمامه بثقافات الشعوب في تنوّعها وتميّزها  ظاهرة فنية مضادة تملأ الفراغ الذي تحدثه عولمة الثقافة وتقاوم نزعتها التنميطيّة التي تجعل من مختلف التعبيرات الثقافيّة تنويعا على الأصل الغربي الأمريكي المهيمن.

بين عولمة الثقافة و حيوية الواقع:

من خصائص العولمة، تلك النزعة التوسّعيّة التي تدفعها إلى اختراق الفضاءات والمجتمعات “فتتعدى الحواجز الجغرافيّة كلّها والحدود التاريخيّة جميعها والخصائص الاجتماعيّة بأسرها، نازعة إلى أن تغمر عامة الكيانات الاجتماعيّة ضمن هويّة واحدة” . ولا تُوحّد المظاهر المختلفة دون عُسف يطمس خصوصيات المحليّ ويلغي فوارقه المميّزة ذلك أنّ “النتيجة الأبرز التي يتسنى لنا أن نسجلها هي التالية: اختفاء (كل الفوارق)، أقلها إقصاؤها إلى هامش خصوصيات المجموعات والأفراد، بحيث يُصبح أدنى مسار ثقافيّ أو أبسط إعلان للاختلاف مبرّرا للتهجين ولأن يعدّ (هذا الاختلاف) شذوذا فيحفظ من ثمة ولا يقاس عليه” .
ومقابل ما يتعرّض له المحلّي من إقصاء وتهميش يتحوّل الوافد إلى قيمة اعتباريّة ونموذج ذي سلطة مهيمنة وسطوة كاسحة تعيق كلّ إمكانيّة للتبادل  وتختزل العلاقة في مهيمن يتولّى عمليّة الابتكار والإنتاج وخاضع يقتصر دوره على استهلاك سلبيّ لا يغيّر من عاداته وتقاليده فحسب وإنما من تصوّره للأشياء ولشكل الإقامة في الوجود. 
يستند جون ماري قيهونو إلى تحليل ماركس المادي لشكل الصراع الطبقي القاضي بـ”ــأن الأفكار التي تهيمن مجتمع إنما هي أفكار طبقته المهيمنة وأفكار هيمنتها”  ليجعل مفهوم الأمركة معادلا لمفهوم العولمة التي ” تعلن الانتصار المستديم لأمريكا وتجعل مسارها في حقيقة الأمر مسار أمركة للعالم بما فيه من معنى توسيع الحلم الأمريكي على مستوى الكرة الأرضيّة بأسرها”  باعتبار أنّ أمريكا تمثّل الطرف المهيمن على العلاقات الدولية.
 ويمثل الإبداع عامّة المجال الأخطر لتجلي سطوة العولمة وشراستها لما تحمل في طيّها من صدام يناهض مفهوم الثقافة وفق التصوّر الأنتربولوجي ذلك الذي يؤمن بتنوع الشعوب من جهة المعارف والمعتقدات والفنون والأخلاق والقوانين والعادات التي يكتسبها الإنسان باعتباره عضواً في المجتمع  بما يفنّد الفوارق بين الشعوب من حيث الطبيعة، ويعتقد أن  حضارة شعب ما ليست سوى مجموع ظواهره الاجتماعية والثقافيّة ذات الصّلة الوثيقة بهويته  الناتجة عن مختلف تفاعلات الفرد المتبادلة مع محيطه الاجتماعي.
 إنّ نزعة العولمة التوسعيّة الموحّدة لمختلف الظواهر قياسا على النموذج المهيمن تحمل في طيّها اتصالا غير متكافئ بين المجتمعات سمته الأساسيّة إقصاء كل مخالف للأصل الاعتباريّ وتهميش الثقافات المحليّة وحرمانها من كلّ مناعة تقاوم أسباب حتفها أو تواجه ما يفرض عليها من اغتراب ثقافيّ .    
يزوّدنا الخوض في صلة العولمة بالإبداع والثقافة بخلفيّة معرفيّة وحضاريّة مهمّة لمقاربة مدى فاعليّة الفنّ السينمائيّ باعتباره إبداعا يبتكر على غير مثال ويكرسّ رؤية خاصّة للعالم تنأى عن النمطيّة والتكرار الذين تفرضهما العولمة حتى تلغي من الآخر ذاتيته وخصوصيته وحتى تجعله امتدادا لقوى الهيمنة فتكشف عن امبرياليّة ثقافيّة توازي التوسع العسكري في الغايات وتختلف عنه في المجال بما أنها تتسرّب إلى الأذهان وتذعنها إلى سلطانها.

كامل المقال


إعلان