الوثائقي في عصر الثقافات الباردة
*تمهيد عن عولمة الصورة والمشهد
ربما تكتسب فكرة الفرنسي ريجيس دوبريه عن آلة السينما التي اخترعها مواطنوه الفرنسيو، وقام الايطاليون بتطويرها لاحقا كلغة قبل أن ينجح الأميركيون في استثمارها تجاريا إلى حد مدهش مغزى ما في هذا المجال ، ونحن نحاول أن نمهد لعولمة الصورة والمشهد ، فقد أتاحت الآلة السينمائية بالفعل أن تقرب المسافات ليس بين ثلاث دول فقط ، فقد شرعت الأبواب واسعا أمام هذا الفن ليطرق أبواب العالم بشيء من الزهو والعنفوان لم يسبق له مثيل ، وأتاحت بشكل أو بآخر الفرص أمام من يريد أن يطأ منحنيات هذه الأرض العذراء القائمة أيضا على لعبة رأس المال أولا وأخيرا أن يقوم بذلك منفردا ، ليس من باب محاولات إرغام الآخر على تقبل الصورة المقترحة عليه . ربما لم يكن الأمر كذلك في البدايات ، فكل المحاولات التي صنعت في مهادها الأولى ، كانت بمثابة إعطاء الفرص لثقافات محلية متكونة تعبر عنها الصورة ، وكان همها الأساسي وشغلها الشاغل كما تبدى الانفتاح من خلال الرموز البصرية والاشهارية على الثقافات الأخرى ، وهذا ما سهل بالفعل الأمور على الشعوب و الدول الأخرى لتستفيد وتعمل على تطوير هذا الفن المنبثق عن هذه الآلة التي حملت الصورة على أكتافها ودارت من بعد ذلك حيثما الأرض تدور .
كانت الفكرة نفسها لا تحتمل نوعا من الانغلاق ، إذ لم يكن ممكنا البتة إبقاؤها في حدود السيطرة ، وهي من سمحت بشكل أو بآخر بالاحتفاء أيضا بالأبعاد الأنثربولوجية والنفسية والاجتماعية للإنسان في مختلف مجاهل الأرض ، فيكفي العودة مثلا إلى الأفلام الوثائقية الأولى االتي صنعت على أيدي معلمين كبار مثل فلاهرتي وجريرسون وفيرتوف وايفانس لنكتشف أنه لولا هذه الآلة لما أمكن الاحتفاظ بشيء من نثار هذا الانسان المعذب ( نانوك رجل الشمال ) . فمنذ اللحظات الأولى التي قرر فيها الانسان المفكر ( سينمائيا ) الالتفات إلى الصورة ، فإنه كان يقصد العمل على خلق نماذج بشرية أمكن الاحتفاظ بها وهي تنتقل إلى مختلف جهات الأرض بنوع من التداخل والتشابك الذي لم يسبق له مثيلا ، فإذا كانت الجامعات ووسائل الاتصال المختلفة سمحت من قبل بتداخل حي ومحدود بين مختلف النماذج والأعراق البشرية ، فإن الصورة السينمائية استطاعت أن تخلط الأوراق البشرية وأن تحفظ لنا أسرارها على الدوام ، ففيلم ( التعصب ) لديفيد غريفت مايزال شاهدا مثلا على شمولية الانسان وعظمته في مواجهة الانغلاق والجشع والتطرف الديني حتى من بعد مرور قرن تقريبا على صناعته ، وهو يشكل مصدرا هائلا لنفس القوة الاشعاعية التي قام العالم عليها لاحقا ، وقراءة متمعنة بالأحداث الكونية التي تشغل عالم اليوم تكشف مدى السبق الذي ذهب إليه مثل هذا الفيلم ، فمايحدث لايتعدى ذلك ” الاضمحلال ” التاريخي الذي يصور العالم قرية صغيرة ترتبط بينها بثوان ، وإن تناهبتها مؤقتا أصوليات من كل نوع ، اذ يمكن اليوم لمشاهدي ( التعصب ) وقد تحول لاحقا إلى محض سيالات ميكانيكية في فضاء واحد لعالم واحد أن يشاهدوه بنفس الوقت وهو مايزال يحتفظ بقيمته الفنية والنفسية والجمالية التي صنع من أجلها عام 1916 وكأنه لم يغادرها البتة ، لأن ماحدث قبل مائة عام هاهو يتكرر على الملأ وبصورة أشد وأعمق ، فوسائل الاتصالات الحديثة قربت الناس من بعضهم البعض وجعلتهم في نفس الوقت يقيمون في معازل لم يكن ممكنا أن تتحقق لولا فرصة عولمة الصورة التي أوصلتهم إليها .
![]() |
*فجر يعقوب : باحث وناقد وكاتب سيناريو مقيم في سوريا